Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

آلن بو اخترع "الرواية البوليسية" ليموت هو وسط ظروف ملغزة

أكثر أنواع الأدب وضوحاً في التعاطي مع صورة الإنسان بين ارتباكه والتزامه منطقه العقلي

رسم يصور أحد مشاهد الرواية ضمن كتاب ألن بو (أمازون)

ملخص

أكثر أنواع الأدب وضوحاً في التعاطي مع صورة الإنسان بين ارتباكه والتزامه منطقه العقلي

منذ عقود من السنين وبفضل كتاب ومفكرين كبار أعادوا إليه اعتباره، لم يعد الأدب البوليسي أدباً ثانوياً، ولم تعد شعبيته ورواجه يشتغلان ضده في نظر النخبة. فإذا أضفنا إلى هذا أن السينما ثم التلفزة، قد أسهمتا في نشره إلى حد كبير، يمكننا أن نفترض أن القرن الـ20 كان، إلى أمور أخرى، عصر ازدهار الأدب البوليسي. ومع هذا نعرف أن هذا الأدب لم يولد في القرن الـ20، بل قبل ذلك بزمن بعيد، وربما يكونون مصيبين أولئك الذين يعودون به إلى أسطورة أوديب. غير أن ما يجب التوقف عنده هنا هو أن الأدب البوليسي الحديث، بطابعه العقلاني الصرف واعتماده فن المنطق لحل الألغاز التي تشكل جوهره، ولد في القرن 19، الذي شهد أقسى درجات ازدهار العقلانية في الفكر الإنساني، فلسفة ورسماً وأدباً وشعراً. ولقد رأى كثر من الباحثين أن الأدب البوليسي كان المكان الذي تجلت فيه العقلانية أكثر من أي مكان آخر، لأن هذا الأدب في طبيعته يفترض اللجوء إلى التحليل المنطقي، وتحديداً لإيصال حبكات تبدو، أول الأمر، وكأنها أبعد ما تكون عن المنطق. وإذا كان للأدب البوليسي الرفيع أقطابه الكبار الذين توارثوه وبدت أعمالهم نابعة من بعضها البعض، ودخل أبطالهم (من أمثال شرلوك هولمز وهركول بوارو) الأسطورة، فإن ما يمكن أن يقال في هذا السياق هو أن الأبوة الشرعية لهذا النوع الأدبي، تعود إلى واحد من أكبر الشعراء في تاريخ الأدب الأميركي، ومن أكبر الشعراء العالميين: إدغار ألن بو.

رواية رائدة

فعلى رغم أن هذا الأمر يكاد يكون عصياً على التصديق بالنسبة إلى محبي الشعر الصرف والأدب الراقي، يجمع مؤرخو الأدب البوليسي على أن ألن بو هو الذي كانت البداية على يديه، وتحديداً عبر رواية كتبها ذات شهر سئم فيها، وشاء أن يجعل باريس ميداناً لها. وهذه الرواية الغريبة الرائدة، سرعان ما تلقفها القراء، ولكن أيضاً الكتاب، الذين راحوا يسيرون على منوالها ويكتبون، ولا يزالون حتى اليوم، أعمالاً تبتعد أو تقترب منها، لكنها تدين إليها بالريادة. وهي "الجريمة المزدوجة في شارع المشرحة". فمع هذه الرواية التي كتبها إدغار ألن بو في بداية أربعينيات القرن قبل الماضي، ولد الأدب البوليسي الحديث... وأكثر من هذا: ولدت قوانينه وقواعده. أما الحكاية فتبدأ في باريس ذات ليلة من ليالي عام 1841. حيث عند الثالثة قبل الفجر يسمع أهل الحي في شارع المشرحة، همهمات وصراخاً غريباً مرعباً، آتية من شقة في الطابق الرابع من بناية قديمة، وهي شقة تسكنها أرملة عجوز وابنتها. ويهرع الناس لرؤية ما يحدث ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه ويدفعون الباب المغلق من الداخل بإحكام، ليجابهوا مشهداً رهيباً: المرأتان مقتولتان بطريقة وحشية، وقد خبئت جثتاهما، واحدة في المدفأة مدلاة ورأسها إلى الأسفل، والثانية في فناء صغير يقع خلف المبنى. وحين تصل الشرطة إلى المكان للتحقيق يفاجأ أفرادها بغرابة الأمر: فالشقة مغلقة من الداخل تماماً، ولا يبدو أن ثمة من اغتصب بابها. أما في الخلف، فثمة مبنى آخر، يرى عبر نافذة تطل على الفناء، لكنها مرتفعة ولا يمكن لأي كائن بشري أن يدخل منها أو يخرج.

لولا القاضي

أمام هذا الوضع الذي يصعب تفسيره تميل الشرطة إلى حفظ القضية. وكاد ذلك يتم لولا تدخل قاضي التحقيق أوغوست دوبان، الذي يعيش عيش الكفاف منعزلاً بعد إفلاس، ومشركاً في شقته شاباً غريباً صادقه بعدما التقاه في ظروف غريبة. وهذا الشاب هو الذي يلعب دور الراوي في هذه الرواية، تماماً كما سيفعل لاحقاً الدكتور واطسون في روايات السير آرثر كونان دويل التي يتولى شارلوك هولمز التحريات فيها. وإذ يحصل دوبان وصديقه على إذن بالتحقيق من مدير شرطة باريس، يبدآن بالتحري حول الأمر، وليس لديهما من سلاح سوى المنطق، وهمتهما في جمع الدلائل. ومن خلال ذلك التحري والسجالات المنطقية التي تقوم بينهما يبدآن تدريجاً بالتوصل إلى حل اللغز، بادئين بافتراض أن القاتل (أو القتلة) إنما دخلوا الشقة عبر النافذة المطلة على الفناء الخلفي، ولكن كيف؟ هنا يتقدم المنطق مرة أخرى للوصول إلى جواب، وهكذا انطلاقاً من محاججات قد تبدو مستحيلة الإمكان أول الأمر، نفهم سريعاً أن ليس هناك شيء يمكن أن نقول عنه إنه مستحيل. وهكذا ينطلق دوبان وصديقه من كل دليل ولو صغير يعثران عليه: ما يقوله الجيران من سماعهم همهمات بلغة غريبة، إلى الوبر الأحمر الذي يعثران عليه في يد إحدى الضحيتين، إلى إدراكهما أن القوة المطلوبة لارتكاب الجريمة كان يجب أن تكون، بالضرورة، قوة تفوق قوة البشر الطبيعية، إضافة إلى شريط معقود يعثر عليه دوبان ويتبين له أن عقدته بحرية من النوع المستخدم في جزيرة مالطا... وهكذا، على هذا الشكل المنطقي التدريجي يحل اللغز، ويكتشف التحريان أن القاتل لا يمكنه أن يكون سوى قرد من فصيلة أوران - أوتان، أفلت من مالكه البحار المالطي الذي أتى به إلى باريس ليبيعه إلى حديقة النباتات.

ريادة ومنافسة

اليوم مع مرور الزمن سيبدو الأمر على شيء من السذاجة والميكانيكية، بعدما ألف الكتاب، ألوف الروايات، التي راح أبطالها المحققون يتنافسون ذكاء ومنطقاً، ولكن هذا لا ينفي صفة الريادة عن عمل اتسم منذ بدايته بخلقه القواعد الستة الذهبية التي يتعين اللجوء إليها من أجل تكوين لغز بوليسي ومن ثم حله. وهي قواعد، كما نلاحظ، تقوم على المنطق المجرد، أي على ما يمكن للعقل البشري أن يتوصل إليه عبر استخدام المحاججة المنطقية، وهذه القواعد هي، كما وصلت باكرا إلى فرنسا: 1- القضية التي تتمحور حبكة الرواية حولها، يجب أن تشمل لغزا يبدو غير قابل للتفسير ظاهرياً، 2- هناك شخص، أو عدة أشخاص في وقت واحد، أو في شكل متتابع تدور الظنون من حولهم، خطأ، لأن الدلائل والمؤشرات تشير إليهم، منذ البداية بوصفهم الفاعلين، 3- في النهاية يتمكن رصد دقيق للوقائع، متبوع بدراسة ما يدلي به الشهود، وسط لجوء صارم ودقيق إلى منهج منطقي، من الانتصار على الآراء والمناهج المتسرعة التي تسود في البداية. وهنا من البديهي أن المحلل لا يتكهن، بل يرصد ويحاجج عقلياً، 4- الحل، الذي يتلاءم تماماً مع قراءة الوقائع، يجب أن يكون غير متوقع، 5- كلما كانت القضية أكثر غرابة ظاهرياً، كلما كان الحل الذي يتم التوصل إليه أكثر، 6- حين يتم استبعاد كل ضروب الاستحالة، فإن ما يتبقى لنا إنما هو، ما كان يبدو في البداية غير قابل للتصديق: الحل الصحيح.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

المنطق يا عزيزي إدغار

كانت صياغة هذه القواعد من ابتكار إدغار ألن بو، لكن هذا الكاتب والشاعر الكبير لم يعرف طوال حياته بأنه كاتب بوليسي، بل عرف، كشاعر كبير، حتى وإن كان خاض أيضا كتابة القصص الغرائبية وحكايات الرعب القوطية، وكان من الرومانطيقية في شعره وحكاياته بحيث لم يكن من المنطقي لأحد أن يتصور أنه مبتدع شخصية ذلك التحري المنطقي الذي يرجح كفة العقل على أي كفة أخرى، وتلك الأساليب التي مهدت لمجيء أغاثا كريستي وإيلاري كوين وسير آرثر كونان دويل وموريس ليبلان، وعشرات غيرهم.

هوى أوروبي

ولد إدغار ألن بو عام 1809 في بوسطن بالولايات المتحدة الأميركية. وهو تيتم منذ كان في الثانية فعاش في كنف تاجر ثري من ريتشموند (فرجينيا) مكنه من الحصول على دراسة متميزة حصلها في إنجلترا والولايات المتحدة. وبو لم يحب أميركا أبداً، بل كان هواه أوروبياً ومعظم أدبه وشعره كذلك. وكان بودلير، مترجمه يقول عنه إنه كان يحس أميركا سجناً كبيراً. مهما يكن عاش بو حياة مغامرة وقمار وبؤس، ملأها كتابة وتجوالاً. وهو خاض كثيراً من أنواع الكتابة، اشتهر من أعماله نصوص مثل "سقوط منزل آل آشر"، وأشعار مثل مجموعة "العقرب" و"تيمورلنك وقصائد أخرى" و"حكايات غرائبية" وخصوصاً قصيدة "أوروكا" الطويلة التي تعتبر عمله الأكبر. وإدغار ألن بو وجد ميتاً ذات يوم من خريف عام 1849 مرمياً في أحد شوارع بالتيمور، وقيل إنه قضى بفعل تناوله حبوباً مخدرة، وقيل بفعل تفاقم داء السكري عليه. لكن بودلير رأى أنه إنما مات منتحراً انتحاراً ذهنياً حضر نفسه له ومارسه طوال فترة من الزمن.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة