ملخص
حياد ضمائر اللغة... امتناع عربي وتحديث إنجليزي
من أكثر "إفيهات" العالم العربي انتشاراً وفهماً عابراً للحدود العربية من دون الحاجة إلى شرح سبب الضحك وتفسير عوامل السخرية السؤال الذي ظلت تردده الفنانة الراحلة ماري منيب على الفنان الراحل عادل خيري في مسرحية "إلا خمسة" (1963) "عبده! إنتي جاية إشتغلي إيه؟" (ما العمل الذي ستقومين به؟) ويتحول ضحك الجمهور في المسرح والبيت إلى هستيريا حين يرد خيري "سواقة، جاي أشتغل سواقة"، مضيفاً التاء المربوطة للتأنيث إمعاناً في تفجير مزيد من الضحك.
السبب الرئيس لهستيريا الضحك هو لغة الخطاب المؤنثة التي تخاطب بها ماري منيب عادل خيري، فلولا أن منيب كانت تقوم بدور سيدة مسنة من أصول غير عربية، لاعتبر حديثها للرجل بصيغة المرأة سبة وإهانة وتحقيراً لرجولته.
إهانة الرجل بالتأنيث
الطريف أن مخاطبة الأنثى بصيغة المذكر عادة ما يعتبر نوعاً من الإجلال لها والاحترام لمكانتها لدرجة مخاطبتها وكأنها رجل، أما العكس، فيراوح ما بين العيب الشديد والإهانة غير المقبولة.
حين قبل البائع في السوبرماركت اعتذار أهل الصغيرة التي خاطبته بصيغة الأنثى أثبت للجميع سعة الصدر وتفهم الموقف، فالصغيرة لم يتعدَّ عمرها ثلاث سنوات، ولا تقصد بكل تأكيد هذه "الإهانة".
أما الإهانة المقصودة، فكانت تتبع في القرى في الماضي حين يرتكب أحدهم خطأً أو تجاوزاً أو تعدياً، فإن أسوأ أنواع العقوبات المجتمعية وأكثرها إذلالاً ومهانة له كانت إرغامه على ارتداء جلباباً نسائياً مع "طرحة" وإجباره على أن يجول في أنحاء القرية لتتسع دائرة المهانة قدر المستطاع.
كان هذا في ما مضى، أما في ما حضر، فما زالت عبارة "الأفضل لهم أو لنا (بحسب السياق) أن نرتدي طرح (جمع طرحة) للدلالة على الضعف والوهن وانعدام القدرة على اتخاذ قرار أو استعادة حق، حتى كاد المتهاونون الذكور أن يكونوا نساء.
استرجل! أتبكي كالنساء؟!
يبكي الصبي أو الرجل، فيقال له بلوم "استرجل! أتبكي كالنساء؟!"، يخرج أحدهم بفكرة إعلان "رائعة" عن بسكويت قادر على درء الجوع القادر على تحويل الذكر الصنديد الغطريف المغوار إلى كائن رعديد أشبه ما يكون بالأنثى، ويتمكن الغيظ والغضب من أحدهم تجاه "سيد" أو "فتحي" أو "علاء"، فيشير إليه في الأحاديث باعتباره "سلوى" أو "منى" أو "ميرفت"، وأمثلة إهانة المذكر وإذلاله عبر تشبيهه أو مقارنته أو مخاطبته بالصيغة اللغوية المؤنثة كثيرة ومعتادة.
المعتاد والمعروف والمتوقع في اللغة العربية التفرقة بين المذكر والمؤنث، وهناك قواعد محددة لتمييز كليهما عن الآخر، لكن حين يصل أو يصيح أو يسافر 30 امرأة ورجلاً، فهم يصلون ويصيحون ويسافرون! هم جمع مذكر سالم، حتى درجة "البيزنيس" في السفر بالطائرات، فالأصل فيها أنها "درجة رجال الأعمال" وربما زوجاتهم، أما سيدات الأعمال، فلا ذكر لهن، أو تفضيل أو تخصيص في مقاعد السفر، في الأقل بحسب التصنيفات واللافتات المعلنة والمعمول بها.
لماذا فضلت اللغة المذكر؟
أسئلة كثيرة بعضها استفهامي يطرحها مهتمون بأمور اللغة العربية والجنس أو النوع حول "هل هناك أفضلية للذكر على الأنثى في اللغة؟"، والبعض الآخر استفساري فـ"لماذا فضلت اللغة الذكر على الأنثى؟".
وسواء جاءت الأسئلة استفهامية أو استفسارية أو حتى استنكارية، فإنها حين تتعلق باللغة العربية، تأخذ المسألة أبعاداً ثقافية، وفي أقوال أخرى دينية، تحديداً إسلامية.
"لماذا يفضل الرجل على المرأة ويعطيه المجتمع واللغة مكانة أعلى منها؟"، طرحه سائل على أحد المواقع الإسلامية ذائعة الصيت، وجاءت الإجابة أبعد ما تكون من نفي التفضيل أو ترتيب المكانتين بين أعلى وأدنى، وكان مما جاء "الإقرار بالإسلام هو الاستسلام المطلق لأحكامه" وأن "هناك سببين لتفضيل الرجل على المرأة، أولهما وهبي والثاني كسبي، فقد جعل الله الأنبياء والخلفاء والسلاطين والحكام والغزاة من الرجال لا النساء، وما شرعه من كمال عباداتهم بأدئهم لها في جميع الأوقات، وجعل الطلاق في أيديهم، وذلك مما فضل الله به جنس الرجال على النساء في الجملة".
وأضاف المجيب أن "السبب الثاني هو ما ينفقه الرجل على المرأة وما يدفعه لها من مهر، وما يتكلفه من نفقة في الجهاد، وما يلزمه في العقل والدية، وبما خصهم الله به من العقل والرزانة والصبر والجلد الذي ليس للنساء مثله".
ومن النساء في العالم العربي من يرين في نفسهن العقل والرزانة والصبر والجلد الذي يتمتع به الرجال، ومنهن من يرين أنهن يفُقن الرجال في ما سبق، ومنهن من يسلّمن بما يقال لهن.
لكن ما يقال في مجتمعات أخرى بلغاتها المختلفة وثقافاتها المتعددة لا يعتنق نهج التفضيل بالضرورة، وإن فعل، فكثيراً ما يقابل بالرفض والتنديد والمطالبة بالتغيير والتصحيح.
عصر حياد الضمائر
وتظل اللغة هي الباب الملكي للعبور نحو التفرقة بين الجنسين من باب الفروق الطبيعية، أو التفسيرات الدينية أو الانتماءات الكلاسيكية، أو المساواة التامة التي يصل بعضها إلى القضاء التام على أية ملامح للفروق تحت مسميات مختلفة أبرزها المطالب النسوية التي يعتبرها بعضهم راديكالية أو متطرفة، وموجة الحياد الجنساني التي أدت إلى "عصر حياد الضمائر" أو "الضمائر المحايدة".
ينسب بعضهم فعل، وفي أقوال أخرى فضل، وفي ثالثة مصيبة تحييد الضمائر إلى الحركة النسوية، لكن النسوية ليست حركة واحدة، ولا تمثل توجهاً وحيداً لا مجال للاختلاف والتنوع فيه، وبين الجمعيات والمنظمات والحركات النسوية ما أسهم في تفعيل وتشجيع وترويج مفاهيم مثل الحياد الجنساني والضمائر المحايدة، ومنها ما اعترض عليها، ومنها كذلك ما اعتبرها خطوة مهمة لكن غير كافية لضمان المساواة التامة والعدالة بين الجنسين (سابقاً) الأنواع (حالياً).
ويفترض أن تكون منظومة أو موجة أو ثقافة أو صرعة الحياد الجنساني وحياد الضمائر (بمعناها النحوي) في عدد من الدول الغربية وعدد محدود من الدول غير الغربية، والتي تهدف إلى "احترام" ضمائر الأشخاص بطريقة لا تفترض أو تتوقع أو تفرض عليهم جنساً أو نوعاً بعينه هي نتاج تطور المفهوم الحقوقي.
وبعد ما كان بعض النساء يتضررن من السؤال إن كن متزوجات أو غير متزوجات لتحديد الصفة في الخطاب "سيدة" أو "آنسة" باعتباره تطفلاً، أصبح الحديث إلى أحدهم باعتباره ذكراً أو أنثى اعتماداً على المظهر تطفلاً واختراقاً للخصوصية وفرضاً لصورة ذهنية.
تعديل اللغة
جهود عدة تبذل لتعديل اللغة باعتبارها المدخل نحو الثقافة والعادات، وذلك عبر الإعلام والسينما والجامعات والمدارس وغيرها في دول عدة لنشر ثقافة الضمائر الحيادية، بحيث لا وجود لرجل وامرأة بالضرورة، أو في الأقل عدم فرض أو افتراض أن يكون شخص ما رجلاً أو امرأة، وسؤاله أو سؤالها أولاً عن الضمائر التي يفضلها أو تفضلها.
