ملخص
يرى محمد عابد الجابري أستاذ الفلسفة والفكر العربي الإسلامي في "كلية الآداب" بالرباط "أنه لم يكن لكلمة الاستبداد في المرجعية العربية القديمة ذلك المضمون السلبي الذي لها اليوم، لقد كان الاستبداد يعني الحزم وعدم التردد في اتخاذ القرار وتنفيذه"
يقول عبدالرحمن الكواكبي في مطلع كتابه "طبائع الاستبداد في مصارع الاستعباد"، "إن الاستبداد لغة، هو غرور المرء برأيه، والأنفة عن قبول النصيحة، أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة"، ويتابع "الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلاً أو حكماً التي تتصرف في شؤون الرعية، كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين، وكما أن صفة الاستبداد تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولى الحكم بالغلبة أو الوراثة، كذلك تشمل الحاكم الفرد المقيد المنتخب متى كان غير مسؤول، وتشمل حكومة الجمع، ولو منتخباً، لأن التشارك في الرأي لا يدفع الاستبداد، وإنما قد يعدله الاختلاف نوعاً، وقد يكون عند الاتفاق أضر من استبداد الفرد. ويشمل أيضاً الحكومة الدستورية المفرقة فيها، بالكلية، قوة التشريع عن قوة التنفيذ، وعن قوة المراقبة، لأن الاستبداد لا يرتفع ما لم يكن هناك ارتباط في المسؤولية فيكون المنفذون مسؤولين لدى المشرعين، وهؤلاء مسؤولين لدى الأمة، تلك الأمة التي تعرف أنها صاحبة الشأن كله وتعرف أن تراقب وأن تتقاضى الحساب".
ويشير إلى أن "أشد مراتب الاستبداد التي يتعوذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية. ولنا أن نقول كلما قل وصف من هذه الأوصاف خف الاستبداد إلى أن ينتهي بالحاكم المنتخب الموقت المسؤول فعلاً، وكذلك يخف الاستبداد طبعاً كلما قل عدد نفوس الرعية وقل الارتباط بالأملاك الثابتة وقل التفاوت في الثروة وكلما ترقى الشعب في المعارف".
أول ذكر للمستبد العادل
ولكن كيف يكون للحاكم صفتا المستبد والعادل؟ وهو السؤال الذي طرح مراراً وتكراراً وتعرض للانتقاد والاستهجان، كما عرضت لأجله الأمثلة لكنها كانت بمعظمها تمثيلاً لواقعين، الأول رغبة بعض الشعوب بوجود قائد مخلص، وواقع آخر يريد تلميع صورة مستبد بإلباسه رداء العدل.
ولكن أول ورود لمصطلح المستبد العادل كان في مقالة للإمام الشيخ محمد عبده في رده على مقالة "الإخاء والحرية" في المجلة العثمانية الصادرة في عام 1899، وذلك في سنتها الأولى - الجزء الثالث، إذ تحدثت المقالة عن أهداف المجلة وما تريد تقديمه وبخاصة في ظل الوضع بالشرق والأخطار المحدقة به وطرق الخروج منها، مؤكدة بعض المبادئ التي اعتبرتها سفينة يتوقف عليها نجاة الشرق، لكنها، في الوقت ذاته، نوهت منتقدة آراء بعض الكتاب الشرقيين الذين برأيها "أن أكثرهم رأوا نجاة الشرق في إدخال الحرية السياسية في ربوعه"، وهذا ما استدعى رداً من الشيخ عبده آنذاك عبر مقال، في المجلة ذاتها، ونشرته في عددها الرابع من تلك السنة، وكان تحت عنوان "إنما ينهض بالشرق مستبد عادل".
وقد أراد بها الرد على الداعين إلى إصلاح الشرق من خلال الأخذ بالحياة النيابية والدستورية مسايرة للغرب، فيما اعتقد هو أن الأخذ بالنظام النيابي من دون تهيئة الناس لتقبله قد يؤدي إلى انتكاسة خطرة، مفضلاً البدء بمشروع تربوي للارتقاء بالأمة إلى ممارسة الحياة النيابية.
