ملخص
"النيفارة" آلة روحية بعض الشيء لانسيابية عزفها وسهولة ملامستها وجدان الموريتاني
لا شيء يكسر رتابة حياة الستيني أسلم زيد سوى دقائق معدودة يقضيها مع آلة "النيفارة" التي لا تفارقه، ليسرق لحظات من الفرح تعوضه مشقة متاعب حياة.
فنان يوشك إرثه الفني على التلاشي لابتعاد الأجيال الشابة عن هذا النوع من الموسيقى الذي شهد عصره الذهبي في أزمنة مضت قبل استقرار جل الموريتانيين في المدن، وهجر معظم سكان الريف مزارعهم وحياتهم الاجتماعية إبان الجفاف الذي ضرب البلاد خلال سبعينيات القرن الماضي، إذ كانت "النيفارة" هي ذاكرة وجعهم وخزان أحزانهم، ينفثون من خلال ثقوبها التي تشبه إلى حد كبير آلة الناي، إيقاع الموسيقى العربية.
وتنبعث نغمات حزينة من "نيفارة" زيد حين ينفخ فيها بأنفاسه ممرراً أصابعه على الفتحات الأربع الموجودة على سطح الآلة الخشبية، حينها يبلغ الشجن أعلى درجاته في نفوس أصدقائه الذين قدموا إلى بيته في ضواحي العاصمة نواكشوط.
خصائص فريدة
تمتاز هذه الآلة الموسيقية الشعبية التي تتبوأ صدارة الآلات التي يُفضلها معظم أهل الريف الموريتاني بخصاص فنية فريدة، إذ إن كل أصبع من أصابع يد العازف تختص بحركة محددة تصاحبها نفخة خاصة لصناعة النغم، ويتطلب ذلك التنسيق المحترف مع الطبال لتوحيد الإيقاع.
ويعتبر المهتم بالتحولات السيسوثقافية في موريتانيا محمد الدده أن "النيفارة" آلة روحية بعض الشيء، لانسيابية عزفها وسهولة ملامستها وجدان الموريتاني.
ويضيف محمد، "سر تمركز النيفارة في القرى والأرياف عائد لكثرة الغطاء النباتي في هذه البيئات من الداخل الموريتاني، كما أن بساطة صناعة الآلة جعلها لصيقة بحياة الراعي الذي يخلو بها في أوقات راحته القصيرة أثناء مرعى قطعانه، ليسرق وقتاً من همه ويبث لواعج نفسه فى آداء موسيقي خاص قلما يشاركه مع الآخر".
صوت الوجع
ارتبطت آلة "النيفارة" بمجتمع "الحراطين" أو "أبناء الرق السابقين" كما يحلو لبعضهم تسميتهم وذلك لارتباطهم بالمزارع والرعي، فقد مثلت لهم هذه الآلة لحن الهرب المريح من وجع الحياة وصعوبة الظروف إلى رحابة الحلم بفجر الحرية والاستغناء من الاعتماد على "الأسياد السابقين"، وتكوين مجتمع مستقل بما تحمله الكلمة من المعاني المختلفة .
ويشرح الشاعر والمهتم بالفنون الشيخ نوح علاقة سكان المناطق الرعوية بآلة "النيفارة" قائلاً "إنها حنين الغصن لأمه الشجرة".
ويضيف نوح حول هذه العلاقة الوجدانية أنها "انتقلت من تسلية شخصية للراعي إلى ممارسة ثقافية عامة عبر ما يسمى بالردح، وهو نمط من الرقص يشكل التجسيد الحركي لشهقات الناي، وكأنه كناية عن الزوبعة التي تسكن عازف النيفارة في محاولته للخروج من الزمن الفلكي الصعب إلى الزمن النفسي العظيم، إنها بهذا المعنى ككل فن هرب من الواقع أو تجميله".
وظلت تجمعات هذه الطبقات الهشة من الموريتانيين تحاول صناعة لون موسيقي يضاهي الألوان الموسيقية التقليدية عند الأسياد السابقين، فكانت "النيفارة" أصدق تعبير عن الحلم والوجع، ولقد رافقتهم لأزمنة طويلة وحتى ميلاد الدولة المركزية مطلع الستينيات.
تراجع الاهتمام
وتراجع الاهتمام بآلة "النيفارة" منذ استقلال البلاد وخصوصاً منذ سبعينيات القرن الماضي، ويعتبر محمد الدده المهتم بتحولات الأنماط السيسوثقافية في موريتانيا أنه "بعد موجة الجفاف التي عرفتها البلاد وفرضت على المجتمع التقليدي الدخول إلى المدن الكبرى وترك حياة الرعي، بقيت ’النيفارة‘ محصورة في مناطق قليلة في الجنوب والشرق أو في مناسبات ثقافية واجتماعية محدودة، إلا أن مكانتها وحنين الموريتانيين لها ظل كما هو لم يتغير".
ويلاحظ أسلم زيد عازف "النيفارة" وأحد سلاطين هذا النمط الموسيقي اليوم في موريتانيا أن "أعداد العازفين المحترفين لهذه الآلة في تراجع كبير، بفعل انقطاع التعلم بين الأجيال وعزوف الشباب عن أخذ الصنعة من الماهرين في العزف عليها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صناعة شجن
وعن صناعة هذه الآلة التي تصارع البقاء في سلم الأنماط الموسيقية الحية يقول أسلم زيد في حديثه "يتم أولاً اختيار ساق الآلة من عروق شجرة الطلح، إذ من الأفضل قطع عرق متوسط من هذه الشجرة، وكان بعضهم يقوم بصناعة ’الزوزاية‘ وهي آلة نفخ موسيقية قديمة من الشجرة نفسها، فهما تختلفان لأن ’النيفارة‘ تغلق جميع فتحاتها تقريباً باستثناء متنفس يكون في الأعلى، إضافة إلى الفتحات المخصصة للأصابع الأربعة".
ويضيف أسلم "في القرية التي أنتمي حيث تعلمت صناعة وعزف النيفارة، لا يوجد جمهور كبير لها، لكن أهالي القرية في الآونة الأخيرة بدأوا فى إدخال النيفارة في فنونهم الموسيقية".
وتنتشر ثقافة "النيفارة" في منطقة الشرق الموريتاني حيث يولونها اهتماماً كبيراً خصوصاً في مناطق باركيول وأهل بومديد.
وبحسب أسلم فقد دخلت "النيفارة" منذ أعوام قليلة إلى ولاية لبراكنه في الوسط الموريتاني، التي كان تستخدم فيها آلة "الزوزاية" إلا أن أحد فناني الولاية وأحد أمهر عازفي آلة "النيفارة" الذي ارتبط اسمه بهذه الآلة، قام بإدخال عزفها في موسيقى المنطقة وأقبل الناس عليها، ويعزف محمد بـ"النيفارة" فى أربعة مقامات موسيقية محلية.
ويؤكد محمد "أن ’النيفارة‘ لم تكن معهودة للمديح، لكن بالنسبة إليّ تيسر استخدامها في هذا المجال، وأصبحت أهوى استخدامها في المدح، وهي آلة من التراث الموريتاني".