ملخص
إن سكان غزة لا يخشون الموت في الحرب فقط الآن بل أيضاً الموت بسبب ندرة الطعام والمياه والأدوية
تفتح الطائرة الأردنية من طراز "سي-130" بابها الخلفي فتميط اللثام عن مشهد دمار شمال غزة.
تظهر بلدات، استحالت كتلة رمادية من الغبار، بجوار مساحات كانت أراض زراعية في السابق، نهشتها جنازير الدبابات التي تركت آثارها بادية عليها. محيت أحياء بأكملها، فأصبحت أشبه بكومة الرماد في الموقد. إنه دمار على مستوى مخيف.
من هذا الارتفاع، لا يمكن للمرء رؤية ما تفيد التقديرات بأنهم 300 ألف فلسطيني لا يزالون يعيشون في هذا المكان المرعب الأشبه بسطح القمر القاحل، ولا يملكون من الزاد والمواد التموينية سوى الشحيح الشحيح، ذلك إن توفر أساساً. ومئات الآلاف هؤلاء هم أشخاص تعتقد الأمم المتحدة أنهم على قاب قوسين أو أدنى من المجاعة، إن لم تطرق أبوابهم بالفعل. وهو مكان لجأ أهله إلى تناول علف الحيوانات وشرب مياه المراحيض. مكان تقول الأمم المتحدة إن أطفاله يموتون من الجوع وليس القصف فحسب.
وفي ظل هذه الظروف، تبدو الألواح الخشبية الـ16 المليئة بالطعام، والمربوطة إلى مظلات، التي رصت في قاع طائرة النقل العسكرية هذه غير كافية على الإطلاق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شنت إسرائيل حملة قصف ضارية وضربت حصاراً خانقاً على غزة في حربها الرامية إلى "القضاء على" "حماس" في أعقاب الهجمات القاتلة يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول). ونتيجة لذلك، يتعذر إيصال المساعدات براً إلى شمال القطاع، الذي بات في حاجة ماسة إليها، بشكل شبه تام.
وفي الوقت الحالي، أصبح إنزال المساعدات الغذائية جواً فوق غزة من الطرق القليلة التي يمكن بواسطتها الوصول إلى المدنيين اليائسين، رغم الخوف من الأخطار التي تنطوي عليها هذه العملية وكلفتها الباهظة وقلة كفاءتها واحتمال خطورتها حتى.
يصيح الجندي الأردني "تبقت دقيقة على الإنزال"، فيما يتجهز العناصر الآخرون الموجودون على متن الطائرة. أنهوا العد التنازلي بالإشارة وسط هدير المحركات الذي يصم الآذان.
بعدها، فكت الألواح الخشبية، التي ألصقت على جانبيها رسائل تضامن ورسومات من تلامذة المدارس في الأردن، من رباطها. فتدحرجت بقوة وسرعة باتجاه سماء شديدة الزرقة. بعدها فتحت المظلات واحدة تلو الأخرى وهبطت نحو الأرض.
هذه عملية واحدة من أصل تسع عمليات فوق شمال غزة قالت القوات المسلحة الأردنية إنها نفذتها قبل أسبوع تقريباً إلى جانب مصر والولايات المتحدة وفرنسا وهولندا وبلجيكا، كما أعلن سلاح الجو الأردني عن تنفيذه ما مجموعه 29 عملية وعن مواصلته توصيل المساعدات إلى غزة عبر مهام جوية إلى مصر وقوافل شاحنات عبر المعابر البرية.
من المستحيل توجيه هذا الشكل من الإنزالات الجوية الجماعية بدقة. قالت منظمات إغاثة لـ"اندبندنت" إن بعض صناديق المساعدات وقعت في البحر وعلى أسطح المباني فيما دفعت الرياح ببعضها الآخر للسقوط داخل إسرائيل. وقد تكون خطرة أيضاً. الجمعة، لقي خمسة فلسطينيين حتفهم وجرح آخرون عندما وقعت صناديق مساعدات من عملية إنزال أخرى فوق رؤوسهم في شمال غربي غزة، بحسب تصريح المتحدث باسم الدفاع المدني في غزة محمود بصل. لم يتضح تماماً أي دولة نفذت عملية الإنزال.
