ملخص
كتاب مبكر للأميركي دوبوا يقدم الحجج على أن الشعب الأسود لم يأت من فراغ
يعتقد كثر من الناس، خارج الولايات المتحدة الأميركية خصوصاً، ولكن حتى داخلها أيضاً إلى حد كبير، أن المحاولات الفكرية والفنية لإعادة الاعتبار إلى الأفارقة/ الأميركيين – الذين كان يطلق عليهم اسم "زنوج" الذي لا يكف عن النظر إليهم بقدر متفاوت من الاحتقار-، إنما بدأت في شكل جدي يوم كتب أليكس هيلي نصّه الكبير "جذور" وحُوّل هذا النص إلى ذلك المسلسل التلفزيوني الذي يعتبر الأشهر في تاريخ هذا النوع. فالحقيقة أنه ومن قبل "جذور" بزمن طويل، كان ثمة حضور لقضية "السود" في السينما والأدب، ولكن في معزل عن جذورهم الأفريقية والمسار الذي اتخذه تاريخهم، انطلاقاً من القارة السوداء وصولاً إلى العبودية في أميركا... وغيرها. لكن الحقيقة هي أن "جذور" لم يكن المحاولة الكبيرة الأولى، بل هناك محاولات كثيرة سابقة، لعل أهمها وأجدرها بأن نتوقف عندها، الدراسة الضخمة والعميقة التي نشرها ويليام دوبوا، عام 1939، في عنوان "الشعب الأسود، ماضياً وحاضراً"، وهي الدراسة التي أضحت منذ ذلك الحين مرجعاً أساسياً، خصوصاً أن الكاتب أراد أن يبرهن فيها - ونجح في ذلك - بأن أفريقيا ليست، كما يرى كثر من المعاصرين، قارة من دون تاريخ، بل هي قارة ذات تاريخ عريق. ومن هنا فإن الأفارقة الذين اقتلعوا من مناطق تلك القارة، إنما اقتلعوا في الوقت نفسه من تاريخهم، وجذور هذا التاريخ، ليصبحوا، وفقط في البلدان التي استعبدوا فيها، أناساً من دون تاريخ. ودوبوا، للوصول إلى هذا، عاد بالتاريخ الأفريقي إلى جذوره البعيدة، كما سنرى.
مهرج التاريخ
"منذ زمن بعيد، عومل الأسود وكأنه مهرج التاريخ، وكأنه فأر اختبار لعلم الأناسة الأنثروبولوجية، وعبد في خدمة الصناعة الكبرى. أما ما أردت أن أبرهن عليه في هذه الدراسة، فهو لماذا لا يمكن أحداً أن يدافع عن هذه الأقاويل والمواقف". بهذه العبارات الموجزة يشرح دوبوا ما أراده من هذا الكتاب. وهو بهذا حدد لدراسته السياسية - التاريخية - الاجتماعية هذه، كونها نظرة بانورامية تشمل في الوقت نفسه، تاريخ الشعوب السوداء، وتاريخ الممالك الأفريقية منذ أقدم العصور حتى زمن الكولونيالية والتمييز العنصري، كما باتا مهيمنين على الأذهان في أفريقيا نفسها، ولكن في أميركا الشمالية أيضاً حتى عشية الحرب العالمية الثانية. وكان من الطبيعي لدوبوا، في مثل هذا السياق أن يدرس الكيفية التي توطدت بها التجارة بالرقيق الأسود، ثم العبودية نفسها في القارة الأميركية... ناهيك بالازدهار الذي عرفته الرأسمالية الأوروبية في تلك الأثناء بفضل اغتذائها من المتاجرة بالرقيق، وتحديداً بـ"تلك الطريقة التي جعلت الاستغلال المباشر للسود في مناطقهم الأصلية يستبدل بنقلهم، بالجملة، إلى جزر الأنتيل ومنها إلى الأراضي الأميركية".
البحث عن ماض
كما قلنا أعلاه، كان هذا هدفاً أساسياً للدراسة، غير أن دوبوا، كان يتطلع إلى ما هو أبعد من ذلك: كان يتطلع إلى أن يدرس، عبر الوضع "الراهن" والذي كان مستمراً منذ وجود أميركا الشمالية في قلب السياسة والصناعة والتجارة العالمية، ما كان يشكل ماضي هؤلاء الناس. صحيح أن هذا كله صار اليوم وبفضل أشغال، فردية وجماعية دؤوبة انتشرت خلال ثلاثة أرباع القرن الأخير، معروفاً ومعترفاً به، لكنه في الزمن الذي كتب فيه دوبوا دراسته، كان شيئاً جديداً: كان أمراً غير متوقع أن يأتي باحث ليرسم في خلفية وجود أولئك "العبيد السود الأشقياء"، تاريخاً عريقاً ومتكاملاً، غارقاً في القدم. كان تاريخاً حرص دوبوا على التأكيد أنه كان مزدهراً ومتقدماً في وقت لم تكن أوروبا دخلت فيه ولو بدايات نهضتها، وكانت أميركا لا تزال مجرد غابات وسهوب، بالكاد يقطنها بشر. من هنا كرّس دوبوا الفصول الأولى من كتابه، للحديث عن تاريخ أفريقيا قبل تجارة العبيد، واصلاً إلى تاريخ بلاد النوبة، جنوب مصر، ليتحدث عن زمن الفراعنة، حديثاً يكذّب جملة وتفصيلاً، كل ما كان متداولاً قبل ذلك من أن أفريقيا، كانت مناطق استوائية وصحراوية جرداء لا أكثر. وهنا يبدو مهماً ما يورده دوبوا من أسماء كتّاب وفلاسفة وزعماء سياسيين، وشعراء وحتى شاعرات... في مجال تأكيده على خطل كل الأطروحات التي كانت تتحدث عن "التخلف الذهني" للسود الأفارقة. بل إن دوبوا يصل، في مجال التأكيد على هذا، إلى القول بأن الحكومات والزعامات السوداء التي توطدت أركانها في ولايات الجنوب الأميركي بعد انتصار الشماليين مناصري تحرر السود في الحرب الانفصالية، لم تكن حكومات وزعامات فاشلة كما يقول بعض المؤرخين العنصريين.