صفات المستبد العادل
ولذلك، فالمفردتان المتناقضتان اللتان وضعهما عبده حملتا معهما كثيراً من التأويل والانتقاد، وأحياناً كثيرة الاستهزاء بالفكرة من دون العودة لمضمون المقال، وما عناه الشيخ في كلامه ورؤيته لمستقبل الشرق وبخاصة مصر حيث فشلت الثورة العربية آنذاك، ونفي الشيخ خارج مصر، إضافة إلى حالات التفكك والضياع، مما دعاه إلى التفكر في حل، فحدد ما يراد بالضبط من هذا المستبد العادل، فتحدث عن صفات كالرحمة والعدل والجمع بين الناس "مستبد يكره المتناكرين على التعارف، ويلجئ الأهل إلى التراحم، ويقهر الجيران على التناصف، يحمل الناس على رأيه في منافعهم بالرهبة، إن لم يحملوا أنفسهم على ما فيه سعادتهم بالرغبة، عادل لا يخطو خطوة إلا ونظرته الأولى إلى شعبه الذي يحكمه، فإن عرض حظاً لنفسه فليقع دائماً تحت النظرة الثانية فهو لهم أكثر مما هو لنفسه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد حدد عبده وقتاً سيحكم فيه هذا المستبد العادل وطريقة حكمه، فتابع "يكفي لإبلاغهم غاية لا يسقطون بعدها 15 سنة، وهي سن مولود لم يبلغ الحلم، يولد فيها الفكر الصالح وينمو تحت رعاية الولي الصالح ويشتد حتى يصرع من يصارعه، 15 سنة يثني فيها أعناق الكبار إلى ما هو خير لهم، ويعالج ما اعتل من طباعهم بأنجح أنواع العلاج ومنها البتر والكي إذا اقتضت الحال، وينشئ النفوس الصغار على ما وجه العزيمة نحوه ويسدد نياتهم بالتثقيف، يتعهدها كما يتعهد الغارس شجرة بضم أعواد مستقيمة إلى سوقها لتنمو على الاستقامة، 15 سنة تحشد له جمهوراً عظيماً من أعوان الإصلاح من صالحين كانوا ينتظرونه وناشئين شبوا وهم ينظرونه وآخرين رهبوه فاتبعوه وغيرهم رغبوا في فضله فجاوروه".
خطواته المستقبلية
كما وضع الإمام الخطوات المستقبلية عندما يصل لهذا الحد، فكان أول من دعا إلى وجود مجالس الإدارة وحدد آلية عملها وصولاً للمجالس النيابية، فقال "حتى إذا عرفت الأفكار مجاريها بالتعريف وانصرفت إلى ما أعدت له بالتصريف وصح الشعور بالتعليل واستقامت الأهواء بالتعديل، أباح لهم من غذاء الحرية ما يستطيع ضعيف السن قضمه والناقة من المرض هضمه، وأول ما يكون ذلك بتشكيل المجالس البلدية، ثم بعد سنين تأتي مجالس الإدارة لا على أن تكون آلات تدار، بل على أن تكون مصادر للآراء والأفكار، ثم تتبعها بعد ذلك المجالس النيابية".
وليبرهن على عدم مثاليته وخيال طرحه قال عبده "نعم، ربما لا يتيسر لرجل واحد أن يشهد هذا الأمر من بدايته إلى نهايته، ولكن الخطوة الأولى هي التي لها ما بعدها، ويكفي 15 سنة وما هي بكثير في تربية أمة فضلاً عن أمة"، وختم متسائلاً "هل يعدم الشرق كله مستبداً من أهله، عادلاً في قومه يتمكن به العدل أن يصنع في 15 سنة ما لا يصنع العقل وحده في 15 قرناً؟!"، وما زال هذا السؤال مفتوحاً.
وجهات نظر حديثة
وبما أن لهذا المصطلح وجهات نظر متعددة، توجهنا بالسؤال لسياسي ومحامي باعتبار أن هاتين الصفتين تستطيعان تقديم وجهة نظر عملية فاعلة بقوة في المجتمع.
فقال السياسي السوري علي حيدر "يتفاجأ كثر بالمصطلح ويعتبرونه مستفزاً فكيف يكون مستبداً وعادلاً في الوقت نفسه! ففي هذه التركيبة تناقض بين المستبد الذي يستفرد بكل شيء ويأخذ كل شيء وبين العدل والعدالة القائمة على توزيع المكاسب، إذ بين العدالة والاستبداد هناك مسافة كبيرة، ولذلك فالمصطلح بحالته السطحية يتم رفضه من الذين لم يغوصوا في قصده وحالته ومبرراته التاريخية".
وأوضح "أن المستبد العادل طرح كصورة من صور حكم الدول تاريخياً، فقد أتى المصطلح ليقول إن كثيراً من نظم حكم الدول فاسدة ومنها البرلمانية، ولا تحقق غاية مصلحة المجتمع الذي على أساسه قامت الدولة، بل إن هذه الأنظمة تزيد من فساد المجتمع ومشكلاته، وفي الوقت نفس الاستبداد القائم على الطغيان لا يقترب بأي صورة من تحقيق مصالح المجتمع، من ثم فمفهوم المستبد العادل مرتبط بشيء أساس وهو أنه يجب أن يكون وليد حالة ثقافية متطورة ووليد نهضة اجتماعية يحمل رسالتها أشخاص، وهؤلاء الأشخاص صحيح يملكون السلطة بصورتها المطلقة، ولكنهم مسؤولون أمام المجتمع لتحقيق القيم والمبادئ التي وضعت وتعبر عن مصلحة المجتمع بالعموم. وبناءً على هذه الصورة نستطيع أن نقول إن الديكتاتورية هي صورة من صور الديمقراطية الصحيحة، ولكن فقط عندما تحوز على تأييد الشعب وثقته، ومن ثم هي تتحول لنظام موقت وليس دائماً، ومهمته نقل المجتمع من حالة إلى حالة أفضل، وهذه الطريقة تأتي في حالة تاريخية معينة ولشعوب معينة، فتتطلب هذا النوع من الأنظمة لتستطيع النهوض من جديد".
