Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فن الشرائط المصورة لم يترسخ عربيا بسبب تراجع الحريات

ازدهر مع الحراك الذي شهده الشارع العربي ثم انحسر وبات فردياً ومهرجان "كوميكس كايرو" هو المرجع

;كوميكس بريشة جورج خوري أو جاد (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

ازدهر مع الحراك الذي شهده الشارع العربي ثم انحسر وبات فردياً ومهرجان "كوميكس كايرو" هو المرجع

يشهد فن الشرائط المصورة أو "الكوميكس" رواجاً كبيراً في الأوساط الفنية والأدبية العالمية، وباتت له مهرجانات تستقطب رواداً وكتاباً ورسامين يتنافسون على تقديم أعمال جديدة هي في حال من التطور الدائم. وتبدو أرقام مبيع كتب الشرائط المصورة إلى ارتفاع دائم، مما جعلها تشكل ظاهرة مستقلة وفريدة في عالم النشر. أما العالم العربي فلا يزال متأخراً في هذا الحقل الفني والأدبي، وحركة نشر أعمال "الكوميكس" شبه خجولة أن أسماء عربية أضحت لامعة في هذا الفن عالمياً، سواء في فرنسا أو بريطانيا والولايات المتحدة، وتلقى أعمالهم إقبالاً وترحاباً لدى الجمهور والقراء والإعلام.

يشير فن "الكوميكس" أو فن الشرائط المصورة في جانب منه إلى الرسوم الهزلية أو المرحة التي تحكي قصة مترابطة ومتتابعة في سياقها، ولكن بات من المعلوم اليوم أن هذا الفن لا يقف عند حدود السخرية والهزل فقط، بل يتطرق إلى مناحٍ أخرى متعددة، سياسياً واجتماعياً وثقافياً. وهناك من يخلطون بين فن "الكوميكس" والكاريكاتير، وهما لا يرتبطان بصلة سوى في الجانب المرح أو الساخر. وفي حين يعتمد "الكوميكس" على سياق درامي متتابع من الرسوم، يختزل الكاريكاتير الفكرة أو القضية التي يتصدى لها في صورة واحدة مرسومة بطريقة هزلية، اعتماداً على المبالغة أو التبسيط في الخطوط. ويرى البعض أن هذا الخلط بين "الكوميكس" والكاريكاتير له علاقة في الغالب، بالظرف التاريخي الذي ظهر فيه هذا المصطلح، إذ كان ينظر إلى فن الشرائط المصورة وقت ظهوره بصفته امتداداً لفن الكاريكاتير.

تجارب متفرقة

لم يتأخر ظهور فن الشرائط المصورة كثيراً في المنطقة العربية منذ أن تشكلت ملامحه عالمياً كوسيط إبداعي مستقل. ويرجع البعض ظهور هذا الفن في المنطقة العربية إلى عشرينيات القرن الماضي، عبر عدد من التجارب المتفرقة والرائدة، غير أن هذه التجارب المبكرة لم يكتب لها الاستمرار. أما البداية الفعلية لانتشار هذا الفن عربياً، فقد كانت في خمسينيات القرن الماضي بجهود دور نشر في مصر ولبنان، وهذا وفقاً للورقة البحثية التي نشرتها مؤسسة حرية الفكر والتعبير المصرية عام 2016 تحت عنوان "(الكوميكس) بالعربية". في هذه الفترة ظهر في مصر عديد من الدوريات ذات التأثير الواسع مثل مجلة "سندباد" الصادرة عن دار الهلال، وكان يرسمها الفنان حسين بيكار، ثم أعقبتها مجلة "سمير". وفي عام 1959 قامت دار الهلال المصرية بعقد اتفاق مع شركة "والت ديزني" حصلت من خلاله على حقوق نشر مجلة "ميكي" حصرياً في المنطقة العربية.

