ملخص
حكايات عن نساء مضطهدات للاحتجاج ضد تواطؤ السلطات والمجتمع لإبقاء المرأة خاضعة
منذ زمن لا بأس بطوله يتخذ الرسام النهضوي ساندرو بوتيتشيللي مكاناً كان عصياً عليه في التراتبية التي تطبع تاريخ الفن التشكيلي الإيطالي وفي الأقل منذ التاريخ الذي كتبه الفنان والمؤرخ جورجيو فازاري ويعتبر من أقدم وأشهر التواريخ التي كتبت حتى وإن كان يقابل اليوم بكثير من الاعتراضات. فإلى قرون قليلة من السنين كان اسم بوتيتشيللي يذكر إلى جانب أسماء دزينة أو نحو ذلك من رسامين إيطاليين شغلوا المفترق المفصلي الذي نقل الفن التشكيلي من الكنائس والمعابد إلى الحياة العامة بل تحديداً إلى دارات الطبقات الوليدة التي امتهنت التجارة وجمعت من الثروات، تماماً عل غرار ما حصل في الشمال الأوروبي، والبلاد الواطئة خاصة، ما مكنها من أن تقتني اللوحات وتزين قاعات تلك الدارات. صحيح أن بوتيتشيللي الذي أتى في زمن متأخر نسبياً، لم يعتبر من كبار الذين لبوا طلبات تلك الطبقات وفي المرحلة الأولى في الأقل، غير أنه سيعاد الاعتبار له تدريجاً شاقاً طريقه بين تيسيانو ورافائيل ودا فنشي وبخاصة ميكائيل أنجلو. بل إنه في القرنين الأخيرين راح يبدو متفوقاً على هؤلاء وغيرهم، وليس في مجال الجماليات التي اختارها للتعبير عن مواضيعه. وبخاصة المواضيع التي ستبدو بالتدريج أقرب إلى الدنيوية. بل ستبدو غريبة من ناحية دنوها من مواضيع سياسية واجتماعية كانت عصية على التجديدات التي طالت تلك الفنون في مرحلة متأخرة من عصر النهضة في مجمله، إلى درجة أن كثراً يفضلونه اليوم على مجمل مجايليه أو لاحقيه.
الفنان العجوز يناضل
ولعل اللوحات التي يصار إلى استعادة ذكرها اليوم من بين نتاجات بوتيتشيللي التي توزعت على فترات زمنية متواصلة، هي تلك التي شغلت السنوات الـ10 الأخيرة من حياة الرسام ومساره المهني وتتميز أولاً بصغر حجمها مقارنة بما أنتجه هو نفسه من لوحات خلال المرحلة السابقة عليها من حياته، لكن ثمة ما هو أهم من ذلك كثيراً من ناحية الشكل ولكن أيضاً من ناحية الموضوع. ولنبدأ هنا من هذه النقطة الأخيرة لأنها تبدو لنا في المجال الذي نتناوله في الأقل، بالغة الأهمية إلى درجة أنها تكاد تشكل واحداً من التجديدات الأساسية التي أدخلها هذا الفنان على توجهات الفنون النهضوية. والسؤال الأول هنا هو بالتأكيد: ما القاسم المشترك بين تلك اللوحات؟ ببساطة أنها لوحات تصور مواضيع تاريخية تنتمي إلى عصور قديمة وفيها جمع بوتيتشيللي بين الحكايات التاريخية الرومانية وحكايات من الكتب المقدسة ومن الأساطير. حكايات مستقاة من معاناة عدد من النساء اللاتي اشتهرن تاريخياً بتصديهن للمصائر التي كانت القوانين والأعراف العائلية قد فرضتها عليهن بالتواطؤ مع ذويهن ليطلعن خاسرات في معظم الأحيان. خاسرات على الصعيد الشخصي بالتأكيد ولكن رابحات على الصعيد الاجتماعي كنماذج تحتذى في المحاولات العديدة لنيل حرية التصرف بحيواتهن والالتفاف على مصائرهن.
نساء عاديات استثنائيات
طبعاً نحن لسنا هنا، مع نحو دزينة من لوحات لبوتيتشيللي أمام نساء من النمط الإغريقي، كأنطيغونا أو ميديا أو فيدرا... يمثلن استثناءات في البعد التاريخي لمآثرهن، سواء كانت سلبية أو إيجابية، بل أمام نساء تكمن بطولاتهن وحسب، في محاولات الانتفاض اجتماعياً من دون أن يكون في حراكهن استثناء يجعل الواحدة منهن تعتبر بطلة استثنائية في التاريخ، مما يجعل نموذجيتهن متفردة، فنجدنا إزاءهن أمام نساء هن في الأصل عاديات يمكن لحكاياتهن أن تتكرر في كل مكان وزمان، ومن هنا لئن كان الفن يؤسطرهن فما هذا إلا على سبيل توخي التعميم وخوض النضال السياسي، الذي نسميه اليوم "نسوياً" يليق بحركات تحرر المرأة لا أكثر. ومن هنا لن يكون من المبالغة وصف تلك اللوحات بأنها بيانات سياسية برسم المجتمعات الصاعدة. بيانات "فنية" تعمد الرسام أن يجعلها أصغر حجماً وبكثير مما اعتاد أن يرسم سواء في مرحلته الكنسية أو في مرحلته الجمالية. فمن البين أن بوتيتشيللي لا يتوخى هنا أن يخلف في هذا المضمار أعمالاً فنية ضخمة تخلده، بل أعمالاً اجتماعية تحمل برامج اجتماعية محددة. ومنها برنامج في صالح المرأة، وذلك بالنظر إلى أن اللوحات الأساسية في تلك المجموعة التي توزع إنتاجه فيها على عدد من سنوات مرحلته الأخيرة (بين 1495 و1504) كانت تروي معاناة نساء اختارهن للتعبير عن "احتجاجه" على أوضاع المرأة، من فرجينيا إلى لوكريشيا وغيرهن من نساء وجد أن في إمكان حياتهن أن تلعب دوراً اجتماعياً وجده يتناسب على أي حال مع موقف اجتماعي – فلسفي، يقود في نهاية الأمر إلى هدف سياسي واضح يلتقي من انتمائه تحت رعاية حكام فلورنسا المتنورين، مع تلك النزعة النيو – أفلاطونية التي باتت لسان حالهم في ذلك المجمع الفكري والإبداعي الذي واصلته الأفلاطونية الجديدة، من خلال أفكار أفلوطين الإسكندري وفرفوريوس الصوري وجمع في نوع من مستعمرة في قرية أقامها لورنزو مديتشي غير بعيد من فلورنسا عدداً كبيراً من مفكرين تحت زعامة المفكر النهضوي الإنساني، مرسيليوس فيسين وكانت كلمة السر بينهم "أفلاطون عائد، حقاً عائد".
