Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

طارق إمام يقدم رؤية تراجيدية للعالم

"أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها" تخوض عالم التجريب السردي

الفوضى بريشة الرسام بينت (صفحة الرسام - فيسبوك)

يمكن من يتابع إبداعات الكاتب المصري طارق إمام، بما فيها مجموعته القصصية الأحدث "أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها" (دار الشروق-القاهرة)، أن يلاحظ غلبة نزعة التجريب عليها. فهي كتابة لا تحاكي الواقع ولا تخضع لقوانينه، بل تقلب العالَم؛ بحيث تتبادل السماء والأرض موقعيهما، وأن يمشي الإنسان على رأسه، وأن تكون حركته مضادة لحركة الزمن، فيبدأ من الشيخوخة منتهياً بالطفولة. ومع ذلك لا أستطيع وصف هذه الكتابة بالغرائبية؛ لأنها تقتنص "عمق" الواقع؛ لا صورته الظاهرة، وتسعى إلى اكتشاف حقيقته لا ظواهره البادية. فانقلاب الواقع، مثلاً، هو انقلاب "قيمي". هو انقلاب في المعايير، وليس انقلاباً مادياً جغرافياً. وهذا يعني أن انقلاب الصورة ليس أكثر من تمثيل رمزي لتبدلات القيم والحقائق. فلا شك أن قول الكاتب في قصة "خدعة": "ليست في المعجزات خدعة. الخداع الوحيد هو الواقع"، يعد دستوراً كتابياً يقف وراء رؤيته لطبيعة الكتابة. ففي هذه القصة يدرك الساحر شكوك الناس في قدراته، بما أنهم لا يرون فيها إلا مجموعة ألعاب يمكن تفسيرها. ولكي يثبت صدق "معجزاته"، "قرر أن يقف أمام القطار، من دون أن ينحني عند اقترابه، أو ينبطح بين العجلات، ولم يتبخر في مكانه، لم تنشق الأرض وتبتلعه، بل ظل فاتحاً ذراعيه ليعانقه". والغريب، وليس في كل هذه المجموعة غرابة طبقاً لرؤية الكاتب، أن هذا الساحر قد نجا. لكن "الوقت لم يتح لجمهوره كي يصدقه".  

ثنائيات لا تنتهي

يمكن القول إن لعبة "التقابل" التي تزخر بها هذه المجموعة هي القيمة المهيمنة، وهو تقابل غير معهود، فهو لا ينحاز للإبصار ضد العمى مثلاً، بل يقوم بما يغاير هذه الرؤية الشائعة. يقول: "كان الرعب قاتماً كضوء، فيما أدرك أنني يوماً ما سأستيقظ بعينين مفتوحتين". فمن الوارد أن نصف الرعب بالقتامة على سبيل المجاز، لكن الانحراف الدلالي يأتي من تشبيه هذه القتامة بالضوء، وأن يكون الرعب ناتجاً عن إدراكه أنه سيستيقظ "بعينين مفتوحتين"، فقد ولد ضريراً، لكن الظلمة ظلَّت تنسحب من عينيه كلما كبر ويزحف النور، هكذا في آلية غير معهودة. أما لماذا كان النور شراً زاحفاً، فقد أرجعه السارد إلى أنه سيكون مرئياً: "فنحن لا نرى إلا ما يرانا". إنها الرغبة في الوحدة والاختفاء والمرور على الدنيا بعيداً عن الآخرين. والطريف أن تفشل كل المحاولات لإبقاء هذا العمى.

وفي قصة "الكفوف" – ولنلاحظ أنه يضع كفاً مدماة بدلاً من العنوان – تظهر ثنائية الأصل والصورة، فنحن نرى الصورة لكننا لا نستطيع "تحديد نظائرها الحقيقية"، فقد "ذهبت الأصول وبقيت الصورة". فالأكف الحقيقية تستطيع الخداع، تستطيع أن تتعطر بعد أن تغسل آثار جرائمها، بينما تظل الصورة الأولى ملطَّخة بدماء ضحاياها. وإذا كانت هذه الثنائية لا يبدو عليها أثر العجائبي، فإن ثنائية الداخل والخارج في قصة "كلانا ضيف الآخر"، تتبدى بحس عجائبي واضح: "ذات يوم، وأنا في شقتي جرَّبت أن أطرق الباب من الداخل، لدهشتي فتح أحدهم لي من الخارج، وسألني عمن أريد". هنا يختلط الداخل والخارج أو يتماهيان، فهو لا يتعامل مع الخارج – المدينة مثلاً- باعتبارها موازية للبيت بل مقتحمة له: "لقد دخلت المدينة بيتي كثيراً، فيما مرة بعد مرة، أميل بجذعي واقفاً على بابي المفتوح كي أفسح طريقاً لضحاياها". لقد أصبح بيت السارد مأوى لضحايا المدينة. وهذا ملمح جديد على سردية المدينة التي اعتدنا على تناولها كهم ذاتي، غالباً، سواء في الشعر أو الرواية. وفي قصة "كرة أرضية"، يستغل السارد الشبه بين كرة القدم التي قذفها لأطفال الحي، وخريطة الكرة الأرضية التي كانت بحركة من الإصبع تلف حول نفسها فوق مكتبه. يستغل السارد هذا الشبه ليتأمل هذه الأرض، فيرى أنها كروية فقط في الكتب المدرسية، لكنها "في الحقيقة صحراء لا نهائية مستوية". وفي نهاية القصة تتحول كرة القدم إلى معادل موضوعي للكرة الأرضية حيث يظل الأطفال يقتتلون عليها وحين يهدأ كل شيء ويطل السارد من النافذة يراها "تلف وحدها بين قطيع الجثث".

