Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"يوميات آنا ماغدالينا" يرصد حياة باخ ومساره الإبداعي

10 سنوات من الصبر من أجل فيلم نخبوي عن مؤسس الحداثة الموسيقية

جان سيباستيان باخ (1685 – 1750) (غيتي)

ملخص

كانت "يوميات" زوجة باخ اختياراً لوجهة نظر غير منطقية تاريخياً، لتروى من خلالها الحكاية كلها بشكل تبدو معه وكأنها هي الحقيقة كل الحقيقة.

 لم تكن الزوجة الثانية للمؤلف الموسيقي الألماني الكبير جان سيباستيان باخ عالمة في الموسيقى ولم تكن كاتبة، بالتالي فإنها لم تكتب أبداً تلك اليوميات التي ينسبها إليها السينمائيان الزوجان الألمانيان من أصول فرنسية، جان - ماري ستراوب ودانييل هوييه في فيلمهما المشترك "يوميات آنا ماغدالينا باخ"، الذي كان حين حققاه في عام 1968 أول فيلم روائي طويل لهما والأول بين مجموعة أفلام أبدعاها عن الموسيقى والموسيقيين كما عن شؤون التاريخ والمسرح وعديد من ضروب الإبداع الأخرى.

ومهما يكن من أمر فإن قارئنا هنا سيتساءل بالتأكيد عمن يكون هذان المخرجان اللذان ربما كان العارفون بسيرتهما الفنية ينظرون إليهما بإكبار بوصفهما مجددين في عالم الفن السابع حقيقيين دون أن يعلمونا ما إذا كانوا قد غاصوا حقاً في ثنايا تلك السينما، وخصوصاً بسبب قدر التجريبية والنخبوية والاستقلال الذي يسمها، حتى وإن كانت غالباً ما استلهمت أعمالاً فنية كبيرة عرفها الإنسان على مسار تاريخه. ولم يكن باخ وموسيقاه من أقلها شهرة على أية حال. ومع ذلك لا بد أن نقول في هذا السياق، إن هذا الفيلم عن باخ ربما يكون أقل الأفلام التي كرسها الزوجان الطموحان للموسيقى وأهلها، شهرة، حتى وإن استخدم الفيلم أكثر من 30 قطعة موسيقية من تراث باخ فشكل ذلك الاستخدام شكله وموضوعه الأساسيين بطريقة ندر أن حظي فيلم عن الموسيقى بما يماثلها في إخلاصه لعمل مبدع فن الفوغا العظيم.

السر في وجهة النظر

وربما يعود ذلك إلى وجهة النظر التي اختارها الزوجان السينمائيان واخترعا من أجل التعبير عنها ما يمكن تسميته "كذبتهما الكبرى"، والتي تبدأ بفرض نفسها منذ عنوان الفيلم الذي يخبرنا بأن آنا ماغدالينا تركت للأجيال المقبلة نسختها من سيرة حياة زوجها الكبير ورصدها الدقيق والمليء بالدهشة للكيفية التي بها لحن أعماله الكبرى من فوغا وكانتاتا وكونشيرتو، وبخاصة من قداسات لا تزال تعد حتى اليوم من أعظم ما أبدع فنان في هذا المجال. وهو ما يعبر عنه جواب مشترك لا يزال يطالعنا حتى اليوم حين يسأل واحد من أهل الموسيقى الكلاسيكية أو هواتها الأكثر حماسة: ما العمل الموسيقي الذي تحب أن تصحبه معك إن قررت العيش في جزيرة مهجورة نائية. فغالباً ما يكون الجواب "قداس باخ بحسب إنجيل متى". وهذه حقيقة موسيقية تاريخية، بيد أن ما ليس حقيقياً نلخصه بعبارات بسيطة: لم تكتب آنا ماغدالينا أية يوميات ولم يؤثر عنا أي اهتمام بإبداعات جان سيباستيان، لكن السينمائيين الزوجين نسبا إليها كامل حكاية زوجها ومجمل علاقته الصعبة مع إبداعاته والموسيقى بصورة عامة بالنظر تحديداً إلى أن ما يروى عنه كان يتناقض جدلياً مع ما تخبرنا به آنا ماغدالينا في الفيلم، ناسبة المعاناة وشظف العيش إلى زوجها.

 

وهنا إذا تذكرنا أن التجريبية الحقيقية، وربما التأسيسية أيضاً التي خاضها ستروب – هوييه في تحقيقهما هذا الفيلم، والتي دفعا ثمنها باهظاً لابتعاد الجمهور العريض عنهما على أية حال، إنما كمنت في ذلك الاختيار لوجهة نظر شديدة الغرابة – ولا سيما في ابتعادها عن الحقيقة المعروفة لجمهور باخ نفسه - لكن ذلك لم يكن سوى جزء من اختيارهما الفني. فالسينمائيان كانا يقولان دائماً ومنذ بدايتهما السينمائية بشرائط قصيرة أصرا على أن تكون روائية مع ممثلين حقيقيين ولو في تأديتهم أدوار شخصيات تاريخية حقيقية، أن أسلوبهما الجوهري إنما يقوم على الإتيان بممثلين يلعبون الدور، بالتالي يجعلان الكاميرا تصور ما يمكن أن يكون فيلماً توثيقياً عن ممثلين يلعبون أدوار تلك الشخصيات "الحقيقية"، بحيث يصبح الفيلم وثائقياً دون أن يكون كذلك.