مساهمة فنية في حراك فكري
والحقيقة أن تلك اللوحات التي رسمها بوتيتشيللي خلال تلك المرحلة إنما كانت مساهماته في ذلك الحراك الفكري الذي لا يزال في حاجة إلى مزيد من الاكتشاف والتحليل، لا سيما في مجال كونه فعلاً سياسياً ما يضعنا ليس فقط أما دور عزته تلك النهضة الإنسانية للفن في بناء العصور الحديثة، بل كذلك أمام نزعة تجديدية في المجتمع. فنحن، على سبيل المثال، لو اكتفينا بسبر حكايتي فرجينيا ولوكريشيا اللتين حاول بوتيتشيللي أن يرويهما لنا في الأقل في لوحتين كرس كل واحدة منهما لواحدة من تينك المرأتين اللتين في ظروف عادية قد لا تعدو مشكلة كل منهن كونها ترفض أن تتزوج ممن اختارته لها عائلتها، سنجد أن ذروة الفعل السياسي هنا إنما تكمن في وقوف السلطات السياسية وممثلة بالإمبراطور شخصياً ضد إرادة الفتاتين مجبرة إياهما على الرضوخ لمشيئة الأهل. وهو أمر يضع المجتمع والأهل والسلطات في جبهة والمرأة وحرية اختيارها حبيبها في جبهة مقابلة. ويمكننا هنا بالطبع إدراك المعاني السياسية، الراهنة ليس بالنسبة فقط إلى زمن الحكايتين بل حتى بالنسبة إلى زمن رسم تلك اللوحات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فن سياسي بامتياز
ولعل في إمكاننا هنا أن نفترض بأن بوتيتشيللي من خلال توقفه عند تينك الحالتين من بين حالات أخرى عديدة رسمها في فترات متقاربة، إنما كان يعبر عن فعل سياسي ربما يبرر تلك الأفعال بالغة الجرأة والتقدم، التي أقدم عليها حاكم فلورنسا المتنور بمساندة الجسم الثقافي في بلاده. وهو أمر سنفترض أن بوتيتشيللي كان داعماً له بقوة مسانداً الحكام الفلورنسيين في ممارساتهم التنويرية لا سيما في مرحلة كان المجتمع الإيطالي يرزح تحت وطأة محاولات رجعية مثل تلك التي قادها سافونا رولا وأدت إلى إحراقه في الساحة العامة. وهو بالتأكيد كان داعماً لتلك الممارسة التنويرية ضد ظلامية الفكر الرجعي وصولاً حتى إلى استعادته في سلسلة من اللوحات حكاية القديس زينوبيو، وذلك في رباعية تصور لوحاتها مشاهد من حياة القديس زينوبيو الذي قدم الفنان حياته ونزعته التقدمية، كقديس مناضل وصانع للمعجزات، هو الذي كان أول كاهن في فلورنسا يؤنسن العمادة، لا سيما منها عمادة النساء من خلال واحدة من اللوحات تصور عمادة أمه كما تصور بعض معجزاته مثل تبرئته متهمين بريئين وتحريرهما... وهنا أيضاً على الضد من إرادة المجتمع والسلطات الرسمية معاً. وفي المقابل قد يكون، بالنسبة إلى اللعبة الشكلية في تلك اللوحات بالذات لافتاً كيف أن هذه الأخيرة تبدو في نهاية الأمر وكأنها استبقت بمئات السنين ظهور الشرائط المصورة، ناهيك بأن ثمة ما يدفع إلى الحيرة هنا أيضاً: التركيب الذي اعتمده الرسام في توزيع أحداث حكايته على مسطح واحد إنما من دون أن يلجأ إلى أي ترتيب زمني. فالمتفرج حين يتفرس مثلاً في لوحة "لوكريشيا" أو لوحة "فرجينيا" سيذهله كون كل منهما تكاد تكون تعبيراً بصرياً ملموساً عما سيقوله السينمائي جان لوك غودار من أن "من المؤكد أن لكل عمل إبداعي بداية ووسط ونهاية من دون أن يكون ضرورياً أن يأتي تريبها على هذا النحو".