"دليل الضمائر" الصادر عن مجتمع الميم أو "إل جي بي تي" (مجتمع المثليات والمثليين ومزدوجي التوجه الجنسي والمتحولين جنسياً) في معهد ماساتشوستس للتتكنولوجيا في الولايات المتحدة الأميركية مثلاً يشير إلى أن "الشمول والحيادية في النوع لا يقتصران فقط على مراعاة الضمائر المستخدمة في الحديث معهم أو الإشارة إليهم، ولكن في وصف وظائفهم ومناصبهم وعلاقاتهم بطريقة لا تفترض جنسهم"، وينصح الدليل بأنه عند الإشارة إلى شخص جنسه غير معروف، أو إلى مجموعة من الأشخاص من جنس مختلط أو ما شابه، فإنه يفضل استخدام الضمائر ولغة الخطاب المحايدة.
"نحن" و"هم"
أبرز الضمائر المحايدة ضمن جهود درء الخطوط الفاصلة والصور الذهنية المتعارف عليها لكل من الرجل والمرأة هي الضمائر الدالة على الجمع مثل "نحن" و"هم" أي ( We& they) وكلاهما في الإنجليزية لا يعني جنساً بعينه.
ويشار إلى أن عدداً من معاجم اللغة الإنجليزية العريقة ووكالات الأنباء والمنصات الإعلامية الغربية أدمج أو أضاف استخدام ضمير الجمع للإشارة إلى المفرد "ضماناً للحياد واحتراماً لأصحاب الميول المختلفة وتأكيداً على جهود محو الخطوط الفاصلة بين المؤنث والمذكر".
هذه الجهود الهادفة على ما يبدو إلى محو الخطوط الفاصلة بين ما هو مؤنث وما هو مذكر، أو حتى محو الصور الذهنية عن الرجل والمرأة عبر تعديلات اللغة وتقديمها ونشرها والترويج لها باعتبارها خطوة إلى الأمام على الصعيد الحقوقي لا تتوقف عند حدود جماعات أو جامعات أو مؤسسات أو أفراد، لكن جهوداً أممية ودولية تبذل كذلك لـ "ضمان الصوابية وتعظيم المساواة".
على سبيل المثال لا الحصر، أعاد البرلمان الأوروبي إصدار دليله عن "لغة الحياد الجنساني" المستخدمة في أروقته عام 2018 لتحديث الدليل الصادر في 2008 والذي يفاخر بكونه من أوائل المنظمات الدولية التي تعتمد مبادئ توجيهية للغة حياد جنسانية بلغات مختلفة.
أكثر من صوابية
ويرى البرلمان الأوروبي، بحسب ما ورد في الدليل، أن اللغة المحايدة جنسانياً هي أكثر من مجرد مسألة صوابية سياسية، "فاللغة تعكس وتؤثر بقوة في المواقف والسلوك والتصورات، ومن أجل معاملة الجميع على قدم المساواة، بذلت جهود عدة منذ الثمانينيات للخروج بمقترحات حول لغة محايدة أو عادلة جنسانياً أو غير متحيزة جنسياً، فلا يتم تمييز أي جنس أو التحيز لأحد الأجناس على حساب الأخرى".
ويعرف البرلمان الأوروبي اللغة المحايدة جنسانياً بأنها "الكلمات غير المتحيزة جنسياً، والعادلة بين الجميع، الغرض منها تجنب استخدام الكلمات التي تعكس تحيزاً، أو يمكن تفسيرها بأنها متحيزة أو تمييزية أو مهينة، مع تقليل القوالب النمطية بين الجنسين وتعزيز التغيير الاجتماعي، مما يسهم في تحقيق المساواة".
تحقيق المساواة عبر تحييد اللغة أمر ليس جديداً في أجزاء من العالم، لكن أجزاء أخرى من الكوكب نفسه تعتبر هذا التحييد وغيره من الجهود المشابهة إما مؤامرة لهدم المجتمعات الرافضة لمحو الخطوط الفاصلة، أو مخططاً يدبر لهدم الذكور وتمكين الإناث، أو حملة مشبوهة للعمل ضد الأديان والطبيعة هدفها فناء الجنس البشري.