ثمن النجاح
فهو يحدثنا هنا عن العديد من التجارب الناجحة، والتي "كان نجاحها سبباً أساسياً في تكالب الخصوم من حولها، وضدها، للنيل منها". وفي هذا الإطار يقيناً أن دوبوا، لو كان يعيش بيننا حتى يومنا هذا لأضاف إلى كتابه فصولاً وفصولاً تمعن في تتبع حركة ارتقاء السود الأميركيين، في هوليوود، كما في الأدب، وفي السياسات المحلية، كما في السياسات القومية" من رالف بانش إلى كولن باول ومارتن لوثر كينغ والقس جاكسون وأخيراً كوندوليزا رايس وصولاً، طبعاً، إلى باراك أوباما، الذي من المؤكد أنه يلخص في شخصه وفي سياساته التي مارسها خلال ما لا يقل عن 8 سنوات كان فيها سيد البيت الأبيض، كل ما كان يريد دوبوا أن يقوله في كتابه هذا. وكلها على أية حال من الأمور والأفكار والمواقف التي تكاد تجعل اليوم بازدهارها معظم مقولات دوبوا التي باتت تبدو وكأن الدهر قد عفا عنها لمصلحة وعي جديد لم يعد في حاجة للجوء إلى المفكرين البيض المحسنين، وفي أي مجال من المجالات ولا سيما الفنية، والابداعية عموماً، كي يوضحوه إذ نعرف هنا أن السود وقد باتوا يصرون على الاسم الجماعي الذي اختاروه لأنفسهم، الأميركيون الأفارقة، أمسكوا قضاياهم بأيديهم ولا سيما انطلاقاً من سنوات السبعين، على أنقاض هزيمة الأميركيين في فيتنام، وفضيحة ووترغيت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نضال مترابط
ومهما يكن من أمر لا بد هنا من بعض الإنصاف في حق دوبوا الذي لا يكتفي في دراسته هذه، بهذا القدر من العرض التاريخي والأيديولوجي، بل إنه يصل في تحليله إلى ناحية كان من الصعب توقع وصول كاتب إليها في ذلك الوقت المبكر عشية الحرب العالمية الثانية، حيث أنه يؤكد لنا، بالشرح المسهب، ارتباط نضال الأفارقة الأميركيين من أجل حريتهم، بالنضال من أجل حرية كل السود في العالم. وهذا أمر كان جديداً لدى دوبوا، وفي عرفنا أنه لا يزال يبدو جديداً حتى يومنا هذا، حتى وإن كان في وسع أي مراقب عادي أن يدركه، ويدرك حجم التعاطف معه في شتى أنحاء العالم ما يحيلنا مرة أخرى إلى باراك أوباما، والتعاطف الذي حظي به، ترشيحه للرئاسة الأميركية، ثم انتخابه سيداً للبيت الأبيض، بصفته أول أسود في التاريخ الأميركي يصل إلى هذا المنصب. والحال إن ليس ثمة مهرب هنا من الإشارة إلى أن أول السود الذين كان في وسعهم أن يتماهوا تماماً مع دراسة دوبوا، كانوا سود أفريقيا الذين عانوا ما عانوه تحت ربقة الاحتلالات الأوروبية لبلادهم، ثم تحت ربقة مساوئ ما بعد الاستقلال.
بين الحرية وإعادة الاعتبار
ويختتم دوبوا كتابه هذا عبر تحديد دقيق للعلاقة التي لا تنفصم بين حرية السود من ناحية، وقضية إعادة الاعتبار إلى تاريخ الشعوب السود من ناحية أخرى، ثم انتصار الفكرة الديموقراطية في العالم كله من ناحية ثالثة. وفي هذا السياق، يبدو شديد الفصاحة الفصل الأخير في الكتاب والذي عنونه دوبوا "مستقبل الديمقراطية في العالم" وفيه يحلل في شكل معمق المشكلات المطروحة أمام الحركات العمالية في أكبر بلدين استعماريين في التاريخ، بريطانيا وفرنسا، بالعلاقة مع قضايا التحرر من الاستعمار.
ويرى دارسو فكر دوبوا، إن هذه الصفحات الأخيرة لا تزال تحمل حتى اليوم أهميتها في مجال الإضاءة على نقاط تبدو في شكل إجمالي عتمة، في مجال العلاقة بين الحركة العمالية الأوروبية ونضالات التحرر الأفريقية. وكان ويليام إدواردز بورغهارت دوبوا (1868 – 1963)، ناشطاً في مجال المطالبة بالحقوق المدنية في الولايات المتحدة، وباحثاً وساعياً للوحدة الأفريقية، كما كان مدرساً في علم الاجتماع ومؤرخاً... وهو، اتباعاً لمبادئه، حصل على الجنسية الغانية عام 1963، أي في السنة نفسها التي رحل فيها. وهو ترك العديد من المؤلفات والمواقف التي كان بعضها مثيراً للسجال.