ملخص
جواز السفر السوري يتذيل قائمة الجوازات عالمياً لكن الإقبال عليه مهول وبات بالنسبة إلى السوريين "معادلة للنجاة"
تذيلت سوريا المؤشر العالمي لقوة جواز السفر متفوقة على العراق فقط من أصل 199 دولة ذكرها مؤشر "Henley Passport" مستنداً إلى بيانات من الاتحاد الدولي للنقل الجوي (IATA)، وهو مؤشر دولي معتمد في سياق نظم البيانات، موضحاً أن جواز السفر السوري يتيح لصاحبه الدخول إلى 30 بلداً حول العالم فقط، وهذا الرقم يعد أكثر من متدن في عالم التنقل الجوي والبري والبحري على قاعدة حرمان حامل هذا الجواز من دخول 169 بلداً آخر حول العالم.
منصة "passportindex" جهة أخرى معتمدة دولياً لناحية الإحصاء في السياق ذاته توقعت أن يكون عام 2024 أسوأ على السوريين وجوازات سفرهم لينقلهم إلى المرتبة الأخيرة عالمياً مقلصاً عدد الدول التي يسمح لهم بالدخول إليها.
مفارقة
يبدو من المفارقة أنه مع تدني قيمة جواز السفر السوري، هناك سباق محموم لا يتوقف ليحصل السوريون على جوازات سفر يدفعون لأجلها ملايين الليرات متندرين في ما بينهم ومتسائلين: "هل نصل إلى مرحلة لا نتمكن فيها من السفر من محافظة إلى أخرى داخل بلدنا بجواز سفرنا؟".
وبكل ما يحمله هذا السؤال من كوميديا سوداء لكنه يبدو اليوم أقرب لحقيقة فرضتها ظروف الأمر الواقع نفسه، فسوريا المقسمة حالياً على بعضها حتى بجواز سفر لا يسمح لمواطن بالتنقل داخلها بحرية، فكيف لمواطن من حمص أن يزور إدلب والعكس، ولعل هذا السبب هو الذي دفع السوريين للإقبال على استصدار جوازات سفر تنقلهم نحو بلدان لا حروب فيها ولا بنادق ولا طوابير على المعونات.
"محلولة"
قد يكون الحديث عن معاناة السوري في استصدار جواز سفر أو تجديده معروفاً، فالأمر مر بمراحل متشعبة أقساها كانت تلك التي تسمح له بامتلاك جواز بعد الحجز عليه بعامين أو ثلاثة، لكن هذه الصعوبة أيضاً اتخذت شكلاً تجارياً، ففي سوريا دائماً هناك حلول للأمور المستعصية، حلول خبرها ويعرفها السوريون جيداً، فطالما أن الفساد مكون أصيل من حياتهم، فذلك يترك باباً موارباً على الدوام للتحرك وفق منطق "محلولة".
عملية استصدار الجواز "المعجزة" انخرطت برمتها وصارت جزءاً من سوق سوداء لها أسرارها وشروطها وما يدور فيها من نصب واحتيال وسرقة وابتزاز، لكن من صنع تلك السوق بلصوصها؟
ناصر ريحاني شاب يعمل في مجال الترجمة نجح العام الماضي بعد أكثر من أسبوعين من تجريب التسجيل على المنصة بالوصول لأحد الأشخاص المتمكنين من الولوج إليها واقتصر دور الوسيط بتسجيل بيانات ناصر لقاء 100 دولار أميركي، ويتابع ناصر: "ليست القصة أنني تجاوزت الأمر ورفعت رأسي بين أقراني وسجلت دوراً وحصلت على رقم، بل المفاجأة أن دوري جاء في عام 2025، قرأت الرقم مرة ومرتين و10 وأرسلته لصديقي، لأنه لا يعقل أن أستغرق ثلاث سنوات لأحصل على جواز سفر، أنا أريد السفر اليوم قبل غد".
ويضيف، "لاحقاً أجريت تعديلات شملت تقصير المدد الزمنية نسبياً، لكن الفكرة أنه مجرد جواز من عدة أوراق، هل يحتاج كل هذه الخوارزمية المعقدة لإصداره؟ لكن اتضح الأمر لاحقاً، صار الجميع يعرف، القصة صارت هكذا لتصدر قرارات تحدد سعره بأرقام مرتفعة فيكون مدخولاً جديداً من غير وجه حق لأصحاب القرار".
حين يقف الجواز في وجه الحلم
كل ذلك فتح أبواب الفساد في هذا القطاع، وفتح معه باب أرزاق جديدة لأناس جدد، وباب خسارة جديدة لحالمين بالسفر أو مضطرين إليه. فكم من سوري خسر فرصة عمل وموعد سفر بسبب جواز سفره.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بعد جهد جهيد متزامن مع محاولة الحصول على جواز سفر تمكن مهندس البترول براء صوفاني من الحصول على فرصة عمل في القطاع النفطي بالعراق، أتم مع الجهة المشغلة اتفاق بنود التشغيل واصفاً العقد بالحلم، الشركة وافقت على منحه ثلاثة أشهر لإصدار جواز سفر، قبل أن يكتشف أن تلك المدة قد لا تكون كافية لمجرد حجز دور.
