ملخص
ضربت وثيقة "بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية" أحد أركان التنظيمات الإسلاموية في مقتل بتصنيف "حفظ الوطن وصيانته"، ضرورة سادسة جديدة تضاف إلى الضرورات الخمس التي نص عليها الفقهاء منذ القدم، وبنوا على أركانها مقاصد الشريعة التي قالوا إنها جاءت أساساً لحفظ تلك الضرورات، وهي "الدين والنفس والعقل والعرض والمال"، وهي بذلك تقوض إحدى أدبيات الإخوان المسلمين ونشر الثورة عند الخمينية، التي لا تعترف بالدولة الوطنية، وتعتبرها "حدود سايكس بيكو" لا حرمة لها.
خلص حشد من الفقهاء والمفكرين إلى كتابة وثيقة على أنفسهم، تكون مرجعية في "بناء الجسور" بين مذاهبهم المتباينة، بعد عقود وقرون من التناحر والإقصاء المتبادلين، تطورا أحيانا إلى حروب طائفية وأحداث إرهابية.
وقالت رابطة العالم الإسلامي التي نظمت المؤتمر الذي جمع 300 شخصية من كل أنحاء العالم بمن فيهم مرجعيات الأقليات في الغرب، أنهم أجمعوا على أن "أهل الإسلام، وإن اختلفت مذاهبهم ومدارسهم داخل المذهب الواحد هم جميعاً تحت راية الإسلام ومظلته، وهم في مشمول اسمه الجامع الذي شرفهم الله به".
وثيقة مكة
وجاء إعلان المبادئ الجديدة على خطى سابقتها "وثيقة مكة" إلى جوار الكعبة التي أسست للتعايش الأوسع بين المسلمين والمجتمع الإنساني أجمع بأديانه وثقافاته وأفكاره، فيما تأتي الوثيقة الجديدة (بناء الجسور) لتدير الخلاف الذي لا مفر منه بين المذاهب الإسلامية وإيجاد أرضية مشتركة للتفاهم، خصوصاً في البلدان غير الإسلامية للاتفاق على "كلمة سواء".
أَتشرّفُ باسم أصحابِ السماحةِ والفضيلةِ المُشاركينَ في مؤتمَر:"بناء الجُسور بينَ المذاهبِ الإسلامية" من كِبَار عُلماءِ العالمِ الإسلاميّ بمُختلَف تنوُّعِهم المَذهبي، برفْع أَسمَى عباراتِ الشكرِ والامتنان إلى مَقام مَولايَ خادمِ الحرمين الشريفين، الملِك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود… pic.twitter.com/mTf1gwWSdr
— Mohammed Al-Issa محمد العيسى (@MhmdAlissa) March 20, 2024
وأكد الأمين العام للرابطة محمد العيسى أن دعوة المنظمة إلى ذلك الوفاق ليس غرضه الدفع إلى اتحاد كلي، "فهو حوار تعاون وليس دمج المذاهب، كي لا تتحول إلى طائفية مقيتة".
ولفت إلى أن التوافق الجديد لن يصبح بعده "أي محل لأي من الأسماء والأوصاف الدخيلة التي تفرق ولا تجمع وتباعد ولا تقرب اللهم وتزاحم اسم الإسلام الجامع الذي سمانا الله به"، في إشارة إلى جماعات الإسلام السياسي مثل "الإخوان المسلمين" و"حزب الله" وتنظيم "داعش" وسواها.
وأوضح أن تلك "المنافسة مرفوض كثرة دورانها في الساحة الإسلامية، لا سيما ما تفعله الأحزاب الضالة التي اعتزلت وحدة الأمة بنسج أسماء محادة تصف بها لفيفها الضال"، معتبراً أن "الشعاراتُ الطائفيةُ والحزبيةُ بممارساتها المثيرة للصِّدام والصِّراع المذهبي تُعَدُّ في طليعةِ نكباتِ الأمة".
اجتهاد جديد يوسع الضرورات الخمس
ولم يختلف الفقهاء في جلسات المؤتمر الذي أقيم تحت تأثير جوار الكعبة، حول وجوب التآلف بين المذاهب كافة، ما دام أنها متحدة في مشتركات جوهرية مثل الدين والقبلة والقرآن، إلا أن بنود الوثيقة كانت صريحة في أن تحاشيها نقاط الخلاف بين المذاهب لا تشمل التيارات التي وصفتها بالضالة.
وفي بند آخر ضربت الوثيقة أحد أركان التنظيمات الإسلامية في مقتل بتصنيف "حفظ الوطن وصيانته"، ضرورة سادسة جديدة تضاف إلى الضرورات الخمس التي نص عليها الفقهاء منذ القدم، وبنوا على أركانها مقاصد الشريعة التي قالوا إنها جاءت أساساً لحفظ تلك الضرورات، وهي "الدين والنفس والعقل والعرض والمال"، وهي بذلك تقوض إحدى أدبيات الإخوان المسلمين ونشر الثورة عند الخمينية، التي لا تعترف بالدولة الوطنية، وتعتبرها "حدود سايكس بيكو" لا حرمة لها، مما رفضته المجامع الفقهية والمتخصصون في اجتهادات عدة أقرت الدول الوطنية، وأنها تنظيم لا يتضاد مع الشريعة، ولا تقوم مصالح الناس في العصر الحديث من دونه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الصراع السياسي يجر معه المذاهب
وفي تصريح إلى "اندبندنت عربية" على هامش المؤتمر يرى مفتي بولندا توماش ميشكيفيتش الذي عادت بلاده للأضواء بعد الحرب الأوكرانية، أن التيارات العابرة للقارات هي أكثر ما أضر بالمذاهب الدينية، فهي تأتي بأفكار في تونس مثلاً وتحاول فرضها على البولنديين، وهذا يجلب السخط على بقية الشرائح الإسلامية التي تبحث عن السكينة.