لكن أحد الفيديوهات التي انتشرت على الإنترنت أظهر وقوع الألواح الخشبية من السماء فوق مخيم الشاطئ للاجئين في مدينة غزة، والرعب الذي أوقعته في نفوس المدنيين على الأرض. وبدا أن أحد الألواح لم تفتح مظلته تماماً.
ويقول الدكتور حسين الشبلي، الأمين العام للهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية في معرض شرحه لـ"اندبندنت" عن مشقة التعاطي مع متاهة القيود الإسرائيلية والعوائق اللوجيستية الأخرى أثناء محاولة إيصال المساعدات الإغاثية لملايين الأشخاص الذين يحتاجون إليها في غزة "إن الإنزالات الجوية هي الملجأ الأخير وليست الحل الكامل". تنسق الهيئة الخيرية الهاشمية، وهي منظمة غير حكومية، عملها مع سلاح الجو الأردني، وتسهم في تسليم المساعدات من الحكومات الأجنبية ومنظمات الإغاثة الدولية والمنظمات الخيرية المحلية عبر كافة الطرق ومن بينها قوافل الشاحنات براً، والإنزالات الجوية.
ويقول إنهم أوصلوا لغاية الآن أكثر من 7160 طناً من المساعدات من الأردن منذ السابع من أكتوبر من طريق 500 شاحنة تقريباً وعشرات الإنزالات الجوية.
ويضيف الدكتور شبلي "نأمل العودة إلى الطريق البري المؤدي إلى شمال غزة وإيجاد حلول حقيقية كي نتخطى في الأقل هذه الصعوبات التي نتحدث عنها. لكن في حال تعذر الوصول إلى شمال غزة تماماً، سنستمر بالإنزالات الجوية".
في الوقت الراهن، لا يزال لدى الهيئة عشرات المستودعات الممتلئة بالمعدات الطبية والغذائية ولوازم المأوى التي يمكن توصيلها فوراً في حال فتح المجال لدخول غزة بلا قيود. ويشرح الدكتور شبلي أن الطريقة الوحيدة الحقيقية لتلبية هذا الطلب غير المسبوق على الأرض هو وقف إطلاق النار.
شنت إسرائيل أعنف عملية قصف لها على الإطلاق على غزة وفرضت عليها حصاراً خانقاً رداً على هجوم "حماس" الدامي في أكتوبر الذي قتل فيه نحو 1200 إسرائيلي وأسر 250 آخرين. ويعتقد أن 136 أسيراً في الأقل لا يزالون محتجزين داخل غزة. وقالت الأمم المتحدة، هذا الأسبوع، إنها رأت أدلة موثوقة على تعرض الأسرى لعنف جنسي وسوء معاملة في الأسر.
ومنذ أكتوبر في غزة، قتلت الهجمات الإسرائيلية العنيفة جواً وبحراً وبراً أكثر من 30 ألف فلسطيني، جلهم من النساء والأطفال، وفقاً لمسؤولي الصحة الفلسطينيين.
كما دمر أو تضرر ما يزيد على 60 في المئة من المنازل والمباني فيما لا يزال نحو ثلاثة أرباع السكان البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة من النازحين.
إلى ذلك، يجد 25 في المئة من السكان في الأقل أنفسهم قاب قوسين من المجاعة فيما أفادت المنسقة الإنسانية للأمم المتحدة في المنطقة بأن الأطفال بدؤوا يموتون من الجوع.
لا تتعدى مساحة غزة 26 ميلاً (42 كيلومتراً) بالطول ولا يزيد عرضها على ستة أميال في بعض المناطق. وأرضها مسطحة مما يجب أن يجعل الوصول إليها سهلاً، كما يمكن دخول القطاع من خلال ستة معابر برية في الأقل على طول حدوده مع إسرائيل ومصر. ومع ذلك، تعيش شمال غزة واحدة من أشد الكوارث الإنسانية في العالم.
تقول بعض أكبر المنظمات الخيرية في العالم إنه من الصعب جداً إدخال الإمدادات إلى غزة ومن شبه المستحيل إدخالها إلى شمال القطاع. ولذلك، سلكت بعض الدول والمنظمات الخيرية طريق "المتنفس الأخير" عبر الإنزالات الجوية فوقه.
