ملخص
يستفيد الناقد كثيراً من هذه المذكرات السينمائية، إذ تزوده قبل فعل المشاهدة أو بعدها، بمعرفة شخصية المخرج، ومنابعه السينمائية وتكوينه الفني ومفاهيمه الجمالية
يعتقد سينمائيون عرب أن فعل الحداثة يبدأ من اللحظة التي يقفون فيها أمام الكاميرا ويواجهون من خلالها فداحة التقليد. يبدو هذا الرأي لمن اختبر السينما وصناعتها ومتخيلها، وكأنه ضرب من الـ"فانتاستيك" (الرائع) الساحر، ذلك أن حداثة السينما مشروع لم يكتمل بعد، كما أن الحداثة نفسها عبارة عن حداثات، ودائماً ما ترهن نفسها بالتجديد ومفهوم "المجاوزة". فإذا عدنا إلى تاريخ الفن السابع في الغرب، سنجد أن العمل على السينما وحده غير كاف ليكون المخرج حداثياً، لذلك نعثر على مجموعة من الممارسات الفنية التي تدخل في صلب عملية الحداثة، كما هي الحال لعدد من المخرجين الذين يشتغلون إلى جانب السينما على رسومات فنية، وإن كان ذلك قليلاً مقارنة مع عملية الكتابة التي تأخذ حيزاً كبيراً في هذه الصناعة، بل إنها تجعل المخرج أو الممثل في صلب عملية حداثة، تنقله من العمل في السينما إلى التفكير فيها وفي صناعتها ومتخيلها.
جماليات الكتابة
تعتبر المذكرات السينمائية من العمليات الفنية التي تغمر الساحة السينمائية الهوليوودية، ذلك أنها تعد عنصراً فنياً مكوناً للصناعة السينمائية، ما دام المخرج يحكي عبرها يومياته مع الكاميرا وأساليب الإخراج وأنماط التصوير وكواليس الكتابة واختيار الممثلين، وذلك بما يجعل هذا اليوميات بمثابة سير حقيقية تقرأ لا على هامش عملية المشاهدة السينيفيلية، وإنما بشكل متواز مع الفيلم. إننا هنا أمام أنماط مختلفة من الإنتاج الفني، الأول متعلق بالكلمة أي الكتابة، بينما الثاني، ينفرد بالوسيط البصري المتعلق بالصورة السينمائية.
قد يبدو غريباً استخدام عبارة "المذكرات السينمائية"، حيث يعتقد كثيرون من القراء أن المذكرات تبقى حكراً على الكتاب والأدباء والسفراء، وذلك لإيمانهم بأن المخرجين ليسوا بحاجة إلى الكتابة، في وقت يمتلكون فيه إحدى أهم الوسائل الفنية شعبية وتأثيراً في العالم. لهذا فإن عملية الكتابة، على رغم مما قد تبدو عليه من هشاشة أمام سلطة الصورة، فإنها تظل ذات ميزة كبيرة بالنسبة للفنانين والمبدعين، إذ تتيح لهم إمكانية تدوين يومياتهم الفنية وهواجسهم السينمائية، إما على شكل مونوغرافيات أو حوارات أو مذكرات.
وغالباً ما تكون هذه الأخيرة عبارة عن كتابة مفتوحة على هواجس الذات وأحلامها. أي إن فعل الكتابة المذكرات، لا يكون مرتبطاً بنظريات فكرية ومفاهيم سينمائية، بقدر ما تسعى الكتابة أن تتمنع وتنأى عن التصنيفات الجاهزة. أي إنها كتابة تخترق حدود العقل وتتجاوز سياجاته، لتزج بنفسها في سراديب الجسد. لذلك، تطالعنا المذكرات وكأنها مكتوبة بنفس حميمي، ينظر إلى السينما على أساس أنها عين ثالثة.