رؤية تراجيدية

من خلال هذه التفصيلة الصغيرة، استطاع طارق إمام أن يعكس رؤيته التراجيدية للعالم، دون تهويل، وكأننا أمام أمور اعتيادية. وفي قصة "هخلي وشك شوارع"، يوظف السارد هذه العبارة التي تستخدم في الشجارات الدموية، توظيفاً عجائبياً. فبعد أن ينهي حامل المطواة مهمته يرفض السارد "تخييط الجراح"؛ أملاً في أن تصدقه الشرطة، أو ليخيف بها أعداء المستقبل. وهكذا ظلت "الشوارع"، وهي كناية عامية عن الجروح الغائرة، تتسع حتى أصبحت "مدينة خالية" تقطعها ملامحه، وفجأة يظهر الناس ويصير وجهه "مأهولاً". وفي قصة "متطابقون"، يفاجأ السارد أن الجميع استيقظوا "ذات يوم، شخصاً واحداً"، وبقي السؤال: "أي وجه ذاك الذي تحوَّلنا جميعاً إليه؟"، وباءت محاولات البحث بالفشل، فمن أدراهم أن الوجه الذي يشبهونه هو الأصل، لماذا لا يكون تقليداً مثلهم. وفي لفتة ذكية يقول: "هذا الكومبارس الصامت، الذي لا يشيخ، كيف تسلل إلى كل الصور والأزمنة، ثم كيف صبغ وجوهنا في يوم واحد بملامحه؟". فهل يعني ذلك أن الجميع قد تحوَّلوا إلى كومبارس، بعد أن فقدوا القدرة على القيام بأي دور في الحياة؟ هذا ما توحي به القصة. وعلى النقيض من هذه، نجده في قصة "الملامح" يقول: "تلك النظرة الذائبة في الغياب كانت يوماً ما حدقة، عندما كانت سلامة العينين شرطاً للأمل". وهكذا يستمر من ملمح لآخر: الأنف، خصلة الشعر، الفم، أو هذه الأشياء القليلة التي كانت كافية لتكون وجهاً. هذا التشظي في الملامح نجده، أيضاً، في قصة "سيرة مغمضة" التي يظهر فيها الواقع مشاهد ممزقة مبتورة، ويتحول الحلم إلى حقيقة حين يستيقظ السارد بجروح ظاهرة من مشاجرات المنام. وهو ما جعل الواقع غير مفهوم، على عكس سيرة السارد الحقيقية التي يعيشها في مناماته، وهو ما دفعه إلى البحث عن كتب تفسير الواقع؛ لا تفسير الأحلام. لكن هذه الكتب لم تمنحه تفسيراً، إذ "لم يعرف ماذا يعني ظهور شجرة مقلوبة في طريقه للعمل أو نعيق غراب تحت سقف البيت أو العثور على جثة شخص في ثلاجته".  

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تعد "ثيمة" الزمن أساسية في هذه المجموعة، وهي دائماً ضد حركة الذات؛ فكلما تقدم الزمن صغر الإنسان. في قصة لا تتجاوز السطرين تظهر هذه العلاقة العكسية: "كانت قدماي تصغران كلما كبرت وأحذيتي تتسع حتى صرت أتجول فيها ولم أعد بحاجة للطريق". لقد أصبحت حركة الذات حركة داخل المكان، بل إن الشيخوخة تبدأ مع الولادة: في قصة "ألعاب الطفولة الخطرة" يصل إلى هذه النتيجة: "كل دماء الحاضر تكوَّنت في ألعاب الطفولة، حضَّانات سحيقة، يخرج منها الأجنة شائخين". على أن هذه الحركة المعاكسة تظهر بوضوح من خلال فعل عجائبي يتمثل في عودة رجل بظهره إلى الوراء، في محاولة للعودة إلى ماضيه، حتى أن أحداً لم يحمله حين ذهب إلى المقبرة، حملوه، فحسب، حين صرخ في المهد. كل شيء لا يبدو على استقامته أو وضعه المألوف في هذه المجوعة كما يظهر في هذين العنوانين "عندما انقلب الناس"، و"عندما انقلب العالم"، يقول في الثانية: "انقلب العالم رأساً على عقب. كان ذلك يعني أننا نمشي على السماء متطلعين للشوارع في الأعلى". إن الكاتب يطلق أقصى طاقات الخيال لا لينأى بنفسه عن الواقع، بل ليصل إلى حقيقته غير المرئية.

لا شك أن الكاتب كان محقاً في استخدام مصطلح "أقاصيص"، بدلاً من "مجموعة قصصية"، لينأى بها عن مفهوم القصة التقليدية. وتجلى ذلك في "القصة الومضة"؛ على غرار "الأبيجراما" الشعرية، كما في قصة "الطريق" وغيرها. كما نجد توظيفاً للحوار، وهو تقنية مسرحية. وأخيراً تبدو أغلب هذه الأقاصيص قريبة من لغة الشعر، ولنتأمل قوله "دائماً لدى عبورك تمد هذه اليد الخطرة: المفتوحة كرجاء ثم المضمومة كقبضة"، حيث تظهر اللغة الشعرية في التكثيف وتشبيه الحسي بالمعنوي والتوتر الذي تتخلَّق منه مادة الشعر.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة