ملخص
حرر الأميركيين من الإنجليز واحتفظ بالعبيد وأحب زوجة صديقه
لماذا يحتل اسم جورج واشنطن، مكانة متقدمة للغاية، تلي أبراهام لنكولن في قلوب الأميركيين؟ هل لأنه أول رئيس بعد الاستقلال وإعلان الجمهورية، أم لأنه الرجل الذي وضع منصب الرئاسة على بداية طريق طويل واضح ومستقيم، لا سيما بعدما جاء الدستور الأميركي، خلواً من مبادئ عمل الرئيس، كما أنه لم يتضمن حق الشعب الأميركي في التمتع بحكومة مؤثرة وقادرة على تمثيله؟
واقع الحال يخبرنا أن جورج واشنطن ملأ فراغاً مهماً في حياة الجمهورية الأميركية الوليدة، وذلك من خلال اعتماد الأميركيين على تفسيراته للدستور، إضافة إلى انصياع الشعب في ذلك الوقت لقيادته، إذ إنه حاول قدر استطاعته أن يقلل من عدم ثقة الأميركيين في مؤسسة القيادة المركزية، وأن تنال الجمهورية الوليدة قدراً لا بأس به من الاحترام والشرعية.
في مؤلفه: "الرئاسة الأميركية تشريف أم تكليف؟"، يبين لنا عالم السياسة الأميركي توماس كرونين، كيف أن جورج واشنطن من القلائل الذين نالوا شهرة واسعة على مستوى العالم في عصره، فقد كان بطلاً حربياً قبل أن يتولى الرئاسة، إذ كان قائداً متميزاً للثوريين لمدة ثماني سنوات، وكان هو البطل الرئيسي بعد الانتصار. وقد تميز واشنطن بعدة سمات فريدة، مثل الاستقامة وسداد الحكم وطول مدة خدمته لبلده، سواء عسكرياً أو مدنياً، بالإضافة إلى تفانيه الشديد في عمله العسكري والمدني.
في موسوعته الكبيرة "التاريخ الشعبي للولايات المتحدة"، يصف المؤرخ الأميركي هوارد زن، واشنطن بأنه رجل استثنائي عرفته الولايات المتحدة في وقت مصيري، وقد عرف كيف يحمل مشعل النور المضاء بنار الثورة أمام شعبه.
هل كان واشنطن فيلسوفاً عظيماً أو خطيباً مفوهاً، أو ربما محامياً بارعاً أو حتى مسؤولاً نقابياً يشار إليه بالبنان؟
المؤكد أنه لم يكن فيه أي من تلك الصفات المتقدمة، غير أنه كان جندياً متوقد الذكاء حصيفاً بما يكفي لكي يظهر نفسه للأمة على أنه الرجل الذي تحتاجه، فقد ظهر كبطل قومي أولته الجماهير ثقتها، ذلك أن أميركا في تاريخها لم يكن لديها رمز تاريخي عام تلتف حوله هامات الشعب الأميركي في لحظات المجد والفخر القومي سوى بعض الرموز البريطانية، وهذا بالضبط ما فعله المواطنون الأميركيون. وقد تقبل جورج واشنطن ذلك بذكائه المعهود، حتى أنه استغل تلك الثقة الكاملة من الشعب في إضفاء الشرعية على منصبه وعلى الحكومة الوطنية التي ذاق الأمرين طوال حياته لكي يريا النور.
من أين للمرء أن يبدأ قصة حياة هذا الرمز الأميركي الكبير، وأول القياصرة الأميركيين رسمياً؟
في فيرجينيا كانت البدايات
التأريخ الشخصي لجورج واشنطن من المهام الصعبة، لا سيما أنه لا يوجد الكثير من المعلومات عن بداياته، سوى ما جاء في موسوعة المعارف البريطانية من أنه ولد في 22 فبراير (شباط) من عام 1732، في مزرعة عائلته في منطقة بويس كريك في مقاطعة ويستمورلاند في مستعمرة فيرجينيا البريطانية.
والده أوغسطين واشنطن، ذهب إلى الدراسة في إنجلترا ثم عاد ليستقر في إدارة أملاكه المتنامية في فيرجينيا، كما أن أسلافه كانوا من النبلاء الإنجليز، وقد منح ملك إنجلترا هنري الثامن أراضي للعائلة التي شغل أفرادها مناصب مختلفة.
