بعد رحيل الرئيس جورج دبليو بوش وتواري "المحافظين الجدد" عن الأنظار، شهدت واشنطن صعوداً في الخطاب المناهض لتغيير الأنظمة، حيث اشتد صوته في دوائر الديمقراطيين والجمهوريين، وأصبح عدد كبير من الحزبين ينتقدون الكلفة الباهظة للتدخلات الأميركية مقابل العوائد المرجوة منها، مستشهدين بحربي أفغانستان والعراق.
لكن النفور الملاحظ من الحروب والانقلابات ليس سائداً في التاريخ الأميركي بقدر المحاولات الكثيرة لإسقاط الحكومات المعادية للسياسة الأميركية، فمن 1898 إلى 1994، شرعت الولايات المتحدة في ما لا يقل عن 41 محاولة ناجحة لتغيير النظام في أميركا اللاتينية، أي بمعدل دولة كل 28 شهراً، وحدث التدخل المباشر في 17 حالة منها، باستخدام القوة العسكرية وعملاء الاستخبارات أو المواطنين المحليين العاملين لمصلحة الحكومة الأميركية.
وحاولت الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة بين عامي 1947 و1989 تغيير حكومات دول أخرى 72 مرة. وفي منطقة الشرق الأوسط تبنت واشنطن كلاً من قوتيها العسكرية والاستخباراتية لإسقاط الأنظمة المعارضة لمصالحها وسياساتها، مثل الانقلاب الذي خططته الاستخبارات الأميركية على حكومة رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق عام 1953، وإطاحة الرئيس العراقي صدام حسين بعد حرب 2003 التي ما زالت تلقي بتداعياتها على الشرق الأوسط بأكمله.
سمة ثابتة ونهج متراجع
تثير المحاولات الأميركية الكثيرة للانقلاب على الحكومات تساؤلات من قبيل هل تغيير الأنظمة مغروس في الحمض النووي للسياسة الخارجية الأميركية أم أنها طارئة عليها كلما اضطر البيت الأبيض إلى حماية مصالحه؟
يرد عمر كريم الباحث في شؤون الشرق الأوسط بجامعة برمنغهام البريطانية على سؤال "اندبندنت عربية" قائلاً إن نهج تغيير النظام لطالما كان "سمة ثابتة" في السياسة الخارجية الأميركية ويطبق على كل دول المنطقة تقريباً باستثناء إسرائيل، مضيفاً بأن الولايات المتحدة دعمت في بعض الأحيان عملاء موالين لها ضد دول معارضة لسياستها في المنطقة.
وأفاد الباحث بأن فعالية هذا النهج تراجعت بمرور الوقت وستضعف تدريجاً، إذ إن الوصول إلى المعلومة وتفاصيل العمليات الأميركية أصبح معروفاً للعامة في السنوات الأخيرة مع تنامي المعلومات وسهولة الوصول لها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مشيراً إلى أنه بعد تزايد خطاب المبلغين عن المخالفات، أصبحت جهود تغيير الأنظمة مكشوفة وتثير استياءً قوياً.
ويزخر التاريخ الأميركي بمحاولات كثيرة لإسقاط الأنظمة، بعضها تكشف لاحقاً بعد حدوثها، واعترفت الاستخبارات الأميركية بالضلوع فيها، وفي هذا التقرير نستعرض بعضاً من هذه المحاولات الناجحة والفاشلة، والدروس التي تُستخلص منها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إطاحة محمد مصدق
في عام 1951، انتخب محمد مصدق رئيساً للوزراء في إيران، ودشّن سلسلة إصلاحات سياسية واقتصادية كان من أبرزها تأميم صناعة النفط في البلاد التي قامت في 1913 بمساعدة بريطانيا.
لاقى تأميم صناعة النفط ترحيباً في الأوساط الإيرانية وقفزت شعبية مصدق، إلا أنه انعكس سلباً على علاقته بالولايات المتحدة وبريطانيا اللتين خشيتا من تضاؤل نفوذهما في إيران وتضرر مصالحهما النفطية، وأدت هذه المخاوف إلى تدخل الاستخبارات الأميركية والبريطانية عام 1953، لإسقاط حكومة مصدق وتعزيز سلطة الشاه محمد رضا بهلوي لأكثر من 25 عاماً.