فهم "المؤامرة"
قليلة هي الجهود التي يتم بذلها عربياً لفهم العالم بعيداً من مفاهيم المؤامرة، فإضافة إلى أن أي انتقاد يوجه لقواعد النحو أو اللغة العربية بصورة عامة، عادة يتم التعامل معه باعتباره انتقاداً للقرآن الكريم، فإن الغالبية المطلقة من "ردود الفعل" العربية على منظومة الحياد الجنساني ومحو الخطوط اللغوية (في الأقل) الفاصلة أو المحددة للأفراد بناء على جنس معين تكتفي إما بسلاح الخروج على الدين التخويفي أو بأداة هدم الهوية الترويعي، وكلاهما يؤتي ثماره.
تنكيل واغتيال
ثمار من نوع آخر تطرح في بساتين تكاد تكون مرئية، وإن شوهدت، استهدفت وحوربت وتعرضت لتوليفة من التنكيل النفسي والاغتيال المعنوي، وتحت عنوان "من كتب النحو إلى الشتائم الجنسية: كيف تنحاز اللغة العربية ضد المرأة؟" (2021) تطرقت الكاتبة آية عبدالرحمن إلى إشكالية اعتبرتها "انحيازاً" في اللغة العربية ضد كل ما هو مؤنث، فبدأت بنفي صفة العنصرية عن اللات، وكذلك الحياد، و"اللغات ليست عنصرية أو محايدة في ذاتها، بل هي انعكاس لتصورات المجتمع عن نفسه".
ولا ترى الكاتبة في نون النسوة إلا فخاً للتمييز والإقصاء اللغوي، تقول إنها حين تكتب عبارة مثل "رجالاً كانوا أو نساءً"، تكتبها بهذا الترتيب، الرجال أولاً ثم النساء، ولو كتبت بالعكس، لأطلق العقل إشارة تنبيه بأن شيئاً ما خطأ.
تقول عبدالرحمن "تحمل اللغة العربية سمات ذكورية أخرى، مثل جمع غير العاقل الذي يؤول دائماً إلى المؤنث، ومثل المسميات الوظيفية مثل وزير وقاضٍ ونائب والتي تستعمل بصيغة المذكر حتى إن تولت المنصب أنثى".
وتضيف أن "التمييز لمصلحة الرجل يتكرر في صيغة الجمع أيضاً، فجمع المذكر "أنتم افعلوا" يشمل الجنسين، أما النساء فيذكرن كاستثناء، تحاصرهن اللغة بضمير المؤنث وبنون النسوة".
لغة وموروث ودين
وتربط الكاتبة بين اللغة وكل من الموروثات الثقافية والدينية وجميعها في رأيها تعتبر الرجل أعلى منزلة من المرأة، و"اللغة العربية رسَّخت بقواعدها فكرة أن الرجل الواحد بألف امرأة، والموروثات الثقافية شيء مخيف في تأثيره، وتحمل لغتنا اليومية كثيراً من العبارات المنحازة ضد المرأة، مثل الشتائم والأمثال الشعبية، وتقدم أيضاً طريقة تفكير شديدة العنصرية في كلمات معسولة".
عبدالرحمن ترى أن "اللغة اليومية تضع المرأة في منزلة أدنى، وتجعلها معياراً للصفات السلبية، و"نسمع يومياً عبارة "عامل زي النسوان" (مثل النساء) ثم تكتمل الجملة بأي صفة سيئة، مثل الكيد والنكد والضعف، ونرى أحكاماً مجتمعية على أي كلام فارغ بأنه "حكي نسوان" أو قيادة متهورة بأنها "سواقة نسوان".
الدعوة التي تطلقها عبدالرحمن ليست توحيد الضمائر، أو محو الخطوط الفاصلة بين المذكر والمؤنث، وبالطبع الاعتراف أو الإشارة أو التلميح إلى مسائل تتعلق بالنوع والأطياف التي يرى بعضهم أنها تندرج تحته، بل تدعو إلى "التأسيس للغة ألطف وأكثر إنسانية واتساعاً للجميع" مع "فتح الطريق لأجيال تستوعب أن المرأة شريكة أساسية في الحياة".
نؤسس للغة ألطف وأكثر إنسانية واتساعاً للجميع، ونفتح الطريق لأجيال تستوعب أن المرأة شريكة أساسية في الحياة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فشل "هيمير"
الحياة قبل 112 عاماً شهدت محاولة من إيلا فلاغ يونغ، وهي أول سيدة تعين في منصب مديرة مدرسة ورئيسة جمعية التعليم الوطني في الولايات المتحدة الأميركية، للخروج بـ "ضمير مريح"، وقالت في حينها، بحسب صحيفة "شيكاغو تريبيون" ببساطة، قمنا بحل مشكلة كانت ستحدث بصورة أو بأخرى، فاللغة الإنجليزية كانت في حاجة إلى ضمير شخصي للغائب المفرد يشير إلى الجنسين، ويزيل الحرج الحالي في الكلام"، وبدلاً من "هو" و"هي" وتصريفاتهما بالإنجليزية (She he her his) اقترحت يونغ أن تتبنى المدرسة ضمائر تمزج بين الاثنين مثل "هيمير"! ضمائر يونغ أدت إلى صدمة في المجتمع وعناوين صحافية مندهشة (Similar early efforts on neutrality caused a dustup in).
وسبقت "هيمير" ومشتقاتها، هذه المحاولات المضنية في عالم الضمائر الإنجليزية، جهود في قرون سابقة، لكن غالبيتها تكللت إما بالفشل أو الرفض أو التجاهل، إلى أن تبنى الغرب مفهوم "الحياد الجنساني" والعمل على محو الخطوط "الطبيعية" أو "الذهنية" أو"المجتمعية" التي تفرق بين الجنسين، تارة بضغط من تيارات نسوية راديكالية، وأخرى بإصرار من جماعات حقوقية، وثالثة ببزوغ فجر الانتماءات الجنسية المتعددة وتبني دعمها والعمل على حمايتها أو نشرها أو كليهما، وذلك من بوابة اللغة، تحديداً الضمائر.
تبقى الضمائر معلقة بين "وصمة" الانتماءات الجنسية غير المنقسمة إلى ذكر وأنثى، و"سبة" الخروج على الأديان والأعراف والعادات والأخلاق، و"إغراق" غربي جارف نحو محو الخطوط اللغوية الفاصلة بين المذكر والمؤنث، و"مقاومة" الشرق وبعضهم في الغرب لجهود الطمس تلك ولو كانت المقاومة على حساب تحديثات اللغة بصورة عامة.
معجم إملائي
قبل أربعة أشهر، أعلن مجلس اللغة الدنماركي أنه سيدشن معجماً إملائياً جديداً خالياً من التذكير والتأنيث، فقط "أشخاص"، أما الغرض فهو ضمان المساواة اللغوية بين الجميع، وليس النساء والرجال فقط!
وبحسب تقارير صحافية، قالت الباحثة في مجلس اللغة الدنماركي مارغريت هايدمان إن أحدث طبعة للمعجم صدرت قبل 12 عاماً، وإن عدداً من التغيرات والتطورات حدثت خلال هذه السنوات، مما استوجب واستحق تعديلات في القاموس لـ "يعكس اللغة المشتركة أي المكتوبة والمتداولة في الحياة اليومية".
وفي القاموس الجديد، ستستخدم كلمة "شخص" وليس "رجلاً" أو "امرأة"، لماذا؟، "لأن من الأفضل التحدث عن الأشخاص من دون الإشارة إلى الجنس سواء كان رجلاً أو امرأة"، بحسب هايدمان.
يكاد سيبويه يتقلب في قبره فزعاً أو غضباً أو رفضاً أو كل ما سبق لما يجري في عوالم اللغة، والجهود الحثيثة المبذولة غرباً لمحو وطمس الخطوط الفاصلة بين "الجنسين".
بصيرة ثاقبة
وتقول المراجع والكتب والمناهج العربية أن سيبويه كان ثاقب البصيرة حين كتب "أعلم أن المذكر أخفّ عليهم من المؤنث لأن المذكر أول، وهو أشد تمكناً، وإنما يخرج التأنيث من التذكير، ألا ترى أن ’الشيء" يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أو أنثى، والشيء ذكر".
ويقول سيبويه أيضاً الذي ما زالت قواعده وشروحه وحججه معمولاً بها "الأشياء كلها أصلها التذكير، ثم تختص بعد ذلك، فكل مؤنث شيء، والشيء يذكر فالتذكير أول، وهو أشد تمكناً، كما أن النكرة هي أشد تمكناً من المعرفة لأن الأشياء إنما تكون نكرة ثم تعرف".
غاية القول، تظل "الضمائر المحايدة" وغيرها من التحديثات اللغوية لمحو الخطوط بين الجنسين، جهوداً ضاربة يبذلها الغرب لتخدم ثقافة وأفكاراً وحقوقاً تبناها، كما تظل مادة مثيرة للقراءة والاطلاع، وما ينجم عنهما من غالبية تسخر أو ترفض أو تندد، وأقلية تنقسم بين من يتمنى لو سارت الثقافات غير الغربية على النهج نفسه، ومن يأمل في رفع راية "خير الأمور الوسط"، وليكن اعتبار المؤنث واحداً كاملاً غاية.