على صعيد آخر تشكلت ثقافة أجيال في المنطقة العربية عبر جهود دار المطبوعات المصورة اللبنانية التي تولت تعريب سلاسل ذائعة الصيت من الشرائط المصورة الأميركية، مثل "سوبر مان" و"باتمان"، حتى توقف النشر مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. وكانت هناك محاولات للتعريب كذلك قامت بها دار "روايات مصر للجيب"، ودار الرافدين في العراق. وعلينا أن نذكر كذلك إحدى التجارب السودانية الرائدة في هذا المجال على رغم أنها لم تستمر طويلا، وهي مجلة "الصبيان" التي صدر عددها الأول في عام 1946، ومجلة "أسامة" في سوريا التي صدرت في نهاية الستينيات من القرن الماضي.

كان لفن الشرائط المصورة حضور بارز ومؤثر بالفعل منذ الخمسينيات من القرن الماضي، والفارق هنا فقط في نوعية المحتوى والفئة العمرية التي يستهدفها هذا الفن. ففي وقت تطور فيه محتوى "الكوميكس" في الغرب ليخاطب كافة الفئات العمرية، ظل "الكوميكس" في منطقتنا العربية قاصراً على الصغار وموجهاً لهم. حرم القارئ العربي لعقود من محتوى إبداعي مختلف وخلاق في وسيلة طرحه للأزمات والقضايا الملحة، في حين اتسع محتوى فن الشرائط المصورة في الغرب، ليتشكل وسيط مغاير يجمع بين الرسم والأدب في سياقات مختلفة ومتعددة، من الخيال الرحب والأبطال الخارقين، إلى المحتوى الدرامي والاجتماعي والرومانسي والهزلي، وغيرها من السياقات الأخرى التي لم يقف هذا الفن عند حدودها مكتوف اليدين، فتشكلت ملامحه سريعاً وارتبط به جمهور واسع من الصغار والكبار.

لم تتوقف المحاولات خلال النصف الثاني من القرن الـ20 في سبيل اختراق هذا الجمود المخيم على صناعة فن الشرائط المصورة الموجهة للبالغين، غير أنها لم تتبلور لتشكل تياراً عربياً متماسكاً. من أبرز هذه التجارب تأتي تجربة الرسام والباحث اللبناني جورج خوري المعروف بـ"جاد". وأسهمت جهود خوري في تأسيس ملامح هذا التوجه الجديد لفن "الكوميكس" عربياً حين أصدر أول قصة مصورة موجهة للبالغين في عام 1980 تحت عنوان "كرنفال" وتدور أحداثها حول الحرب الأهلية اللبنانية. قدم خوري لاحقاً قصصاً أخرى مثل "سيغموند فرويد" و"شهرزاد" وأسس ورشته الخاصة لمحبي "الكوميكس" في لبنان، مما فتح المجال أمام جيل جديد من رسامي "الكوميكس" اللبنانيين. وأدى هذا الحراك المحلي في لبنان إلى ظهور مشاريع واعدة في مجال "الكوميكس"، لعل أبرز هذه المشاريع يتمثل في مجلة "السمندل" وهي واحدة من المجلات الرائدة في مجال "الكوميكس" للبالغين. وظهر العدد الأول من مجلة "السمندل" عام 2007، وأتاح ظهورها المجال أمام عديد من رسامي "الكوميكس" اللبنانيين والعرب، وقد اقتحمت فضاء "الكوميكس" الأوروبي بمحتواها الذي جمع بين ثلاث لغات هي العربية والإنجليزية والفرنسية.

وفي المغرب أصدر عبدالعزيز مريد قصته المصورة "إنهم يجوعون الجرذان" عام 2000، وأتبعها برواية أخرى عام 2004 بعنوان "الحلاق". وفي عام 2005 صدرت رواية "مترو" للكاتب والرسام المصري مجدي الشافعي، وتضمنت نقداً لاذعاً لعديد من المظاهر الاجتماعية والسياسية، وصودرت الرواية لاحقاً بتهمة خدش الذوق العام.