وفقاً لعدة منظمات تابعة للأمم المتحدة، ومنظمات خيرية فلسطينية ودولية وإسرائيلية ونواب بريطانيون قدموا طلبات للحصول على المعلومات، تحظر إسرائيل دخول مجموعة من مواد الإغاثة، بدءاً بأدوية التخدير إلى فلاتر المياه وأيضاً التمور التي بداخلها نواة، على نحو غريب. ويبدو أن السبب هو اعتبارهم أن المقاتلين قد يستخدمونها "لغرض ثان".
قالت عدة منظمات من بينها الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية وأخرى تابعة للأمم المتحدة مثل منظمة الصحة العالمة، لـ"اندبندنت" إن الشحنات غالباً ما تجبر على العودة أدراجها أو تحتجز عند نقاط العبور الوحيدة، فتترتب عليها كلفة عالية، وعلى حواجز إسرائيلية داخل غزة عندما تقترب من الشمال.
أدى خنق الإمدادات، والاستهداف المزعوم للشرطة الفلسطينية داخل غزة، إلى انهيار النظام والقانون، مما أثار مخاوف في شأن سلامة القوافل في الشمال مع ازدياد يأس السكان. وقال برنامج الأغذية العالمي الذي اضطر لتعليق قوافل مساعداته إن أعداداً من الأشخاص الذين يتضورون جوعاً وحتى بعض العصابات أحاطوا بالقوافل في أكثر المناطق تضرراً. وتعرضت قوافل المساعدات إلى إطلاق النار من الإسرائيليين: يوم الخامس من فبراير (شباط)، قالت وكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين الأونروا إن إحدى قوافلها تعرضت للقصف المدفعي الإسرائيلي. لم يعلق الجيش الإسرائيلي على هذا الموضوع بعد لكنه أعلن أنه يحقق في الحادثة.
وحين طلبت "اندبندنت" التعليق من الجيش الإسرائيلي، تلقت رداً بأن "جيش الدفاع الإسرائيلي ينفذ عمليات إنسانية وسوف يواصل ذلك. وتستند القرارات المتعلقة بالمواقع والتوقيت إلى تقييم الوضع".
حاولت "اندبندنت" التواصل مع مكتب تنسيق أنشطة الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية (كوجات)، وهو وحدة تابعة لوزارة الدفاع الإسرائيلية أنيطت بها مهمة التنسيق مع الفلسطينيين، لكنه لم يجب بعد. الخميس، غرد المكتب على موقع "إكس" (تويتر) سابقاً فكتب "لا حدود لكمية المساعدات الإنسانية التي يمكن أن تدخل غزة"، مضيفاً أن أكثر من 4900 طن متري من المساعدات دخلت القطاع ذلك اليوم. وعلى رغم الأدلة الدامغة والضغوط الدولية بسبب الوضع في غزة، لا يزال مكتب كوجات ينفي علناً وجود أزمة إنسانية في القطاع المحاصر.
وفيما تملك الولايات المتحدة القدرة على الضغط على إسرائيل باعتبارها أوثق وأقوى حلفائها والجهة التي تزودها بالمساعدات العسكرية، يبدو أنها عجزت عن تأمين منفذ إلى شمال غزة، فلم يكن أمامها وأمام دول أخرى سوى السماء معبراً. وأفادت واشنطن عن إلقائها ما يعادل 36800 وجبة فوق شمال غزة في الأيام الأخيرة.
لكن المنظمات الحقوقية تحذر من أن الإنزالات الجوية "أقل الطرق كفاءة لإدخال المساعدات".
وتقول بشري خالدي من أوكسفام "من غير الممكن ببساطة إنزال مساعدات جوية تلبي حجم الحاجات الحقيقية لإبقاء الناس على قيد الحياة"، مضيفة أن قدرة الطائرة الاستيعابية أقل من الشاحنة.
وتتابع بقولها "كما أنها الطريقة الأعلى كلفة والأخطر والأكثر فوضوية لكي يتلقى أشخاص يائسون المساعدات. فإنزال المساعدات عبر المظلات هو دائماً "الحل الأخير"، والإجراء الأخير الذي تلجأ إليه على مضض حين تجرب كل الطرق الأخرى وتفشل فيها، وحين يستحيل إيجاد أي طريق عادي وأفضل".