ويظهر الانقلاب على مصدق حرص الولايات المتحدة على مصالحها إلى حد التدخل للإطاحة بحكومة وصلت إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع. كما يعكس التدخل الأميركي الأهمية التي أولتها واشنطن للنفط في تلك الحقبة، وإلى أي مدى سوف تذهب للدفاع عن مصالحها الاستراتيجية القائمة على الطاقة.
في حين كان تأميم صناعة النفط الإيرانية في الخمسينيات كافياً لدفع أميركا نحو تغيير الحكومة المسؤولة عن القرار، تتجنب الولايات المتحدة اليوم سياسة تغيير النظام الإيراني، على رغم اتهامها له باستهداف الجنود الأميركيين والقواعد والمصالح الأميركية بشكل مباشر وغير مباشر. كل ذلك لم يدفع واشنطن إلى إطلاق ما يماثل في الجهد والحجم "عملية أجاكس" التي أسقطت حكومة مصدق.
انطلقت "عملية أجاكس" في أعقاب توجيه وزير الخارجية جون فوستر دالاس في مارس (آذار) 1953، الـ CIA التي كان يرأسها شقيقه الأصغر ألين دالاس، بوضع خطة للإطاحة برئيس الوزراء الإيراني. وسرعان ما خصصت الاستخبارات الأميركية في 4 أبريل (نيسان) مليون دولار لهذا الغرض، وبدأت محطتها في طهران بشن حملة دعائية ضد مصدق.
وفي يونيو (حزيران)، اجتمع مسؤولو الاستخبارات الأميركية والبريطانية في بيروت لوضع اللمسات الأخيرة على استراتيجية تغيير النظام الإيراني، وقادها من طهران رئيس قسم الشرق الأدنى وأفريقيا في الـ "سي آي أي"، كيرميت روزفلت جونيور، حفيد الرئيس الأميركي ثيودور روزفلت.
وركّزت عملية "أجاكس" على إقناع محمد رضا بهلوي بإصدار مرسوم بإقالة مصدق من منصبه، كما حاول قبل بضعة أشهر، لكن الشاه كان مرعوباً من الإقدام على تلك الخطوة "الخطيرة وغير الشعبية" آنذاك. وبعد المحاولات والضغوط الأميركية والبريطانية غيّر الشاه رأيه.
ويروي ضابط الاستخبارات دونالد ويلبر، الذي شارك في العملية بأن عملاء الـ "سي آي أي" في إيران تظاهروا في أوائل أغسطس (آب) بأنهم اشتراكيون وقوميون وهددوا القيادات الدينية بعقاب وحشي حال معارضتهم مصدق، مما أعطى الانطباع بأن الأخير كان يقمع المعارضة.
وكشفت الوثائق التي رفعت عنها السرية ونشرتها الـ "سي آي أي" عام 2017 أنه وبعد فرار الشاه إلى إيطاليا، ظنت الوكالة أن الانقلاب قد فشل. وبعد الانقلاب الأولي الفاشل الذي قام به الجنرال فضل الله زاهدي الذي شغل منصب وزير الداخلية في حكومة مصدق، أرسلت الـ "سي آي أي" إلى روزفلت برقية في 18 أغسطس 1953 تطلب منه مغادرة إيران فوراً، لكن روزفلت تجاهلها وبدأ العمل على الانقلاب الثاني، وتداول رواية كاذبة مفادها أن مصدق حاول الاستيلاء على العرش ورشوة العملاء الإيرانيين.
تضمنت خطة الاستخبارات الأميركية الدفع للمتظاهرين، وخداع مصدق لحث أنصاره على البقاء في منازلهم، ورشوة وتعبئة الضباط ضده، مما أدى إلى مواجهة عسكرية خارج منزل مصدق، واندلعت تظاهرات واسعة مناهضة له في جميع أنحاء طهران وأماكن أخرى حيث استعد رجال القبائل لمساعدة الانقلاب جنباً إلى جنب المتظاهرين المناهضين والمؤيدين للملكية، ممن تلقوا الأموال الأميركية.
وتحولت الاحتجاجات إلى أعمال عنف متزايدة، مما أسفر عن مقتل ما يقرب من 300 شخص وانتهى الأمر بإعلان الجنرال زاهدي أمراً باعتقال مصدق عبر الراديو، ليتم نقله لاحقاً إلى سجن عسكري.
وفسح انقلاب الـ "سي آي أي" الطريق لمحمد رضا بهلوي الذي وسع سلطاته ووطد أركان حكمه لأكثر من 25 عاماً، اتسمت بعلاقات ودية مع الولايات المتحدة. وتوصلت طهران إلى اتفاق مع شركات النفط الأجنبية لإعادة النفط الإيراني إلى الأسواق العالمية بكميات كبيرة، مما أعطى الولايات المتحدة وبريطانيا نصيب الأسد من الممتلكات البريطانية المستعادة.