أما المحامي اللبناني نائل قائد بيه فقد تحدث عن شقين في ما يخص هذا المصطلح، إذ تناوله من وجهة نظر لغوية فقال، "عند البحث في عبارات أو مصطلحات من هذا النوع، من المفيد دائماً الرجوع إلى المعنى اللغوي للمصطلح، ومن ثم مقابلة ذلك بالمعنى الغالب لدى مستخدميه، فنجد في قاموس محيط المحيط للبستاني: استبد فلان بكذا، أي تفرد واستقل به، وعليه فإن صفة المستبد تكون مرادفة لصفة المتفرد أو صفة المستقل"، وتابع "غني عن البيان أن هذه الصفات الثلاث لا تحمل الدلالة نفسها في الاستعمال الشائع، إذ تحمل صفة المستقل دلالة إيجابية حميدة، فيما تحمل صفة المستبد دلالة سلبية كونها غالباً ما ترتبط بالظلم والطغيان".
كما تحدث قائد بيه من وجهة نظر قانونية فقال "على رغم كل ما نسمعه حول استحالة اجتماع صفتي الاستبداد والعدل في شخص واحد، ينبغي التذكير أن نظامنا القضائي لم يقر بإمكانية اجتماع هاتين الصفتين فحسب، بل كرس هذا المفهوم عملياً، وذلك عبر (القضاة المنفردين) الذين يدرسون الملفات المعروضة عليهم، ويحكمون بها من دون مستشارين في محكمتهم، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الاعتماد على القضاة المنفردين ليس أمراً مستحدثاً أو مستجداً، بل هو مذكور في تدوينات الدول التي تعاقبت على منطقتنا، من الحقبة السومرية حتى حقبتنا هذه، مروراً بالحقبات الأشورية والآرامية والهيلينية والرومانية والإسلامية".
وقد تساءل المحامي نائل "لماذا إذاً نقبل مستبداً عادلاً في القضاء، ولكننا نرفضه وننكره في الإدارة والسياسة؟ وإزاء ما تقدم، يصبح من الواجب مقاربة موضوع (المستبد العادل) من زاوية مختلفة، إذ أرى من الأجدى أن يتم بحث الشروط والمعايير التي تسبغ صفة العدالة على الحاكم، بدل نفي إمكانية اجتماع صفتي العدل واستقلال الرأي، وبعد تحديد وتعيين تلك الشروط والمعايير، يصبح بالإمكان مناقشة ما إذا كانت واقعية أم خيالية".
المستبد للمستبدين
وعلى رغم الهجوم الدائم على الحاكم ووصمه بالمستبد، فإن المفكر عبدالرحمن الكواكبي لا يفصل بين صفات الشعب وصفات حاكمه، لا بل يربط بينها بصورة متينة، فقال في كتابه السابق الذكر "الاستبداد أعظم بلاء، يتعجل الله به الانتقام من عباده الخاملين ولا يرفعه عنهم حتى يتوبوا توبة الأنفة. نعم، الاستبداد أعظم بلاء لأنه وباء دائم بالفتن وجدب مستمر بتعطيل الأعمال، وحريق متواصل بالسلب والغصب، وسيل جارف للعمران، وخوف يقطع القلوب، وظلام يعمي الأبصار، وألم لا يفتر، وصائل لا يرحم، وقصة سوء لا تنتهي. وإذا سأل سائل ملاذاً يبتلي الله عباده بالمستبدين؟ فأبلغ جواب مسكت هو: إن الله عادل مطلق لا يظلم أحداً، فلا يولى المستبد إلا على المستبدين. ولو نظر السائل نظرة الحكيم المدقق لوجد كل فرد من أسراء الاستبداد مستبداً في نفسه لو قدر لجعل زوجته وعائلته وعشيرته وقومه والبشر كلهم حتى وربه الذي خلقه تابعين لرأيه وأمره.
فالمستبدون يتولاهم مستبد والأحرار يتولاهم الأحرار، وهذا صريح معنى (كما تكونوا يولى عليكم)".