غير أن حظوظ الأسرة تراجعت مع الثروة البيوريتانية في إنجلترا (1660-1688)، وهاجر جون واشنطن، جد أوغسطين، في عام 1657 إلى مستعمرة فيرجينيا في العالم الجديد.
تفيد المعلومات المتاحة بأن والد واشنطن، السيد أوغسطين، كان من النشاط والمهارة، حد أنه امتلك بدوره أراضي واسعة، وبنى مطاحن للحبوب، وشارك في استغلال مناجم للحديد.
لا يعرف سوى القليل عن طفولة جورج واشنطن المبكرة، التي قضى معظمها في مزرعة "فيري" على نهر "راباهوك" في مستعمرة فيرجينيا.
حين توفي والده كان جورج في الحادية عشرة من عمره، وبات تحت وصاية أخيه الأكبر غير الشقيق لوارني، وقد كان رجلاً طيباً قدم لأخيه الصغير الرعاية الحكيمة والحنونة، وعلى رغم ذلك لم يتحصل جورج على شهادات علمية عالية، إذ مارس الدراسة بشكل غير منتظم.
في سن السادسة عشرة من عمره عمل كمساح للأراضي، وبعد عام تم تعيينه مساحاً لمقاطعة كولبيبر بمستعمرة فيرجينيا وهو أول منصب عام له.
في العشرين من عمره اندلعت الحرب الأنجلو فرنسية، ويومها لم تكن إنجلترا في أحسن حالاتها على عكس الفرنسيين الذين أنهوا مشكلاتهم في كندا، وتحالفوا مع الهنود الحمر.
في هذه الأجواء المتوترة، بدت الحياة العسكرية وكأنها تنادي جورج واشنطن من بعيد، فلم يتوان عن تلبية النداء، إذ انضم إلى ميليشيات المستعمرات البريطانية وكان ذلك في عام 1752.
بعد نحو عامين، كانت أميركا على موعد مع الحرب "الفرنسية - الهندية"، التي عرفت في القارة الأوروبية باسم "حرب السنوات السبع"، عندما شرعت فرنسا في التوسع في وادي نهر أوهايو، حيث نشب الصراع بين الفرنسيين وحلفائهم الهنود من جانب والمستعمرات البريطانية من جانب آخر في عام 1754، ولحقت بالفرنسيين الهزائم في العديد من المعارك، ومع سقوط مونتريال في سبتمبر (أيلول) من عام 1760، خسرت فرنسا آخر موطئ قدم لها في كندا.
في تلك الحرب ظهر نبوغ جورج واشنطن العسكري، وأبلى بلاء رائعاً، جعله يتقدم في صفوف القوات الإنجليزية، ليحصل من بعدها على رتبة كولونيل (عقيد) في الجيش البريطاني، ويتقلد قائد قوات فيرجينيا ونورث كارولينا، قبل أن يعود إلى الاهتمام بالزراعة ويقدم على الزواج.
مارثا كوستيس والحياة السياسية
بحلول عام 1759، ترك واشنطن الحياة العسكرية في الجيش البريطاني، بعد صولات وجولات، أظهر فيها الكثير من الشجاعة والثبات، وعرف عنه الإقدام والذكاء، على رغم أنه لم يدرس يوماً العلوم العسكرية.
عاد جورج إلى مقاطعة "ماونت فيرنون"، وهناك انتخب عضواً في مجلس ولاية فيرجينيا، حيث خدم لفترة طويلة امتدت لعام 1774.
كان الحدث الكبير والمهم في حياة جورج واشنطن زواجه من مارثا كوستيس عام 1759، وكانت أرملة ثرية لديها طفلان، وأصبح واشنطن زوج أم مخلصاً لولديها، ولم تنجب منه مارثا أطفالاً.
خطط واشنطن لتوسعة ممتلكاته من الأراضي الزراعية، وإحداث ثورة زراعية بدأها بشراء الأراضي المحيطة بـ3000 فدان التي يمتلكها في مقاطعة "ماونت فيرنون"، ابتداء من عام 1557، وبحلول وقت وفاته، كان يملك ما يقرب من 8000 فدان المحيطة بمزرعته.
من الواضح أن مارثا كوستيس كانت صاحبة ثروة لا بأس بها، مكنته من أن يجعل منزله الذي لا يتجاوز حجمه الطابق ونصف، يتسع ليصل إلى قصر مساحته 11 ألف قدم مربعة، مع تحديث كافة ما يلزم من تشطيبات ومفروشات معتمداً على وفرة ما لدى زوجته، الأمر الذي أظهره بمظهر نخبوي في وسط الأميركيين في فيرجينيا بنوع خاص.
هل كانت الطموحات المالية لجورج واشنطن، هي التي ستقوده عما قريب للانقلاب على البريطانيين والسعي في طريق استقلال البلاد والعباد، وبدء تأسيس الجمهورية الأميركية، مع عدد من الآباء المؤسسين الذين يذكرهم التاريخ، وفي مقدمهم توماس جيفرسون، الأداة الرئيسة وصاحب أول ريشة في كتابة وثيقة الاستقلال الأميركية؟
غالب الظن أن ذلك كذلك، فقد عرف عن جورج أنه مهتم إلى أبعد حد ومد بمزارعه وتجارته، وبتنمية ثروته، وبالحياة الرغدة التي وفرتها له أراضيه.
غير أن البريطانيين بدا أن لهم رأياً آخر، ففي أواخر عام 1760 شهدت واشنطن العاصمة ضجراً كبيراً من جراء زيادة الضرائب التي فرضها البريطانيون على المستعمرين الأميركيين.
هنا وعلى رغم ثروته الطائلة، وجد جورج واشنطن نفسه مديناً للتجار البريطانيين بسبب النظام التجاري الذي حكم الإمبراطورية البريطانية، بحيث أجبرت حكومة بريطانيا المستعمرات على الشراء والبيع من التجار البريطانيين، وفاقمت سلسلة الإجراءات الضريبية التي أقرها البرلمان البريطاني سداد الديون المستحقة خلال حرب السنوات السبع من الوضع، وكذا إقراره قانون الشاي عام 1773.
واشنطن والمؤتمر القاري الأول
المؤتمر القاري أو الكونغرس القاري الأول كان اجتماعاً لممثلين من اثني عشر من المستعمرات الثلاث عشرة، انعقد في الفترة بين 5 سبتمبر (أيلول) و26 أكتوبر (تشرين الأول) 1774 في قاعة كاربنترز في فيلاديلفيا/ بنسلفانيا في أوائل الثورة الأميركية. تم عقد الكونغرس بسبب إصدار البرلمان البريطاني قراراً يعاقب فيه ماساتشوستس على حفلة شاي بوسطن.
حضر الكونغرس 56 ممثلاً من اثني عشرة مستوطنة باستثناء جورجيا التي رفضت إرسال ممثلين رغبة منها بالحصول على مساعدة من بريطانيا بخصوص مشكلات الأميركيين الأصليين.
كان هذا المؤتمر الفرصة الأولى التي لمع فيها اسم جورج واشنطن، لا سيما بعد أن شجع على مقاومة الإجراءات الضريبية البريطانية، وامتنع شخصياً عن شراء البضائع البريطانية كجزء من اتفاقية عدم الاستيراد.
لاحقاً سوف يقدر لجورج أن يكون مرة جديدة محوراً لما يعرف بالكونغرس أو المؤتمر القاري الثاني، وهو اجتماع مندوبي اثنتي عشرة مستعمرة بريطانية من أصل ثلاث عشرة مستعمرة انضمت إلى الحرب الثورية الأميركية.
انعقد المؤتمر في 10 مايو (أيار) 1775 في فيلادلفيا/ بنسلفانيا بعد فترة وجيزة من معارك ليكسينغتون وكونكورد، خلفاً لاجتماع الكونغرس القاري الأول.
عمل الكونغرس الثاني كحكومة وطنية بحكم الأمر الواقع في بداية الحرب الثورية من خلال رفع الجيوش، وتوجيه الاستراتيجية، وتعيين الدبلوماسيين، والكتابات مثل إعلان أسباب وضرورة حمل السلاح وعريضة "غصن الزيتون".
في النهاية اعتمد القرار الذي أكد استقلال المستعمرات في 2 يوليو (تموز) 1776، ووافق على إعلان الاستقلال بعد يومين.
والثابت تاريخياً أنه خلال المؤتمرين أثبت جورج واشنطن أنه قائد عسكري محنك، فلم تكن قوته في عبقريته في ساحة المعركة، ولكن في قدرته على الحفاظ على تماسك الجيش الأميركي.
لم تكن معارك جورج واشنطن مع البريطانيين أمراً هيناً، كما لم يكن الاستقلال ثمرة ناضجة أينعت وحان قطافها، لا سيما أن قواته لم تكن مدربة تدريباً عالي المستوى، بل كثيراً ما افتقرت إلى الطعام والمؤن، عطفاً على الإمدادات الأخرى.
على رغم هذا وذاك، نجح جورج في تحفيزهم وبث روح الوطنية والقتال فيهم، وطوال ثماني سنوات من الصراع ضد الجيش البريطاني، أثبت الرجل أنه يستحق أن يكون قائد أميركا الأول وبجدارة.
كثيراً ما تعثرت القوات تحت قيادة جورج واشنطن في مواجهة البريطانيين، المدربين تدريباً عسكرياً راقياً ومتقدماً ولهم خبرات قتالية، غير أن عزيمة الرجل لم تكن تعرف الخضوع أو الخنوع، ولهذا مضت قدماً، ووجدت مساعدة من القوات الفرنسية التي تحالفت معهم ضد منافسيهم البريطانيين.
كانت معركة يوركتاون أو حصار يوركتاون عام 1781 إحدى المعارك الحاسمة في حرب الاستقلال الأميركية، حيث حاصرت القوات الأميركية الجيش الإنجليزي بقيادة الجنرال تشارلز كورنيليوس في يوركتاون.
لاحقاً انضمت إليها الإمدادات الفرنسية البرية والبحرية التي وصلت لمساعدة الأميركيين ضد الإنجليز، فأحكموا الحصار ما أضطر كورنيليوس للتسليم. وكانت كارثة كبيرة على الإنجليز حيث اضطرت الحكومة البريطانية إثر هذه المعركة إلى قبول المفاوضة مع الولايات والاعتراف بها.
انتهت بذلك حرب الاستقلال وأضحى واشنطن قولاً وفعلاً بطلاً قومياً.
واشنطن والطريق إلى الرئاسة
أشرف جورج واشنطن على معاهدة باريس التي وقعت في العاصمة الفرنسية من قبل ممثلي ملك المملكة المتحدة جورج الثالث وممثلي الولايات المتحدة الأميركية في 3 سبتمبر (أيلول) 1783، والتي أنهت الحرب بشكل رسمي. رسمت المعاهدة الحدود بين الإمبراطورية البريطانية في أميركا الشمالية والولايات المتحدة الأميركية على خطوط "سخية للغاية" بالنسبة للأخيرة، وتضمنت التفاصيل حقوق الصيد واستعادة الملكيات وأسرى الحرب.
تعرف هذه المعاهدة ومعاهدات السلام المنفصلة بين بريطانيا العظمى والأمم التي دعمت القضية الأميركية (فرنسا وإسبانيا وهولندا)، مجتمعة باسم سلام باريس، ولا يزال نافذ المفعول البند رقم 1 فقط من المعاهدة، الذي يقر بوجود الولايات المتحدة كدولة حرة وذات سيادة مستقلة.
للمرة الثانية يفضل جورج واشنطن العودة إلى حياة الهدوء والسكينة، من خلال عودته إلى مزرعته في "ماونت فيرنون"، تاركاً مجد الجنرال العسكري، ذاك الذي حقق من خلاله انتصارات عسكرية كبيرة.
غير أن القدر كان له بالمرصاد من جديد، ففي عام 1787 ترأس اجتماع الاتفاقية الدستورية التي صاغت الدستور الأميركي الحالي.
كانت قيادته العقلانية والرصينة لهذا الاجتماع التأسيسي، مثاراً لإعجاب مندوبي بقية الولايات المشاركة، ولذلك طلبوا إليه أن يصبح أول رئيس للولايات المستقلة.