واعتبر أن التنسيق بين المذاهب الإسلامية بات ضرورة في أوروبا في الأقل لدفع الضرر وجلب المنافع، فمثلاً عندما تدفق اللاجئون الأوكرانيون على بولندا كان توحد الصف الإسلامي نحو التضامن معهم من دون تمييز، "لفتة حسبت لمصلحتنا، بل إن السلال الغذائية التي جاءتنا من السعودية لم نكتب عليها ما يشير إلى أنها رمضانية ليستفيد منها كل المحتاجين، وسنوزع 17 طناً من التمور كذلك تلقيناها من مركز الملك سلمان للإغاثة على هذا النهج".
لكنه اعتبر أن جوهر المشكلة ليس في المذاهب والأديان والاتصال في ما بينها وبناء الجسور، إنما "المشكلة في التوظيف السياسي الذي يستخدم هذا السلاح كلما وجد ذلك يخدمه، كما في المسألة الشيوعية"، مشيراً إلى خطاب بعض السياسيين، مثل بوتين من غير أن يسميه حين يوظفون أي فكرة تخدمهم في معاركهم السياسية.
ويرى الباحثون في الملف وحضور المؤتمر أن بين المسائل التي تظهر أن "بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية" أضحى ضرورة، هو هذا التضارب في التفاعل مع حرب غزة والانتهاكات فيها، مما يحتاج إلى جانب من الترشيد، كي لا تحدث آثاراً عكسية للمسلمين المهاجرين، من حيث لا تفيد الفلسطينيين.
وتؤكد جلسة خصصت لهذا البعد المتصل بالتضامن مع غزة "أهمية بناء الجسور بين أبناء الأمة لتحقيق الوحدة بين المسلمين، فالتركيز على التواصل يطور العلاقات ويوحد الصف لنصرة الشعب الفلسطيني" وفقاً لمفتي صيدا في لبنان محمد عسيران.
من جانبه قال رئيس ديوان الوقف السني في العراق مشعان الخزرجي إن "المؤتمر يأتي في ظرف حرج، فأشقاؤنا في قطاع غزة يمرون بما لا طاقة لبشر على تحمله، كما أن الوجه الآخر لهذه المأساة هو صمود الشعب الفلسطيني وإصراره على نيل حقوقه المشروعة كافة وتحرير أرضه".
ويخلص المستشار الأول في المجلس الإسلامي البريطاني السير إقبال سكراني في حديث جانبي إلى "اندبندنت عربية" إلى أنه لمس بعد حرب غزة أكثر من أي وقت أن التنسيق بين المكونات المسلمة ضروري، من أجل أن تحظى بالاحترام الذي تستحق، وتجد مطالبها آذاناً مصغية من الحكومة.
محاصرة إذكاء الصراع المذهبي
وقال "نحن في الغرب نحتاج إلى هذا الجهد الذي قامت به رابطة العالم الإسلامي في ’بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية‘. بقي علينا أن ننقل هذه الرسالة إلى مجتمعاتنا لتوجيه الرسالة نفسها بأن هناك قضايا تؤثر فينا كمسلمين، وأننا سننجح فقط إذا كنا قادرين على العمل معاً، ولا يكون ذلك إلا باحترام اختلافاتنا"، مؤكداً أن استشعار الدول الإسلامية أيضاً هذا التحدي يفيد الشعوب المسلمة في الغرب، فأي حدث في الشرق الأوسط نجد صداه في بريطانيا، ويؤثر في حياة السكان واستقرارهم.
وكان المؤتمر الذي أقيم على مدى يومين في مكة المكرمة الأسبوع الجاري، انتهى بإقرار وثيقة "بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية"، مكونة من 28 بنداً، تؤكد سماحة الإسلام وأهمية ألا يتطور الاختلاف المذهبي المشروع إلى تناحر طائفي.
وأقر لجنة تنسيقية لمتابعة مخرجات المؤتمر، وإقامته سنوياً لضمان ترجمة أفكار الوثيقة المعلنة إلى واقع يطبق، بعد أن أكدت تصميم أرباب المذاهب كافة بما فيها السنة والشيعة على "وضعُ حدٍّ للشتات المذهبي في قضايا الأمّة الكبرى"، مؤكذين التطلع إلى "تعزيز التفاهُم والتعاوُن بين المذاهب الإسلامية لخدمة الأهداف المشتركة، ولا سيما ما يتعلَّق بالقضايا الكبرى، ومواجهة خطابات التطرف الطائفي وشعاراته وممارساته، الذي سعى لإذكاء الصراع والصدام المذهبي، وهو ما أساء لقيم الأُخوّة الإسلامية، فضلًا عن إساءته لسُمعة الإسلام والمسلمين، مع التأكيد في ذلك كله على الخصوصية المذهبية، ورفْض أساليب الإساءة أو الازدراء للمذاهب الإسلامية".
ونظر المفكر السعودي محمد علي الحسيني من المذهب الشيعي إلى وثيقة "بناء الجسور" بوصفها سفينة نجاة، في سياق "مواجهة مصاعب وتحديات الأمة على كل المستويات الداخلية والخارجية، استخدمت فيها الصراعات المذهبية بطريقة همجية تسببت في الكثير من الكوارث والحروب الدموية التي ضربت أمن الدول واستقرار مجتمعاتها، فضلاً عن ظاهرة (الإسلاموفوبيا) التي طالت المسلمين في دول الغرب، والفاتورة التي يدفعونها نتيجة تشويه صورة الإسلام".