ويفضل عديد من الممثلين والممثلات على كتابة مذكرات فيها عديد من الأسرار المتعلقة بالسياسة والنشأة والجنس والتربية، وذلك من أجل رفع منسوب بيعها وذيوعها وانتشارها لدى القراء في العالم، بل ويتعمد كثير من النجوم على النزوع صوب هذه الكتابة التشويقية، من أجل خلق الجدل الفني، بينما يفضل عديد من المخرجين اللجوء إلى كتابة المذكرات فقط من أجل تسليط الضوء على تجاربهم ورؤاهم وأفكارهم ومواقفهم تجاه السينما وصناعتها. وغالباً ما ترتبط هذه المؤلفات بالمخرج نفسه، إذ يحكي عبرها سيرته السينمائية والدوافع التي قادته إلى اختيار هذا الأسلوب الفني عن غيره.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من التمثيل إلى الكتابة
يعتبر الممثل الأميركي ماثيو ماكونهي من الوجوه الهوليوودية المنغمسة في حبر الكتابة، ذلك أن الرجل على رغم مكانته السينمائية كممثل، فإنه يجد نفسه مضطراً لفعل الكتابة، فقد أصدر في عام 2020 مذكراته "أضواء خضراء" عمل فيها على تدوين من سيرة حياته الشخصية، حيث توقف عند محطات أساسية صنعت منه ما عليه الآن. وقد بدا من العنوان العمق التخيلي الذي يميز هذا الممثل، بحكم دلالات الحرية وتجاوز الحدود واختراق السياجات عند إشارة اللون الأخضر. وعلى رغم من أن الكتاب في مجمله عبارة عن مذكرات، فإن أسلوبه الشيق دفع عدداً من النقاد في العالم إلى اعتبار أن الكتاب يحاول ضمنياً أن يوازي بين جرأة الشكل وحساسية السيرة وفتنة التخيل.
لهذا اعتبر ماكونهي أن كتابه "ليس مذكرات تقليدية أو كتاب نصائح، بل هو دليل يستند إلى المغامرات في حياتي". وأضاف آنذاك من خلال فيديو "منذ أن تعلمت الكتابة، كنت أحتفظ بدفتر مذكرات. أكتب فيه ما يثيرني أو يضحكني أو يبكيني أو يجعلني أتساءل عما يبقيني مستيقظاً في الليل. قبل عامين أتتني الشجاعة لإخراج هذه الكتابات من عزلتها، وانتهيت بتحويلها إلى كتاب".
وبغض النظر عن دوافع تأليفه هذه المذكرات، فإن قيمتها تتأتى من كونها تتيح لكل من لا يعرف الممثل، فهم طبيعة الأشياء التي قد تصنع من المرء نجماً. وعلى رغم من أن السيرة الذاتية نفسها، لا تتضمن دائماً كل الحقائق والوقائع، لا سيما حين يتعلق الأمر بالنجوم، فهم دائماً ما يخفون مشاعرهم وتجاربهم وأسرار نشأتهم الأولى وكيفية وصولهم إلى النجومية، بيد أن هناك من النجوم من يفرط في الحقيقة على مستوى الكتابة، عبر تطعيم الكلام بنوع من الخيال. هكذا يجد القارئ نفسه في بعض مشاهد الحياة أمام كتابة تتجاوز الواقع وتنحو صوب الخيال.
من جهته، يستفيد الناقد كثيراً من هذه المذكرات السينمائية، إذ تزوده قبل فعل المشاهدة أو بعدها، بمعرفة شخصية المخرج، ومنابعه السينمائية وتكوينه الفني ومفاهيمه الجمالية، بما تتيح له من إمكانية اختراق الصورة السينمائية ومتخيلها. وتساعده هذه العملية على فهم المسار الجمالي الذي يمر به الفيلم منذ الكتابة إلى التوزيع، كما تحتوي هذه المذكرات على مجموعة أسرار فنية يستحيل معرفتها أو الحدس بجمالياتها داخل الفيلم. هكذا تكون المذكرات تخفي معلومات مهمة، تساعد الناقد على توسيع مداركه وعلى احتواء بعض من خزانه الفكري من أجل ملامسة ملامح صورته الجمالية، بل إن القبض على سيرة مخرج أو ممثل، لا يستقيم إلا بالاقتراب منه والعمل على محاورته واستنطاقه ومرافقته لحظة الكتابة التصوير، ذلك أن اللغة النقدية لا نتعلمها داخل المؤلفات التاريخية والكتب الفكرية، بل من داخل المختبرات الفنية ومشاغل السينمائيين. إنهم يقدمون للناقد حصانة معرفية تؤهله للخوض في مناقشة مشاهد وتحليل سلم اللقطات وجماليات السيناريو وأداء الممثلين وغيرها.