في البداية رفض واشنطن تولي الرئاسة، لكنه لاحقاً استسلم لمطالبات المندوبين، وفي السابع من يناير (كانون الثاني) من عام 1789، أجريت أول انتخابات رئاسية، وفاز بسهولة في عملية الاقتراع، كما أصبح جون آدامز، الذي حصل على ثاني أكبر عدد من الأصوات أول نائب رئيس للبلاد.
كانت الولايات المتحدة دولة صغيرة عندما تولى واشنطن رئاسة البلاد، لم تزد وقتها على 11 ولاية وحوالى 4 ملايين شخص، كما لم تكن هناك سابقة لكيفية إدارة الرئيس الجديد للأعمال التجارية المحلية أو الأجنبية.
لكن وعلى رغم ذلك، فقد تميز جورج واشنطن باحترامه العميق لقرارات الكونغرس، إذ لم يسع لتجاوز صلاحيات المجلس التشريعي الدستورية، وعمل على تحييد أميركا وعدم إقحامها في الصراع الدائر بين بريطانيا وفرنسا، ورفض الأخذ بآراء العديد من وزرائه في التحيز لإحدى الدولتين.
لقد فسر الكثيرون نصوص الدستور، وبخاصة الفقرات المتعلقة بالقيادة الرئاسية، ولكن المهم هو أنه عُهد إلى الرئيس جورج واشنطن بتنفيذ التعهدات التي يقتضيها المنصب الرئاسي وتأسيس المنهج الذي سيسير على خطاه الجميع على مدار حياة هذه الأمة.
أدرك واشنطن في تلك اللحظات الحاسمة أن عملية تنفيذ بنود الدستور الأميركي قد بدأت لتوها، إذ إن الوثائق المكتوبة لا تعدو كونها حبراً على ورق، إن لم تكن قيد التنفيذ، وقد أدرك أيضاً أن القيمة الحقيقية للدستور تكمن في اشتماله على العادات والتقاليد والممارسات والتأويلات والسوابق، وذلك لإزالة مواطن الغموض في الفقرات المكتوبة، وهذا هو ما قام به ليمهد الطريق للرؤساء التالين له.
ومن ضمن ما يدين به النظام السياسي الأميركي للرئيس الأسبق واشنطن، هو قيامه بأداء دور رئيس الدولة بإتقان إضافة إلى المهام الرمزية المنوطة بالرؤساء حالياً، فعندما قرر واضعو الدستور الأميركي تفويض مسؤولية استقبال السفراء وأصحاب المقامات الرفيعة الأجانب إلى رئيس الولايات المتحدة، تم بذلك إعلان أن رئيس الولايات المتحدة هو قائد الدولة ورمزها في الوقت نفسه. ولم يذكر واضعو الدستور صراحة نوع الالتزامات المنوطة بهذه المهام. وقد كان هذا أحد أوجه النقص العديدة التي شابت الدستور الأميركي.
جورج واشنطن وإشكالية العبودية
ولأن جورج واشنطن إنسان وليس ملاكاً، لذا فإن هناك العديد من الاتهامات الموجهة إليه، والتي تنسحب على سلوكه الشخصي، وبخاصة لجهة امتلاك العبيد، أولئك الذين سيحررهم بعده بعقود طوال، الرئيس أبراهام لنكولن.
لم يفلح القس الأميركي ميسون ويمس، الذي ألف عام 1800 كتاباً عنوانه "حياة واشنطن" The Life of Washingtonفي إظهاره كرجل طهراني لا تدانيه الأخطاء.
من الواضح أن جورج واشنطن وزوجته مارثا، قد امتلكا بضع مئات من العبيد، أي الأفارقة الذين تم جلبهم للبلاد من القارة السمراء.
في كتاب القس ويمس نجد دفاعاً عن واشنطن على أساس أنه كان يعامل عبيده بلطف، ويترك لهم حرية المعتقد، والقول بأن عدداً كبيراً منهم لم يكن ملكاً له، بل لزوجته.
ونجد في موقع متحف "مونت فيرون"، إشارات إلى أن الرجل ترك وصية قبل وفاته يطالب فيها بتحرير عبيده تلقائياً بعد وفاة زوجته مارثا.
