ملخص
يعترف أولاد الأديب الكبير أن أوراق هذه الرواية القديمة الجديدة والمكتملة، كانت مبعثرة في محفوظات والدهما بعد أن أصبح في نهاية حياته عاجزاً عن دفعها إلى المطبعة، بسبب من اضطرابات الذاكرة، مما استلزم منهما القيام بأعمال "تنقيب" لجمعها، وقد بدأ "غابو" بكتابتها قبل 15 عاماً من وفاته.
بعد 10 سنوات على رحيله، تحتفل الأوساط الأدبية العالمية بصدور رواية جديدة للروائي الكولومبي الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 1982 غبريال غارثيا ماركيز(1924-2014) بلغتها الإسبانية الأصلية وبترجماتها إلى عدد من اللغات. وقد صدرت نسختها الفرنسية بتوقيع غبريال لاكولي في باريس عن دار "غراسيه" العريقة.
عنوان الرواية الجديدة "نلتقي في أغسطس (آب)"، وهي بحسب تصريحات أولاد الأديب العالمي، رودريغو وغونزالو، "ثمرة الجهود الأخيرة التي بذلها، رغم العمر والمرض، للاستمرار في الكتابة". ولعلها بحسبهما "تزخر بعديد من المزايا التي تستهوي القارئ، فتدعوه إلى التمتع بأبرز ما في كتابات "غابو" من "لغة شعرية وسردية أخاذة، وقدرة على الإبداع، ومعرفة عميقة بمكامن النفس البشرية، والالتصاق الحميم بالتجارب المعيشة، لا سيما في الحب الذي شكل بمعنى ما المحور الأساس والمحرك الأول لكل أعماله".
قد لا ترتقي هذه الرواية القصيرة وغير المنشورة سابقاً إلى مستوى "مئة عام من العزلة" و"الحب في زمن الكوليرا" وغيرهما من الروايات التي اشتغل ماركيز عليها حين كان في أوج صحته والتي شكلت علامة فارقة في الأدب الأميركي-اللاتيني، وهي ليست بالضرورة ذروة عطائه الأدبي والفني والأسلوبي، إلا أنها، من دون شك، تشكل حدثاً أدبياً بارزاً في 2024 على مستوى العالم. فهي كسائر نصوصه وسردياته تتغذى من روافد عديدة، وتقيم علاقات بين الواقع والمتخيل في سعي صريح لاسترداد البعد الروحي العميق الذي ميز الجغرافية التاريخية والثقافية التي نهل منها مواضيعه ورسم شخوصه وعوالمه التي لا تصنف، رغم انفتاحه على الثقافة الأوروبية وتياراتها المختلفة.
ماغدالينا السرية
تدور الرواية الواقعة في 144 صفحة حول آنا ماغدالينا باخ، وهي أستاذة في الأربعينيات من عمرها، متزوجة منذ ربع قرن من موسيقي وقائد أوركسترا يدعى دومينيغو أماريس. يعيش الثنائي حياة بلا متاعب وصدامات على وقع المعزوفات الموسيقية الكلاسيكية التي يستمعان إليها يومياً كطقس ديني تصدح فيه أنغام باخ وموزارت، وشوبرت وفوريه وغيرهم من الموسيقيين العظام. لا يكسر هدوء هذه الحياة الرتيبة، إلا الزيارة الثابتة التي تقوم بها هذه المرأة كل عام في الـ16 من أغسطس (آب) لقبر والدتها الواقع في إحدى جزر البحر الكاريبي. فتستقل عند الصباح عبارة تقلها إلى الجزيرة المليئة بطيور البلشون الزرقاء. وعلى رغم روعة الجزيرة، تقتصر هذه الزيارة على وضع باقة من الزنبق على القبر، ثم قضاء ليلة واحدة في فندق "السيناتور" القديم، لتدق ساعة العودة إلى البيت في اليوم التالي مبحرة بالعبارة نفسها، ولكن صيف عامها الـ46، تعرضت هذه الزيارة الروتينية لاضطراب كبير. ففي هذا اليوم، وفي الليل الذي يليه، عاشت هذه المرأة "كرنفالها" السري. فبعد أن تمتعت بالتنزه في الجزيرة واستنفدت سحر "حالة السكون" التي تلفها والتي لا يعكر صفوها إلا أصوات الطيور المختلفة التي تستوطنها، عادت آنا ماغدالينا إلى الفندق لتناول طعام العشاء واحتساء كوب من الخمر. فإذا برجل غريب يقترب منها ليقدم لها كأساً على وقع أنغام موسيقى البوليرو.
وما هي إلا دقائق، حتى وجدت نفسها في غرفته، مستسلمة لرغباتها الإيروسية المتولدة كشرارة مضيئة ومحرقة في آن معاً. حينها أدركت أنها المرة الأولى التي تخون زوجها، وأن هذا الرجل، الذي لا تعرف اسمه، قد يظن أنها عاهرة. غير أن آنا ماغدالينا لم تكف عن التفكير فيه. وعندما عادت، أخيراً، إلى الجزيرة في الـ16 من أغسطس التالي، لم تجده. لكنها قررت أن تبدأ مرحلة جديدة من حياتها، تعيش فيها كل صيف مغامرة جديدة، مستغلة رحلتها للتخلص من رتابة حياتها الزوجية، خائضة مغامرات جنسية مع رجال غرباء. فنراها تارة تمضي الليل مع غريب عابر، فمحام، وتارة أخرى مع سمسار هولندي، وآخر إسباني، ومع نصاب وقواد، ومع صديق سابق من أيام الدراسة الثانوية... لتعود في اليوم التالي إلى البيت الزوجي وقد "تغير كل شيء" بسرية. وبقدر ما تتضاعف لقاءات آنا ماغدالينا الصيفية بقدر ما يتفكك زواجها. فهل ستتمكن هذه الدوامة الجنسية من بلوغ خاتمتها عندما تدرك آنا ماغدالينا السبب في اختيار والدتها لهذا المكان الكاريبي كمثوىً الأخير؟
"نلتقي في أغسطس"، ليست إذاً نصاً منسياً قابعاً في أدراج الأديب الكولومبي. هي تذكرنا بأن غارثيا ماركيز كان قاصاً من الطراز الأول. نجح كما دوماً في تصوير حياة نساء واثقات بأنفسهن، قادرات على عيش أنوثتهن في وقت تتأرجح فيه حياتهن، فتتضاعف الأسئلة وتتعمق الألغاز، مما يضفي على شخصياتهن الأنثوية القوية والمؤثرة هالة من السحر. إن اسم آنا ماغدالينا بطلة هذه الرواية التي تخترقها الشهوانية والتي تتحدث عن اكتشاف العشق والجسد ورغباته الإيروسية في عمر متقدم، سينضم بالتأكيد إلى أسماء كل من غرازيللا دو دياتريبا وفيرمينا داثا وأورسولا إيغوران وأنغيلا فيكاريو وغيرهن من بطلات غارثيا ماركيز اللاتي اشتدت رغباتهن وعشقهن كلما اقتربن من الموت، فبقيت أسماؤهن عالقة في ذاكرة القراء.
جو موسيقي
هذه الرواية الغارقة ككل أعمال الأديب الكبير في الموسيقى الكلاسيكية والموسيقى الأميركية-اللاتينية، كالسالسا، التي تستمع إليها آنا ماغدالينا في الفندق، بصوت مغنيتين كوبيتين رائعتين، استحضرهما "غابو" في سرديته، عنيت إيلينا بوركيه وسيليا كروز وإيقاعات أغانيهما العاطفية الساحرة، لا سيما أغنية "الحياة كرنفال" التي أحبها الروائي وتحدث عنها في رواياته ومقالاته وتعليقاته الصحافية العديدة التي بدأ بكتابتها ولم يكن قد تجاوز بعد 21 عاماً. ويعرف قراء غابريال غارثيا ماركيز أنه كتب "خريف البطريرك" في برشلونة وهو يستمع إلى كونشيرتو للموسيقي المجري بيلا بارتوك وأن مكتبته تزخر بآلاف التسجيلات الموسيقية التي يفوق عددها عدد كتبه.