إطاحة سلفادور الليندي
مرةً أخرى في عام 1973 تخلّت الولايات المتحدة عن مبدأها في دعم الديمقراطيات وتآمرت ضد الحكومة التشيلية المنتخبة برئاسة سلفادور الليندي بسبب توجهاته الاشتراكية، إذ موّلت واشنطن القوات المعارضة له وسلّحتها، ممهدةً لقيام النظام العسكري بقيادة الجنرال أوغستو بينوشيه الذي حكم حتى عام 1990.
ويرى مراقبون أن التدخل الأميركي قتل تجربة الديمقراطية في تشيلي، نظراً إلى الدور الذي لعبته الـ "سي آي أي" في تهيئة الظروف للانقلاب، والدعم الأميركي اللاحق للنظام الجديد، وخلق ذلك تصوراً عاماً داخل أميركا اللاتينية وخارجها بأن واشنطن، على رغم ادعاءاتها بمناصرة الديمقراطية، تفضل الأنظمة الاستبدادية "الصديقة" على احتمال التعامل مع حكومات عدم انحياز أو حكومات منتخبة ديمقراطياً ذات ميول يسارية من الاستيلاء على السلطة في المناطق التي تعتبرها ضمن نطاق نفوذها.
ووفق إحاطة سرية قدمها هنري كيسنجر لريتشارد نيكسون، فقد خشي الرئيس الأميركي من أن ينكشف دور بلاده، وقال له، "بصماتنا غير ظاهرة، أليس كذلك؟"، ليرد عليه كيسنجر، "نحن لم نفعل ذلك".
يذكر بيتر كورنبلوه، مؤلف كتاب "ملفات بينوشيه" في مقابلة سابقة بأن كيسنجر تجاهل حقيقة أن عملاء الولايات المتحدة كانوا يقودون الدبابات ويقدمون المعلومات الاستخباراتية، ويحلقون بالطائرات التي قصفت قصر مونيدا الرئاسي.
وفي الإحاطة للرئيس يضيف كيسنجر قائلاً، "أعني أننا ساعدناهم"، أي أنه تم خلق أفضل الظروف، وهو وصف دقيق وفق كورنبلوه، للدور الأميركي في انقلاب تشيلي الذي شمل دعم الحملات الدعائية ضد الليندي، وتمويل قناة "إل ميركوريو"، التي كانت في تشيلي وقتها بمثابة "فوكس نيوز" للحث على تنفيذ الانقلاب.
وأوضح كورنبلوه أن الولايات المتحدة لم يكن لها دور مباشر على الأرض في انقلاب تشيلي، ولم يكن الجيش التشيلي دمية في يد الولايات المتحدة، لكن واشنطن أسهمت في تهيئة الظروف التي من شأنها أن تعزز حدوث ضغط اجتماعي على الجيش للتحرك، وهو ما حدث.
إطاحة صدام حسين
جددت واشنطن مغامراتها في الشرق الأوسط بغزو العراق عام 2003، بعدما ادعت وحلفاؤها أن العراق يشكل تهديداً للأمن الدولي بامتلاكه أسلحة دمار شامل مثل الأسلحة الكيماوية والبيولوجية.
وفيما نجحت الولايات المتحدة في إزاحة صدام حسين وإدخال التجربة الديمقراطية، إلا أن تداعيات الحرب ومنها تغلغل النفوذ الإيراني في العراق، وتشكل الميليشيات المسلحة، وانتشار الإرهاب والتطرف والطائفية، إضافة إلى العوائق التي تواجه المؤسسات الديمقراطية بمثابة شواهد على إشكالية التدخل الأميركي لتغيير النظام بالقوة العسكرية.
انقلاب غواتيمالا
في الخمسينيات، لم يشفع وصول رئيس الحكومة الغواتيمالية جاكوبو أربينز عبر الانتخابات له عند واشنطن التي سارعت بعد ثلاث سنوات من وصوله للسلطة إلى إسقاط حكومته بسبب مخاوف من النفوذ الشيوعي في المنطقة. ونفذت الـ "سي آي أي" عملية يُرمز لها باسم PBSUCCESS لإسقاط حكومة أربينز، عبر دعم وتسليح مجموعة من المنفيين الغواتيماليين بقيادة العقيد كارلوس كاستيلو أرماس، الذي أطاح في نهاية المطاف أربينز في يونيو (حزيران) 1954.