يقول "استصدرت الجواز الحمد لله لكن بعد انقطاع الأشهر الثلاثة بكثير، وليس لأن الدور جاء سريعاً، بل لأن أحداً استطاع حصوله لي بطريقة لا أعلمها مقابل 650 دولاراً أميركياً، وبعد ستة أشهر من حجز الدور، ضاع العقد وضاع مستقبلي وها أنا في سوريا اليوم أعمل موظفاً في معمل يعطيني 25 دولاراً راتباً شهرياً". يضحك ويقول "لا فرق، الشركة في العراق كانت ستعطيني 3500 دولار أميركي شهرياً".
شبكات مشبوهة
باتت الشبكات المشبوهة في السوق السوداء لاستصدار جواز السفر السوري تعمل بشكل علني، وينشر أفراد منها عروضهم بوفرة على شبكات التواصل الاجتماعي من دون أن يدري أحد كيف يتمكنون من تسريع الدور واستصدار الجواز، ووصلت كلفة إصدار الجواز خلال عام 2023 إلى نحو خمسة ملايين ليرة سورية، ما يعادل (300 إلى 600 دولار أميركي)، قبل أن ينحسر نشاطهم من دون أن يعرف السوريون حتى اليوم من هم وكيف كانوا يفعلون ذلك.
إضافة لكل ذلك يعاني السوريون في الخارج من معضلة تجديد جواز السفر في معظم قنصليات سوريا في الخارج، والتي أوقفت موقتاً التجديد. "اندبندنت عربية" تواصلت مع سيدة في فرنسا تحاول منذ أشهر من دون أن تتمكن من تجديد جواز سفرها علماً أنها تملك إقامة في إحدى دول الخليج أيضاً.
في سوريا أكدت إدارة "الهجرة والجوازات" توقف التجديد خارجياً، وأن الطريقة الوحيدة للتجديد حالياً هي مجيء الشخص نفسه وهو أمر يبدو مستحيلاً غالباً لأسباب مالية أو مهنية أو أمنية أحياناً، ليكون هناك حل آخر أكثر يسراً وهو أن يتولى تجديد الجواز شخص من أقارب صاحب الجواز الأساس، فإن كان قريباً من الدرجة الأولى يكفي دفتر العائلة، وإن كان من الدرجة الثانية أو الثالثة أو الرابعة فعليه إحضار ما يعرف ببيان القيد العائلي وهو أوراق تصدر من دوائر الأحوال المدنية (النفوس) وتثبت صلة قرابة الأشخاص في ما بينهم.
وعلى كل الأحوال وأياً يكن من سيجدد الجواز طالما أن الشخص خارج البلد فستكون الكلفة 800 دولار أميركي وما يتبعها من رشى مفترضة لسرعة إنجاز الأوراق وفق لغط قانوني لا يوجد له تفسير يمنع ويجرم على السوريين التعامل بالدولار لكن عليهم الحصول عليه لدفعه مقابل الجواز بدلاً من أن يكون الدفع بالعملة المحلية كما يفترض.
حلول من جيوب الناس
وفي عز أزمة الجوازات مطلع العام الحالي وبعد سنين عجاف خرجت السلطات لتبشر مواطنيها أنه صار هناك ثلاثة أنواع لجواز السفر وهي: (بطيء، مستعجل، فوري)، ذلك التبشير حمل قسوة مادية نسبية على السوريين، لكنه أزاح السوق السوداء إلى جانب بعيد، وهذا مبرر انحسار نشاطها، إذ حلت الأسعار الجديدة مكانها.
السلطات حددت أسعار البطيء ويسمى بالعادي بـ300 ألف ليرة سورية (20 دولاراً أميركياً)، المستعجل 432 ألف ليرة سورية (نحو 30 دولاراً أميركياً)، الفوري مليوني ليرة سورية (134 دولاراً أميركياً). وتعتبر هذه الأسعار الجديدة، التي صدرت مع مطلع العام الحالي مضاعفة عن أسعارها في عام 2023 وهو العام الذي خضع لتسعير بسيط، لكنه كان محكوماً بالسوق السوداء.
فيما حددت السلطات مدة تسلم الجواز العادي بـ45 يوماً، أما المستعجل فخلال 21 يوماً، بينما الفوري فيتم الحصول عليه خلال ثلاثة أيام، لتثبت النظرية التي تربط بأن المشكلة ليست في الجواز بقدر ما هي مرتبطة بما يمكن جنيه من أموال لقاء استصداره.
انهيار من الداخل
الحقوقي تميم سليمان يقول "بعد أن دفعت رسوم الجواز المستعجل رأيت مشهداً مريباً ومقلقاً، فهناك أوراق علينا أن نصدقها في الطابق السفلي، ثم علينا أن نتوجه إلى الطابق العلوي لتسليم تلك الأوراق والصور الشخصية، هناك سلم ربما يتكون من 14 درجة ليس أكثر، أقسم أني ظللت أكثر من ساعتين حتى تمكنت من تجاوزه والوصول إلى الدور الأعلى من شدة الاكتظاظ الذي لم أشهد له مثيلاً".
ويتابع "هذا المشهد ينذر بكارثة لم تحصل في بلد، هل يعي المعنيون خطر ذلك المشهد؟ ماذا يعني أن يكون كل السوريين يريدون الهجرة؟ أولاً هذا مؤشر خطر حول فقدان الثقة بمستقبل البلد، ثانياً هذا إفراغ لها من طاقاتها، ثالثاً حين يقاتل هؤلاء وكلهم فقراء لأجل جواز يأخذهم لبلدان قليلة فهم ذاهبون في رحلة لا عودة منها، فهل ثمة أخطر من ذلك؟".