غير أن الواقع يخبرنا بأن واشنطن كان يشتري العبيد طيلة حياته، من دون أن يوفر حتى الأطفال، ولاحظ المؤرخون تناقضاً في تعامله مع قضية تجارة الرق في بلاده.
في هذا الإطار لفتت صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية الشهيرة إلى أنه وفقاً لقانون ولاية بنسلفانيا، فإن العبد كان يعتبر حراً بشكل تلقائي في حال بقي أكثر من 6 أشهر برفقة سيده، لكن واشنطن تحايل على القانون، وكان يجبر عبيده على عبور حدود بنسلفانيا ثم العودة إليها، من أجل إعادة احتساب مدة الإقامة من الصفر.
ولعل من أشهر قصص العبيد في حياة جورج واشنطن، قصة العبدة أونا جادج، التي هربت من بيته عام 1796، ولم تعد.
وعلى رغم عثوره عليها لاحقاً، إلا أنها لم تختبئ بل قررت أن تتحداه، ورفضت العودة إليه، لتنشر لاحقاً تفاصيل رحلتها من العبودية إلى الحرية، ويتم تكريمها في متحف واشنطن نفسه.
غالب الظن أن أونا جادج، لم تكن أفريقية، فقد كانت ذات بشرة بيضاء كوالدتها، التي خدمت مارثا زوجة واشنطن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"حيوات مربوطة معاً: العبودية في عقار ماونت فيرنون لجورج واشنطن"، هو اسم المعرض الذي بدأ منذ عام 2013 لتكريم حياة أونا جادج والمحن التي دفعتها إلى الفرار حفاظاً على حياتها، بعد مكابدة العبودية في ظل ملكية أول رئيس أميركي وزوجته مارثا.
ومن القصص الإنسانية المؤلمة في حياة هذا الرجل، قصة أسنانه، نعم أسنانه، فعند مشاهدتك لوحات جورج واشنطن ستلاحظ أنه لم يكن يبتسم كثيراً، فقد دُمرت أسنانه بسبب استخدامه إياها في تقشير الجوز، واضطر للجوء إلى الأسنان الصناعية التي صنعها من مواد كثيرة. في الواقع لقد صنعوا طقم أسنانه من أسنان بشرية حقيقية، فقد سحبت من أفواه الفقراء والعبيد، وعماله المستعبدين، بجانب العاج وأسنان البقر والرصاص.
لم يكن جورج واشنطن طهرانياً بيوريتانياً مخلصاً للأخلاقيات والإيمانيات، على رغم أنه واحد من ربع رؤساء أميركا الذين انتموا إلى الكنيسة الأسقفية، أحد روافد التيار البروتستانتي، مثل فرانكلين روزفلت، وجيمس ماديسون.
قبل أسابيع من حفل زفافه، سطر واشنطن هذه الرسالة: "ليس للعالم دخل في حبي لك، الذي أعلنه لك بهذه الطريقة، في حين أريد أن أخفيه تماماً"، لكنه لم يرسلها إلى خطيبته مارثا، بل أرسلها إلى سالي فيرفاكس، التي كانت متزوجة بجورج فيرفاكس، أحد أعز أصدقاء واشنطن، وابن أحد أكبر مُلاك الأراضي في فيرجينيا".
والتساؤل الأخير: هل كان جورج واشنطن ماسونياً؟
الكثيرون يجمعون على أنه كان كذلك بالفعل، على رغم أنه كان على الدوام يشجع زملاءه وفريقه السياسي على العبادة والتناوب على الكنيسة، وحضور الصلوات وإقامة الشعائر المقدسة، غير أنه كان من الصعب عليه الحضور إلى الكنيسة عدة أسابيع متتالية.
وعلى رغم كل ما تقدم، فإن الرجل حاز محبة كبيرة في قلوب الأميركيين ولا يزال اسمه على العملة، وصوره تملأ أرجاء البلاد، ووصل الأمر في 9 سبتمبر (أيلول) من عام 1791، حد إطلاق اسمه على العاصمة الأميركية، وهو ما وافق عليه الكونغرس بشكل رسمي في 16 يونيو (حزيران) 1790، وأقر ذلك في الدستور.