وفيما يُنظر إلى التدخل في غواتيمالا كجزء من استراتيجية الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة لاحتواء انتشار الشيوعية في أميركا اللاتينية، إلا أن مصالح الشركات الأميركية لعبت دوراً كذلك، إذ إن أربينز بدأ بعد انتخابه في 1951 سلسلة من الإصلاحات التقدمية المعروفة باسم "الربيع الغواتيمالي"، والتي تضمنت الإصلاح الزراعي لإعادة توزيع الأراضي من كبار ملاك الأراضي إلى الفلاحين، الأمر الذي هدد مصالح شركة "يونايتد فروت"، وهي شركة أميركية تمتلك مساحات شاسعة من الأراضي في غواتيمالا.
ويعكس مآلات تغيير النظام في غواتيمالا إلى التداعيات غير المحسوبة نتيجة الدعم الأميركي لأرماس وعدم اكتراث واشنطن بشكل الحكم الذي يمكن أن ينشأ بعد تمكينها للانقلاب، حتى لو كانت دكتاتورية عسكرية تغرق البلاد في دائرة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، والاضطرابات الاجتماعية، والصراع المسلح، وذلك ما حدث.
دعم الكونترا
اتخذت المبادئ الأميركية من المقعد الخلفي مكاناً لها في عهد رونالد ريغان، عندما أراد في 1981 إسقاط حكومة الساندينستا الاشتراكية في نيكاراغوا، فدعم "الكونترا" وهي حركة مناهضة قاتلت ضد حكومة الساندينستا اليسارية الثورية.
إذ نظرت الولايات المتحدة إلى حكومة الساندينستا التي وصلت إلى السلطة في نيكاراغوا عام 1979، بعد إسقاطها النظام الاستبدادي لأنستاسيو سوموزا، على أنها تهديد بسبب علاقاتها الوثيقة مع الاتحاد السوفياتي وكوبا، فضلاً عن دعمها لحركات التمرد اليسارية في البلدان المجاورة.
ولتحييد خطرها ودحر النفوذ الشيوعي في أميركا الوسطى، تبنت إدارة ريغان، سياسة الدعم النشط لحركة "الكونترا"، وقدمت الدعم المالي والعسكري واللوجستي لقواتها، مما سمح لها بشن هجمات ضد أهداف عسكرية وبنية تحتية تابعة للساندينيين.
كما أجرت الـ "سي آي أي" عمليات سرية في نيكاراغوا شملت زرع الألغام في موانئ نيكاراغوا لمنع وصول شحنات الأسلحة الأجنبية وتوفير المعلومات الاستخبارية لمتمردي الكونتر بهدف زعزعة استقرار حكومة الساندينستا وإضعاف قبضتها على السلطة. وإضافة إلى الدعم العسكري لقوات "الكونترا"، فرضت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية وعزلة دبلوماسية على حكومة الساندينستا، فضلاً عن حشد الدعم الدولي لقوات الكونترا.
وأطلقت إدارة ريغان حملة دعائية لشيطنة حكومة الساندينيين وتصوير قوات "الكونترا" على أنهم مقاتلون من أجل الحرية يقاومون الطغيان الشيوعي، وتم الترويج لهذه الرواية عبر القنوات الإعلامية والخطابات العامة لمسؤولي الإدارة.
وأصبح الدعم الأميركي لقوات "الكونترا" في دائرة الضوء بعدما انكشفت حيلة إدارة ريغان لتمويل الحركة، من خلال أموال صفقة السلاح التي أبرمتها مع إيران، في الوقت الذي كان فيه يمنع الكونغرس تمويل الكونترا وبيع الأسلحة لطهران.
وأسفر الصراع عن مئات آلاف القتلى والنازحين، وتسبب في تدمير شامل للبنية التحتية في البلاد، وأدت العقوبات الأميركية إلى صعوبات اقتصادية كبيرة في نيكاراغوا، وتفاقم الفقر والبطالة، وهروب رؤوس الأموال. ولم يحقق التدخل الأميركي هدفه الرئيس المتمثل في الإطاحة بحكومة الساندينستا، بل أطال أمد الصراع، وفاقم المعاناة الإنسانية، وترك إرثاً من عدم الثقة والاستياء تجاه الولايات المتحدة في نيكاراغوا.