بعيداً من المنطق التاريخي

وذلكم هو ما فعلاه في "يوميات" زوجة باخ كاختيار لوجهة نظر غير منطقية تاريخياً، لتروى من خلالها الحكاية كلها بصورة تبدو معها وكأنها هي الحقيقة كل الحقيقة. وعلى أية حال لا بد أن نؤكد هنا أنه ليس ثمة من بين كل حوار وكل وصف وكل مشهد في الفيلم ما هو قائم على ما يتناقض مع ما هو حقيقي ويشكل جزءاً من تاريخ الزوجين وتاريخ علاقة الزوج بإبداعاته، والزوجة بما عاناه زوجها.

وهنا لا بد من توضيح من دونه سيبدو ما نتحدث عنه هنا نوعاً من ألغاز يصعب سبرها. فالحقيقة أن السينمائيين، في كتابتهما ثم تحقيقهما للفيلم إنما اعتمدا أولاً على مجمل مراسلات الموسيقي الكبير وما كتب عنه دون أن تكون ثمة فقرات أو عبارات كانت من تدبيج الزوجة. فهي في نهاية الأمر، وكما أشرنا غير مرة في الفقرات السابقة لم تكن كاتبة بل حتى لم تكن فائقة الاهتمام بما يبدعه زوجها، ومن هنا فإن "الكذبة" التي يقوم عليها سياق الفيلم بدءاً بعنوانه لم تكن سوى اختيار جمالي خالص هو على أية حال ما حرك السينمائيين لخوض هذا الفيلم جامعين في بوتقته تجديدهما السينمائي – الكتابي ورغبتهما في تقديم موسيقيهم المفضل لجمهورهما من موقع هو أقرب ما يكون إلى حياته اللصيقة به.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن هنا بدا هذا الفيلم متميزاً كما بدا الحل الذي اختاراه له أقرب ما يكون إلى فلسفتهما السينمائية، وخصوصاً من خلال اهتمامهما الواضح بالنظر إلى المبدع من منظور يبدو أقرب ما يدنو منه عاطفياً وجغرافياً دون أن يكون مسؤولاً عن تلك النظرة إليه، والتي باستخدامها مثلت: التأريخ الحقيقي - حين يقدم من خلال صاحب العلاقة مباشرة، والنظرة الأقرب إلى ما يمكن أن يكون إلى الحقيقة المطلقة بقدر ما ينطوي على حميمية يفترض صدقها الخالص، وتلقي الجمهور لتلك النظرة، ولكن على ضوء الحقيقة التي لا مراء فيها، والتي تتمثل في النتاجات الإبداعية نفسها، والتي هي المبرر الأساس للحديث عن تلك الحياة.

الفن لا يكذب!

فالفن في هذا السياق لا يمكن أن يكذب طالما أنه النتيجة النهائية والحقيقية الأكثر صدقاً لعمل الفنان، بالتالي فإن كل الوسائل تبدو صالحة لتقديم حياة الفنان من خلال حقائق فنه بصرف النظر عن أي "تلاعب" في كل ما هو محيط بتلك الحياة بما في ذلك النظرة التي أشرنا إليها، وحتى لو تناقضت كلية مع الواقع التاريخي. ومن هنا الإمعان في اختراع ما يمكنه أن يقدم لنا حقيقة الفن دون أن يتعمد ذلك. ويقيناً أن خير من يمكنه أن يفعل هذا شخص يمكن أن تنسب إليه نظرة ما إلى النتاج الفني لصاحب ذلك النتاج، لأن الجوهر (المضمون هنا) ليس صدقية ما يحكيه، بل قدرته على إيصال الحكاية إلى متلقيها مهما كانت زينتها ما دام ذلك الإيصال ليس سوى "وسيلة مبتكرة" لدفع المتلقي إلى التركيز على الأعمال الفنية فقط، وما دام الغاية النهائية للساعة ونصف الساعة التي يعبرها زمن الفيلم عبر الحكاية المنسوبة إلى آنا ماغدالينا ليست سوى تقديم نحو ثلاث دزينات من روائع باخ لأعرض جمهور ممكن.

صعوبة أساسية

لكن هذا الجمهور كان من الصعب عليه أن يتفاعل مع فيلم يحمل كل ذلك القدر من النخبوية والخصوصية ويحاول أن يقدم تجديداً - يحتاج إلى كثير من الشروح النظرية على أية حال - في مجال تصوير العلاقة ("الوحيدة الممكنة بين الفن السينمائي والتاريخ" بحسب ما سيشرحه جان ماري ستروب في حديثه عن الفيلم) التي دفع الفيلم ثمنها على أية حال. وكان ذلك متوقعاً بالنسبة إلى فيلم احتاج صاحباه إلى الانتظار نحو 10 سنوات بين ظهور فكرته لديهما إثر تحقيقهما فيلماً موسيقياً أولاً كان قصيراً عن موسيقى باخ، وبين تحقيق الفيلم الذي نتناوله هنا، والذي في وقت أشاد به النقد بصورة عامة إشادات قد تتفاوت في الحماسة، لكنها بالتأكيد تعبر عن إعجاب لم يخب منذ ذلك الحين بفيلم عرف كيف يرسم صورة رائعة - ولو افتراضية - لجزء من حميمية بيت قام على الفن، بل أسس لقواعد فنية جديدة كانت تستحق أن تخلدها السينما، ولو على تلك الطريقة شديدة الخصوصية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة