هل لكل شخص في هذه الحياة مفتاحه، الذي في حال امتلكه يتمكن من فتح بابه والمضي في مساره؟ أم أن حسن الطالع فقط من يقبض على مفتاحه ومفاتيح أخرى، تفتح له الأبواب المغلقة؟
تحضر دلالة المفتاح في الأساطير الفرعونية والإغريقية عبر رموز شتى، تظهر قدرة الإنسان على امتلاك السلطة والمعرفة والحكمة والجرأة، إذا امتلك مفتاحاً يبحث عنه. أما بطلة رواية "وارثة المفاتيح"، للكاتبة والطبيبة السورية سوسن جميل حسن، منشورات الربيع، فإنها تعمل على تحقيق معادلة مختلفة، من خلال امتلاكها لمجموعة من المفاتيح ترتبط بمصائر أبطال الرواية، إذ يمضي كل منهم إلى قدره، في رحلة عبثية لا مناص منها، تبدو نتيجة انجذابه إلى غواية ما تأسره في بوتقتها، سواء كانت السلطة والسطوة، أو السفر والحرية، أو المال والجمال.
مفتاح الوطن
تستدعي الرواية ما حدث في سوريا من اضطرابات سياسية، بعد الثورة التي خرج الناس يطالبون فيها بالحرية والعدل، ثم أدت إلى تحولات دامية، في المجتمع السوري.
تبدأ الأحداث بوصف مؤثر لمكان مضطرب وآثار لعنف دام، مما يوحي بأن الرواية تعكس تأثير الصراع السياسي في الجانب الاجتماعي والنفسي للأبطال. منذ الصفحات الأولى، تقدم الكاتبة مشهد انفجار، أدى إلى تعكير صفو حياة الناس واضطراب المدينة. هذه البداية تبدو وكأنها تمهد الأرضية لقصة ستقوم بتعرية قضايا ترتبط بالبقاء، والصمود في وجه الانهيارات الحتمية سواء الواقعية أو النفسية، وربما البحث عن السلام أو الفرار من وسط هذه الفوضى القاتلة.
يمسك دفة السرد راو عليم، يكشف عن واطن الشخصيات وعالمهم الواقعي، الرواية مقسمة إلى 21 فصلاً، تتوزع على أسرة مكونة من: عفيف وزوجته رضية، وأولادهما عابد وغيداء وسمرا، والحفيد غزوان ابن عابد. هناك أيضاً شخصيات ثانوية مؤثرة في مجرى السرد مثل مدام روزا والباشا وأمجد ابن الباشا واستيفان زوج غيداء، جميعهم يؤدون في حياة الأبطال دوراً محورياً، يشبه من يقوم بإعطائهم المفتاح كي يمضوا في طريق جديد، أياً كانت نهايته.
تناقضات نفسية
ترسم الكاتبة الملامح الجسدية والنفسية لأبطالها، وتبين الاختلافات بينهم، بين عفيف ورضية، وبين الأختين غيداء وسمرا، وبين عابد وابنه غزوان.
رضية امرأة بالغة الجمال والفتنة، تنهمك في تجارة الثياب الأوروبية المستعملة، مما جعلها على صلة مع طبقات اجتماعية مختلفة، وهذا يبدو متماشياً مع البناء النفسي لها، إذ تبدو عاشقة للحياة، تتطلع إلى الرفاهية والثراء، ولا تريد أن تمضي حياتها في الفقر والأسى، لم تسمح لنكبات الحياة أن تهدم مسراتها، حتى موت ابنها عابد، مخلفاً وراءه ابناً وابنة، لم يجعلها تركن إلى الأحزان وتنكفئ على ذاتها، ترى أنها جديرة بحظ أفضل،لكن القدر ربطها مع عفيف الذي تحتقره لأنه لا يمتلك أي مؤهلات، وإلا ما صار شرطياً بلا أي رتب أو نجوم تعلو كتفيه.رضية تؤمن أن لكل شخص مفتاحاً، ومن هذا المنطلق هي تراوغ الجميع، وتعرف متى تستخدم الدهاء الأنثوي. أما عفيف فإنه يعيش حياته بتلقائية وبداهة مسلم بهما، لا يثق بالعدالة والشرطة والقضاء، كما لم يتمكن من حماية ابنه عابد، حين قبض عليه بتهمة تعاطي الحشيش، رضي عفيف بحياة العزلة التي فرضتها عليه زوجته، مدركاً أنهما غير متقاربين ولا متحابين، بل إنه يشعر بحاجته إلى التواصل مع عمته الراحلة مزنة، التي كانت تبذل كل جهودها كي تجعله مرتاحاً، تعتني بأطفاله أثناء انشغال أمهم رضية في تجارتها، وغيابها عنهم.
يناجي عمته قائلاً: "أين أنت يا عمتي؟ أنا اليوم في حاجة إليك أكثر من أي وقت مضى، أريد الاعتراف أمامك، لأغتسل مما راكمت من قذارة، رائحتي تقتلني".
الابنة الكبرى غيداء، تلتحق بالثوار وتغادر البلاد، نتيجة حاجتها للتمرد منذ طفولتها، بسبب كرهها لأمها، وشكها في خيانتها. أما أختها سمرا فتظل في مكانها تراقب ما يحدث حولها، وتكون وارثة المفاتيح، والأقدار المتعثرة. لنقرأ: "كان حظها العاثر أن ترميها المصادفة إلى الحياة في زمن الشح في كل شيء، زمن التحولات التي واكبت عمرها، زمن الانحدار الذي كان يمشي مطرداً، مع نموها وكبرها في الصمت والظل، زمن الخوف في أقصى تجلياته. خافت عندما أدركت أنها الناجية الوحيدة، لكنها غريبة عن كل ما حولها".