ويعترف أولاد الأديب الكبير أن أوراق هذه الرواية القديمة الجديدة والمكتملة، كانت مبعثرة في محفوظات والدهما بعد أن أصبح في نهاية حياته عاجزاً عن دفعها إلى المطبعة، بسبب من اضطرابات الذاكرة، مما استلزم منهما القيام بأعمال "تنقيب" لجمعها، وقد بدأ "غابو" بكتابتها قبل 15 عاماً من وفاته.
يخبرنا رودريغو وغونزالو أن غابرييل غارثيا ماركيز قرأ الفصل الأول من هذه الرواية المخطوطة سنة 1999 أمام جمع من المعجبين بأدبه، لكنه امتنع عن نشرها، مكتفياً بتقديم نسخ من مسوداتها التي فاق عددها 12 لبعض أقاربه، الذين قرروا حفظها في مكتبة مركز "هاري رانسوم"، التابع لجامعة تكساس في الولايات المتحدة الأميركية. وقد دفع أبناء الأديب بهذه الأوراق المنثورة، هنا وثمة، إلى أكاديميين متخصصين بأدب والدهما، الذين أكدوا أهميتها وأوصوا بضرورة نشرها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يشرح غونزالو أنه أدرك بعد حين أن هذه الرواية أفضل بكثير مما كان يعتقد. لذا بدأ يشك في أن "غابو" قد فقد القدرة على الكتابة والقراءة والحكم في السنوات الأخيرة من حياته. ويؤكد شقيقه رودريغو أنه لا توجد رواية أخرى لوالده لم تنشر بعد، وأن "نلتقي في أغسطس" هي الرواية الأخيرة لغابريل غارثيا ماركيز أو "غابو" المولود سنة 1927 في مدينة أراكاتاكا في مقاطعة ماجدالينا شمالي كولومبيا.
وغارثيا ماركيز سيد من أسياد الأدب الأميركي-اللاتيني، استطاع أن يصور ببراعة تعقيدات وثراء ثقافته، وقد ترك إرثاً أدبياً لا يقدر بثمن، ما زال قراء العالم يتأملون بدهشة في رواياته التي تمزج بمهارة بين الواقع والسحر، كـ"قصة موت معلن" و"حكاية بحار مضطرب"، و"لم آت لألقي خطاباً"، و"نعيشها لنرويها"، و"ليس لدى الكولونيل من يكاتبه"، و"عن الحب وشياطين أخرى"، و"ذكريات غانياتي الحزينات" إلخ. ووفقاً لمعهد ثيرفانتس، يعتبر غارثيا ماركيز أكثر الكتاب الناطقين بالإسبانية ترجمة منذ بدايات القرن الـ21، متقدماً بأشواط على الشيلية إيزابيل ألليندي، والأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والبيروفي ماريو فارغاس يوسا، الذي فاز أيضاً بجائزة نوبل. واعتبرت كل رواياته، لا سيما رواية "مئة عام من العزلة" جزءاً من التراث الأدبي الكلاسيكي الناطق باللغة الإسبانية، وقد بلغ فيها ذروة كماله الفني والأسلوبي.
عاش غبريال غارثيا ماركيز في المكسيك منذ عام 1961 مع إقامات متقطعة في كارتاخينا بكولومبيا وفي برشلونة بإسبانيا وفي هافانا الكوبية، وضع خلالها معظم رواياته التي تميزت بمناخات ساحرة لامست أفقاً إنسانياً عالياً، وعبرت عن مشاعر متدفقة، جمعت في الوقت عينه بين الحيرة والرغبة والحب والحلم. يغرق القارئ في عوالمها وصفحاتها، فيشعر بأنه يكتشف بعضاً من روحه.
أعتقد أن الرواية الجديدة ستشكل بلا شك احتفالاً أدبياً كبيراً، وستثير حماسة عشاق الأدب في جميع أنحاء العالم وتوفر فرصة فريدة لاكتشاف عمل وإرث أحد أبرز كتاب أميركا اللاتينية.