ملخص
مرغريت فوللر رفيقة الشاعر إمرسون تدعو إلى تحرير نساء العالم الجديد عبر التعليم
تبدو اليوم منسية إلى حد ما، في وطنها الأميركي تحديداً، ولكن كذلك في أوروبا التي لم تخف أبداً هيامها بها وبثقافتها، وبخاصة في إيطاليا التي قبل زيارتها بزمن في رحلة أوروبية توجت بها شغفها الثقافي والتحرري - ولا سيما بتحرر المرأة الأوروبية ناهيك بتحرر إيطاليا وتوحدها سياسياً - وحتى مرور الذكرى المئوية الثانية لولادتها واحتفال بعض الأوساط النسوية في الشرق الأميركي بتلك الذكرى، لم يعوضا ذلك النسيان الظالم. اسمها مرغريت ساره فوللر (1810 - 1850) هي التي في أحسن الأحوال إن تذكر اليوم بين الحين والآخر فهي إنما تذكر بوصفها عشيقة الشاعر والكاتب الأميركي رالف والدو إمرسون. تصوروا ما الذي كان سيحدث لو أن فرنسيي منتصف القرن الـ20 استذكروا سيمون دي بوفوار بوصفها عشيقة جان بول سارتر لا أكثر ولا أقل.
امرأتان كبيرتان
والحقيقة أن إشارتنا هذه إلى سيمون دي بوفوار ليست اعتباطية. فالمؤرخون الذين يتوغلون ولو بعض الشيء في حياة فوللر القصيرة (40 عاماً لم تعش غيرها) يقارنون عادة بين حياتي هاتين الكاتبتين الكبيرتين وبالتحديد بين المساهمات الكبرى لكل منهما في قضية المرأة وتحررها. وهم في هذا المضمار يرون تشابهاً كبيراً بين أفكار موللر وسيمون. أو لنقل بشكل أكثر تحديداً: بين كتاب "الجنس الثاني" للكاتبة المناضلة الفرنسية، الذي صدر في منتصف القرن الـ20، وكتاب "نساء أميركا" للأديبة والصحافية الأميركية الذي سبق كتاب دي بوفوار بـ100 عام تقريباً. ولئن كان "نساء أميركا" يعتبر من قبل القلة التي تعرفه على أية حال، شرارة أطلقت الحركة النسائية في أميركا في زمنه كما سيفعل "الجنس الثاني" بعده بـ100 سنة، فإن غلاة المنصفين يلفتون إلى أن الأميركية تؤكد في كتابها أنها إنما تسير في "دعوتها الثورية" على خطى كاتبة نسوية أخرى بريطانية هذه المرة تدعى ماري وولسكرافت، تعدها عبر كتابها الصادر عام 1792 المطلقة الحقيقية للثورة النسائية في العصور الحديثة، بينما نلاحظ أن دي بوفوار تنطلق من أنه لم يكن ثمة من قبلها "نسويات" جعلن الدفاع عن المرأة نوعاً من الفنون الجميلة.
تواضع ما...
طبعاً لا نورد هنا هذه الملاحظة انطلاقاً من رغبة في التقليل من شأن الكاتبة الفرنسية ولكن نوع من إعادة اعتبار، أخلاقية هنا بالأحرى، لفوللر، الكاتبة المتواضعة التي كان عليها أن تنتظر القرن الـ21 قبل أن تنعم بمكانة تليق بها بوصفها الأديبة الأميركية الأولى التي أطلقت شرارة تحرير المرأة في أميركا، من خلال الوعي والتعليم العالي، وهي المكانة التي بات معترفاً لها بها منذ بدايات الألفية الجديدة. غير أن طموحات هذه الكاتبة كانت أدبية أكثر مما كانت اجتماعية وربما تنطلق من شغفها غير المحدود بالمبدع الألماني الكبير وولفغانغ غوته، وهي التي كانت في الـ25 لدى وفاة والدها لتجد نفسها مفلسة وتنطلق في التعليم والكتابة الصحافية ولكن من خلال الترجمة، حيث كان من بين أول ما ترجمته عن الألمانية كتاب "محادثات مع غوته" لفينكلمان، مما قادها، من ناحية إلى التعرف إلى إمرسون ومن ناحية ثانية إلى الاشتغال على سيرة لغوته. وفي النشاطين تبدي فوللر باكراً شغفها بالثقافة والإبداع الأوروبيين. وسيكون ذلك بالتواكب مع بدء عملها في الصحافة ومن ثم بالكتابة عن مختلف تشعبات الثقافة الأوروبية وصولاً إلى غرقها في قضية المرأة الأميركية التي سرعان ما أضحت شغلها الشاغل في المقالات التي راحت تكتبها في صحيفة "الصفقة" في بوسطن كما في المحاضرات والدروس التي راحت تلقيها في جامعة هارفرد. نفس الجامعة التي ستكون أديبتنا في الوقت نفسه أول امرأة تحصل على بطاقة خاصة بها تمكنها من ارتياد مكتبتها العامة بعدما كان ذلك الارتياد موقفاً على القراء الذكور!
نساء العالم الجديد
مهما يكن من الواضح أن ذلك قاد الصبية إلى الإمعان في اهتمامها بشتى القضايا المتعلقة بنساء العالم الجديد، وتحديداً من خلال ما راح يقع بين يديها ولا سيما داخل مكتبة هارفرد من مطبوعات وصحف متوافرة تضعها بتواصل مع ما يتعلق بشؤون نساء التاريخ ونساء الأدب وما إلى ذلك. ومن البين أن مرغريت فوللر راحت تمضي وقتها داخل هارفرد وخارجها، من جهة في رصد أحوال النساء وبخاصة نساء الطبقة والبيئة اللتين تعرفهما جيداً، ومن جهة أخرى في سجالات مع رفيقاتها ومريداتها اللاتي يتحلقن حولها ناهيك بمستمعات ومستمعي محاضراتها، وبالنسبة إليها من خلال سؤال كان يبدو بالنسبة إليها بسيطاً: لماذا تبدو نساء أميركا متخلفات عن نساء أوروبا؟ وكان الجواب الأساس الذي توصلت إليه يدور من حول قضية مركزية هي التعليم العالي. ومن الواضح أن هذه الكاتبة وجدت في تعليم النساء أسوة بتعليم الرجال مفتاحاً ذهبياً لوجود حقيقي لهن في المجتمع يحرك هذا المجتمع ومسيرته قدماً إلى الأمام. وهذا على أية حال جوهر ما أرادت أن تقوله على صفحات كتابها الذي لن تكتشفه أوروبا عبر ترجمته إلى الفرنسية إلا عند بدايات القرن الجديد. الحقيقة أنه لئن بدا واضحاً لنا أن هذا الكتاب لا يحمل لقارئ اليوم أي جديد، فإنه سيبدو "جديداً" بل مفاجئاً لمن يتذكر أنه كتاب صدر قبل ما يقارب 200 سنة من الآن وتحديداً عام 1845.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بيان نسوي ونجمة لامعة
والحال أن مرغريت فوللر كانت عند صدور بيانها النسوي هذا، نجمة لامعة في الفضاء الثقافي الأميركي، ناهيك بأنها كانت تعتبر من أعمق مثقفات تلك المرحلة من التاريخ الأدبي الأميركي، يشهد على ذلك امتلاء نصها بالاستشهادات الغزيرة من الأدب والفلسفة العالميين. لكن ما هو أكثر من ذلك هو أن القارئ الواعي يمكنه أن يتنبه اليوم إلى الطابع التنبئي الذي يهيمن على الكتاب مما يجعله يبدو وكأنه، في تعمقه في وصف الحراك التاريخي للمجتمعات المعاصرة لنا يبدو وكأنه كتب في الأمس القريب فقط. ولعل ما ينبغي علينا هنا الإشارة إليه هو أن فوللر كانت اعتادت أن تغيظ قراءها وتستفزهم حتى ولو كانوا من أقرب المقربين منها، وبخاصة في طرحها أفكاراً حول المرأة والتعليم قد تبدو لنا اليوم بديهية لكنها كانت من الجدة يومها إلى حد أن إمرسون ذا الفكر الثوري المتحرر كثيراً ما اصطدم معها من خلال علاقتهما أولاً ومن خلال عملهما المشترك في الصحيفة التحررية "الصفقة" التي أصدراها شراكة لكن الشاعر البيئوي والتقدمي كان يصعب عليه تحمل أفكار شريكته وصديقته بل حتى رفيقته في الفلسفة التجاوزية التي أطلقاها معاً خلال السنوات العشر الأخيرة من حياتها وأعلنا مبكراً أن هدفها كان الارتقاء بالنوع البشري فكرياً وإنسانياً.
مهما يكن فإن مما كان إمرسون وفوللر يتفقان عليه، بين أمور أخرى إنما كان يتعلق بالمحور الأساس الذي وجه فكر مرغريت ونشاطاتها الكتابية، ونجده مهيمناً على أفكار "عن النساء في أميركا" وهو حتمية تمكن المرأة من الحصول على أعلى مستويات التعليم العالي، في زمن وبيئة كان من النادر فيهما للمرأة أن تتجاوز التعليم الثانوي. في كتابها لا يفوت مرغريت، على أي حال، أن تشير إلى تجربتها الشخصية في هذا المجال، الجوهري بالنسبة إليها بالتأكيد، حيث تمكنت، ولو بتوجيه حاسم من أبيها قبل رحيله، من الحصول على تعليم رفيع المستوى وذلك لرغبة ذلك الأب المتنور في أن تحوز ابنته على ما "يشكل إرثاً ثقافياً يتطابق مع ما كان حققه هو من ثقافة وتعليم".
مشروع كبير مجهض
ولنذكر هنا أخيراً أن مرغريت فوللر قد حققت خلال السنوات الأخيرة من حياتها الحلم الذي داعب خيالها منذ صباها المبكر، حين قامت بجولة أوروبية قادتها خاصة إلى إيطاليا حيث كانت من الشهود الأميركيين القلائل الذين احتفلوا ميدانياً بتوحيد هذا البلد، وعاينت الدور الذي لعبه كبار المثقفين المبدعين والأوروبيين في تلك الانتفاضة السياسية الإيطالية الكبرى. وكان ذلك، بالنسبة إليها، درساً وعدت نفسها بتطبيقه ونشره في وطنها. غير أن حلمها الجديد هذا لم يتحقق فهي سترحل عن عالمنا في حادثة غرق في البحر غير بعيد من شاطئ نيويورك بعد عودتها بسنتين.