فن الربيع العربي

أما الانفراجة الكبرى في مجال فن الشرائط المصورة فحدثت مع اندلاع أحداث "الربيع العربي" في عام 2011. بدا المشهد خلال السنوات القليلة التي أعقبت "الربيع العربي" مفعماً بالأمل والنشاط في ما يخص فن الشرائط المصورة في الدول العربية. تفجرت خلال هذه السنوات القليلة رغبة عارمة لتعويض هذا الانقطاع والجمود عن ركب تطور هذا الفن عالمياً. انطلق هذا الحراك الواعد اعتماداً على جهود فناين كثر، وظهرت إلى الوجود دوريات متخصصة في فن الشرائط المصورة، ودشنت منصات عربية مخصصة لهذا الفن لأول مرة. في مصر ظهرت مجلة "توكتوك" قبل انطلاق أحداث الثورة المصرية بأيام قليلة، وجمعت بين صفحاتها رسوماً لخمسة رسامين، هم مخلوف وأنديل وهشام وتوفيق، أما محررها فكان محمد شناوي. أعقب صدور "توكتوك" مباشرة صدور مجلة "الدوشمة" التي تولى تحريرها مجدي الشافعي صاحب رواية "مترو". وسرعان ما ظهرت دوريات مصرية أخرى مثل "جراج" و"أوتوستراد" و"العصبة" و"الشكمجية"، كما تم تأسيس مهرجان "كايرو كوميكس" الذي أسهم محمد شناوي في وضع التصور البصري له مع الكاتب والرسام مجدي الشافعي.

ظهرت كذلك مجلة "سكفكف" في المغرب التي صدر عددها الأول بعد ورشة ضمت 14 فناناً من المغرب بإدارة محمد شناوي. وفي تونس ظهرت مجلة "سوبيا" التي أسسها الفنان سيف الدين ناشي، تأسست كذلك مجلة "لاب 619" بجهود مجموعة من الفنانين التونسيين مثل زياد الماجري ونضال غرياني. كما صدرت في ليبيا مجلة "حبكة" عام 2015 بفضل جهود عدد من الرسامين الليبيين.

بعد سنوات من هذا النشاط الواعد لفن الشرائط المصورة الذي تفجر في أعقاب "الربيع العربي"، بدا أن هناك تراجعاً في الاهتمام بهذا الفن مرة أخرى. فما الأسباب التي أدت لذلك؟ وما المعوقات التي تحول دون انتشار هذا الفن واستمراره عربياً؟

لا يتفق الرسام والباحث اللبناني جورج خوري مع هذه النظرة السلبية للنشاط العربي في مجال فن الشرائط المصورة، إذ يرى أن الحضور اللافت الذي واكب أحداث "الربيع العربي" لا يزال مؤثراً، كل ما هنالك فحسب أن التنسيق والتواصل بين المجموعات العربية قد تراجعاً، كما يقول. ويرى خوري أن نشاط فن الشرائط المصورة اليوم بات يتسم بالمحلية، ولم يعد هناك سوى منصة وحيدة يمكن من خلالها التعرف على نشاط المجموعات العربية المختلفة، وهي مهرجان "كايرو كوميكس" الذي ينظم سنوياً في القاهرة منذ عام 2015. إن افتقاد التواصل قد أعطى انطباعاً عاماً بأن الاهتمام بهذا الفن قد خفت، وهو انطباع خاطئ كما يقول خوري، فالاهتمام بالشرائط المصورة قد تراجع على المستوى الجماعي، لكنه يتواصل على مستوى الأفراد. لذا يقول خوري إن هذا النشاط لم يتراجع، بل على العكس تماماً، هو يتخذ مساراً تصاعدياً.

وعن أزمة التمويل التي تواجه صناع هذا المحتوى، يرى خوري أن التمويل هو عامل مهم في انتعاش سوق "الكوميكس"، لكنه ليس العامل الأهم، فالأهم في رأيه هو حرية التعبير. إن الأزمة الكبرى التي تواجه انتشار فن "الكوميكس" وازدهاره في العالم العربي كما يقول خوري تتمثل في انخفاض سقف الحرية، وهذا ما يفسر تراجع الاهتمام بهذا الفن بعد انتكاس الثورات العربية.