دوائر زمنية
تنقسم الرواية بين زمن ماض، وآخر معاصر تعود تفاصيله لمطلع الألفية، تحديداً عام 2003. يبدأ الزمن الماضي مع استرجاع رضية لذكرياتها، إلى أيام الراديو الصغير، الذي أصبح ضرورة في كل بيت من بيوت الضيعة، يستمعون من خلاله إلى أغنيات أم كلثوم، وفريد الأطرش، ومسرحيات فيروز التي كانت تذاع في السهرة.
اعتمدت الكاتبة على الوصف المكاني لتحكي عن بيوت البلدة الساحلية، التي تسكنها أسرة عفيف، طراز البيوت فيها يعود بمعظمها إلى نمط بناء واحد يحمل بصمة خمسينيات القرن الـ20. بيوت من ثلاثة طوابق بمدخل عريض، تنتشر على جانبيه أصص الزرع، مع سور تتسلقه نبتة المجنونة أو الجهنمية، وتتدلى أزهارها ذات اللون الفوشيا فتمنح ظلالاً خلابة. في هذه المساحة الخارجية، تحلو سهرات الصيف.
على رغم التباعد النفسي بين أفراد العائلة، إلا أن الكاتبة اعتمدت على وجود نوع من الدفء في السرد. يتجاور الوصف المكاني مع تقاطعات نفسية آسية، مثلاً أن تموت العمة مزنة، في اليوم نفسه الذي يموت فيه الرئيس، ويكون عفيف حائراً بين واجباته كشرطي، وبين القيام بدفن عمته واستقبال المعزين في بيته، خصوصاً وأن مرؤوسه في العمل قال له: "البلاد أهم من الأمور الشخصية، والحزن الذي انهمر في البلاد، أكبر من حزنك على امرأة جاوزت الـ90". عفيف لا يتمكن من شرح مأساته، كيف سيشرح لرئيسه أن غياب عمته يشكل فاجعته الكبرى، وأنه مع رحيلها سيموت جزء كبير من روحه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استعانت الكاتبة في بنائها السردي للرواية، باستخدام المونولوج الداخلي ضمن سرد الراوي العليم في وصفه لحال الأبطال، كما اعتمدت على النقلات الزمنية السريعة، من خلال سرد مشهدي يصف تحولات الحياة بين الأزمنة المختلفة، سواء من الجانب السياسي أو الاجتماعي. تقول: "لا يعنيها صاروخ هنا، وقذيفة هناك، فلتمض هذه الحرب إلى الجحيم، تريد أن تعيش، وتمنح غزوان حياة مختلفة، ما الذي حصله الناس من الحرب؟ صارت بلادنا مثل حمار بلا صاحب".
تعكس الرواية واقعاً قهرياً ظالماً للنساء والرجال، تكشف عنه ببساطة شديدة، ولغة سلسة على رغم قسوة المشاهد المحكية. يبدو الأبطال جميعاً كما لو أنهم مكبلون بالواقع الذي يتحكم بصيرورة حياتهم، فلا يمكنهم التمرد عليه إلا في حدود ضيقة، ومن تجرأ وقام بمغامرة تمرد كبرى، دفع ثمنها فادحاً. الأب الشرطي عفيف، وعلاقته الملتبسة مع النظام الذي يقهره، بينما هو عاجز عن ممارسة القهر على الآخرين، بل إنه لا يريد فعل هذا، ونتيجة لإحساسه الإنساني، يشي به رفاقه لرئيسه، بتهمة أنه لا يستخدم سلطته كشرطي، بل يلجأ للتراضي بين الخصوم. أما رضية فعلى رغم قوة شخصيتها، ومحاولتها التمرد على واقعها عبر تجارة الألبسة الأوروبية المستعملة، وعلاقتها بالباشا الذي يسهل لها أمورها، فإنها في قاع روحها تعاني هزيمة فادحة.
بدت شخصية غيداء أكثر الشخصيات توازناً وقدرة على تحقيق ذاتها، إنها الجزء الذي يمثل الجزء المغادر من السوريين، في المقابل وقفت أختها سمرا على النقيض، كي تظل في مكانها، عاجزة عن الذهاب بعيداً.
عمدت الكاتبة إلى الكشف عن مصائر الأبطال بشكل تدريجي، وبدا اختيارها لنهاياتهم منسجماً مع البناء النفسي والاجتماعي، الذي اختارته لهم منذ البداية. لم تلجأ إلى المفارقة أو الخروج عن المألوف في النهايات، التي جاءت متوقعة إلى حد كبير. تقول في الأسطر الأخيرة من الرواية: "اصطدم نظرها بالمفاتيح المعلقة بجانب بعضها على يمين الباب، دخلت في نوبة بكاء، تلتها نوبة ضحك، لم يبق منكم غير مفاتيح لباب وحيد، باب كنتم تدخلون وتخرجون منه من دون أن تعرفوا بعضكم بعضاً، وربما لم تلتقوا إلا قليلاً، وبمحض المصادفة أيضاً. جمعت المفاتيح، أودعتها كيساً بلاستيكياً، وضعتها على الطاولة القريبة ودخلت غرفتها، كانت تباشير الفجر بدأت، وحياة أخرى ستنهض بعد قليل".