من جهتها، تقول شاينا لو من المجلس النرويجي للاجئين لـ"اندبندنت" إن أكثر الأشخاص تضرراً وعرضة للخطر سيجدون صعوبة في الوصول إلى المساعدات التي تلقى عبر الإنزال الجوي، التي لا يتم تنسيقها عبر مسؤولي الإغاثة الموجودين في الميدان ولا توزع بشكل عادل.
وتضيف "لا يمكن للأسر التي تديرها النساء ولا للمسنين ولا الأشخاص الذين يعانون إعاقات أن يشاركوا في هذا النوع من التدافع لالتقاط ما يسقط من السماء. وما رأيناه من صور عن كيفية تلقي الناس للمساعدات يظهر أنها ليست طريقة لائقة وكريمة. وليست وسيلة آمنة لتوزيع المساعدات".
وتقول إنه من "الصادم" أن يضطر أقرب حلفاء إسرائيل، مثل الولايات المتحدة، أن يلجأوا إلى هذه العمليات.
وتشرح أن ذلك "إما يبين جمود إسرائيل أو عدم استعداد هؤلاء الحلفاء لتقديم مطالب أو طلب تحقيق الأمور التي يجب أن تتحقق لكي تدخل المساعدات بحرية أكبر إلى غزة".
وفي مواجهة تزايد الضغوط، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن، الأسبوع الماضي، عن إنشاء مرفأ موقت على ساحل غزة على البحر المتوسط لاستقبال المساعدات الإنسانية من البحر.
ويأمل المسؤولون الأميركيون أن يرفع ذلك من درجة الاستجابة الإنسانية للوضع لكنهم اعترفوا بأنه قد يستغرق أسابيع من التخطيط والتنفيذ. لكن هذه المساعدات ستخضع أيضاً للتفتيش الإسرائيلي في قبرص قبل أن تصل غزة، مما يثير مخاوف في شأن التأخير والقيود المفروضة على السلع التي وضعت على قائمة "الاستخدام المزدوج".
وتقول سيغريد كاغ كبيرة منسقي الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية وإعادة الإعمار في غزة، إنها ترحب بمبادرات واشنطن لكن "الجو والبحر ليسا بديلاً للبر ولا أحد يقول عكس ذلك".
أعلن السيد بايدن كذلك بأن إسرائيل وافقت على إعادة فتح أحد معابرها البرية في شمال غزة للسماح بإدخال المساعدات، وهو ما قالت الأمم المتحدة إنها تعمل عليه منذ أسابيع وهو كذلك مطلب أساس من منظمات الإغاثة.
لكن مسؤولي الأمم المتحدة الذين تحدثت إليهم "اندبندنت" يقولون إنهم لا يعلمون "متى أو إذا" سيفتح بشكل كامل. ولم يجب مكتب كوجات على طلب التعليق الذي أرسلته إليه "اندبندنت" في شأن التوقيت.
تعلق آمال كثيرة على إبرام صفقة فورية وموقتة لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى تسمح بإدخال المساعدات بحرية. لكن هذه الآمال تضاءلت بعد انتهاء المحادثات الأخيرة في القاهرة من دون أي تحقيق اختراق.
تعهد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي حمل حماس مسؤولية توقف المحادثات، في خطاب ناري، الأسبوع الماضي، بأن يواصل جيشه هجومه البري.
وقال "علينا الوقوف معاً ضد محاولات وقف الحرب".
في الأردن، يأمل العاملون في مستودعات الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية الممتلئة عن آخرها أن يجدوا سبيلاً لإيصال المساعدات التي تشمل اللوازم الطبية والبطانيات والخيم ومعلبات الطعام ومواد النظافة الشخصية وحليب الأطفال. وهم يحضرون لعملية إنزال جوي جديدة لكن أيضاً شاحنات يأملون في أن يسمح بدخولها غزة عما قريب.
ويقول الدكتور شبلي إن سكان غزة لا يخشون الموت في الحرب فقط الآن بل أيضاً الموت بسبب قلة الطعام والمياه والأدوية. وهي كلها مواد يمكنهم توفيرها لهم.
ويضيف، فيما ترده اتصالات لطلب المساعدة "نتحدث عن تجويع الأطفال، وأصعب المشاهد التي يمكن للمرء أن يراها هو وفاة الأطفال بسبب الجوع. لدينا مستودعات مليئة عن آخرها بالمواد الغذائية، وعلينا مساعدة هؤلاء الناس".
© The Independent