يرى خوري أن حرية التعبير تعني إنتاجا أكثر وانعدامها يعني إنتاجاً أقل، وهو ما قد يفسر استمرار نشاط النشر في فن الشرائط المصورة في لبنان، فسقف الحريات الفردية في لبنان مرتفع نسبياً إذا ما قورن بعواصم عربية أخرى كما يقول. يؤمن خوري أن حرية التعبير تعد عاملاً مهماً في انتعاش الفنون جميعها، إلا إذا اعتبرنا الفن منفصلاً عن مضمونه. إن انخفاض سقف الحرية يقلص الموضوعات والقضايا التي يمكن أن يطرحها الفن، ولهذا ظل مجال "الكوميكس" في المنطقة العربية لعقود قاصراً على الدوريات الموجهة للصغار، ولكن حين أتيحت الفرصة انتقل الأداء إلى مستوى مختلف، مستفيداً من هذه الأجواء المنفتحة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يتفق الرسام المصري محمد شناوي مع جورج خوري في هذه النظرة المتفائلة إلى فن الشرائط المصورة في المنطقة العربية. يرى شناوي أنه بالمقارنة مع دول أخرى، يبدو نشاط الرسوم المصورة في المنطقة العربية مرضياً إلى حد كبير. هو نشاط متأخر كما يقول شناوي، لكنه بات يمتلك حضوراً لا يمكن تجاهله. ومن بين الأسباب المعوقة لنشاط فن الشرائط المصورة كما يقول شناوي، إحجام دور النشر عن الاستثمار في هذا المجال لأنه مكلف ومجهد. من أجل هذا يلجأ أصحاب المشاريع الفنية إلى مؤسسات خارجية قادرة على تغطية هذه الكلف، كالاتحاد الأوروبي، وهو الجهة التي تولت تمويل مشروعه الأبرز "توكتوك".

وعن تجربته مع مجلة "توكتوك" يقول شناوي إن المجلة بدأت بفكرة وتطورت تدريجاً على يد مجموعة من الرسامين والأصدقاء المهتمين بفن "الكوميكس". وكانت هناك رغبة حينها، في القيام بعمل مشترك بينهم، لشعورهم بالحاجة إلى وجود مثل هذا الوسيط في مصر.

لم يكن الأمر واضحاً في البداية، كما يقول شناوي، إلى أن قرروا البدء في خوض التجربة بصورة عملية. واتفق بالفعل على الاسم "توكتوك"، وهو اسم وسيلة المواصلات الصغيرة التي غزت معظم الأحياء الشعبية في مصر خلال العقدين الأخيرين. ويرفض شناوي وصف المجلة بأنها الأولى من نوعها كما وصفتها بعض الصحف حين صدورها، فإصدارات "الكوميكس" لها حضور في مصر منذ سنوات طويلة كما يقول، غير أن الفارق الوحيد هنا يتمثل في أن معظم هذه الإصدارات كانت موجهة للصغار أو المراهقين.

تشير هذه الإطلالة السريعة على نشاط فن الشرائط المصورة في المنطقة العربية إلى أننا لا نفتقر في حقيقة الأمر إلى المواهب والكوادر القادرة على إحداث حراك فني حقيقي في هذا المجال. يحتاج الأمر فقط إلى مناخ مناسب لتنطلق هذه المواهب وتبدع. في هذا السياق نذكر هنا على سبيل المثال تجربة الفنان السوري رياض سطوف (1978)، وهي إحدى التجارب العربية البارزة والناجحة اليوم في أوروبا، وتحديداً في فرنسا. لقد حقق سطوف نجاحاً لافتاً في هذا المجال، وتوج مسيرته أخيراً بحصوله على الجائزة الكبرى في مهرجان أنغوليم في فرنسا عام 2023. وعمل سطوف في أكثر من دورية فرنسية مخصصة لفن الشرائط المصورة، وعرف بين الأوساط العربية في فرنسا حين بدأ في نشر الأجزاء الثلاثة من كتابه "عربي المستقبل" عام 2014. قدم سطوف في هذه الثلاثية انطباعاته الشخصية كطفل صغير حول الحياة في سوريا، ثم انطباعاته حول ليبيا، التي أقام فيها مع أسرته سنوات عدة. المحتوى الذي يضمه كتاب سطوف يحمل رؤية منتقدة للأوضاع السياسية والاجتماعية في ظل حكم قمعي متشابه في كلا البلدين، ورؤية شخصية لأسباب هذا القمع والعنف في ظل هذه الأنظمة وغيرها، وهو ما يتعذر الإفصاح عنه في مناخ غير مرحب بالنقد أو التعبير.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة