ملخص
يتناول الشاعر الألماني الكبير ريلكه، المعروف بثقافته الفنية، تجربة الرسام الفرنسي الكبير سيزان، في رسائله إلى زوجته النحاتة كلارا، ويعتبرها نقطة مفصلية في تاريخ الرسم في أوروبا.
"الأعمال الفنية هي على الدوام نتيجة خطر تعرّضنا له". هذا ما يقوله راينر ماريا ريلكه في رسالته إلى زوجته كلارا التي كتبها إليها في صيف 1907، مضيفاً: "العمل الفني في آخر المطاف هو التعبير الضروري المتعذر كبحه". في رسالة أخرى، بعثها إليها في خريف العام ذاته، يستعير ريلكه من كيركغارد نظرته إلى الفن والكتابة، إذ كان الفيلسوف الدنماركي يرى أن هذا النوع من النشاط هو بمثابة "العمل اليومي الذي نقوم به في شكل أعمى، عن طيب خاطر". هذا الإحساس بِثقل مهمة الفنان وغموضها وما يحفّها من مغامرة ومكابدة هو مدخل أساسي إلى كتاب راينر ماريا ريلكه "رسائل عن سيزان" الصادر عن دار خطوط وظلال، بترجمة المغربيين حسان بورقية ومحمد الناجي.
كتب صاحب "مراثي دوينو" هذه الرسائل إلى زوجته النحاتة كلارا ويستهوف بين صيف وخريف عام 1907، وباستثناء الرسالتين الأخيرتين المكتوبتين في براغ، فبقية الرسائل، وعددها 29 ، كتبها ريلكه من إقامته الباريسية، تزامنا مع المعرض الاستعادي الأول للفنان الفرنسي بول سيزان. ينطلق ريلكه من تجربة سيزان باعتبارها نقطة مفصلية في تاريخ الرسم في أوروبا، ليكشف عن تصوراته وآرائه في الفن عموماً، وليقدم عبر كلارا ويستهوف خبرته الفنية والأدبية إلى القراء.
فنان رفضه الجميع
ينقل ريكله إلى كلارا مشهداً تراجيدياً لسيزان في سنواته الأخيرة، حين كان الأطفال يرمونه بالحجارة، وهو يتوجه إلى ورشته بأسمال رثة، يفعلون ذلك باستهزاء وسخرية. والحقيقة أن السخرية لازمت سيزان معظم حياته. فمنذ أن ترك منزل عائلته الثرية وغادر الجنوب الفرنسي، برفقة صديقه إميلا زولا باتجاه باريس باحثَيْن عن المجد الفني والأدبي، وهو يواجه الرفض والتبخيس والنبذ من لدن جمهور الفن ونقاده على السواء. مما جعله يعود إلى إقامته الريفية في الجنوب ليعمل في عزلة تامة على إبداع لوحات ستترك أثرها في كبار الرسامين كبيكاسو وماتيس، وستمهد لخروج الفن الأوروبي من الكلاسيكية إلى الحداثة. تخلى سيزان عن مهنة المحاماة التي فرضها عليه والده في بداية شبابه، واختار أن يترافع على الطبيعة، عبر نقل مفرداتها إلى لوحاته. اختفى عن الأنظار قرابة عشرين عاماً، وعكف على رسم أعمال لم يكن يؤمن بها أحد سواه. ينقل ريلكه أن سيزان صرخ في وجه أحد زواره: "سأعمل من دون الاكتراث بأي أحد وأصبحُ قوياً". وعلى مدار سنوات ظل مرفوضاً من النقاد والصحافة ورعاة الفن وأصحاب القاعات، ولم يتبعه سوى الأطفال الذين يرمونه بالحجارة على حد تعبير ريلكه.
كان الفنان الفرنسي يخرج من مدينته كل يوم عند الساعة السادسة صباحاً باتجاه ورشته الريفية في ضواحي "إِكس أُن بروفانس"، ولا يعود إلا حين يستبد به الجوع، ينام في المساء منهكاً، ليقوم بالعملية نفسها في اليوم الموالي. ظل يرسم هناك يومياً، لم تكن له من مهمة أخرى في الحياة سوى الرسم. هذا ما ينقله لنا ريلكه. ومع ذلك لم ينل ما يكافئ كل هذا التعب إلا بعد غيابه.
ظلت المعارض ترفض أعماله تباعاً، ولم ينظم له معرض شامل في باريس إلا قبل عشر سنوات على رحيله. تم الانتباه إلى تجربته الفذة متأخراً، لكنه لم يحظ بالتقدير اللازم، ولم يتم الاعتراف بعبقريته إلا بعد عقود على رحيله.
يعترف ريلكه بفضل الرسام الفرنسي عليه: "حين أنظر إلى ما أتعلمه من سيزان اليوم أقيس قدر التغير الذي طرأ عليّ". ويتوقف عند سوء الفهم الذي طاوله لفترة طويلة، وعند أسباب ذلك. ثم ينتقل للحديث عن تأثره ببودلير، ويتعقب أثر قصيدة "الجثة" في لوحاته، مؤكداً أن ما تعلمه سيزان من الشاعر الفرنسي الذي سبقه إلى الوجود بعقدين، ورحل قبله بأربعة عقود هو ما سماه "اللغة الموضوعية"، أي حضور المرعب والمقزز، وما يتفاداه المتلقي، في الفن. وحين يتحدث ريلكه لكلارا عن إحدى لوحات سيزان فإنه يتوقف بشكل دقيق عند ترتيب العناصر وطريقة حضورها في اللوحة، وعند تناغم الألوان وتحاورها وحدتها وخفوتها وما تحمله من دلالات.
تكمن فرادة سيزان، بحسب ريلكه، في كونه ظل عاجزاً عن تفسير أعماله، والترافع عنها، كما كان يفعل فان غوخ، وأنه أعطى للألوان سلطة أن تفسّر بعضها. وحتى حين كان يتحدث عن فنه في رسائل قليلة جداً كانت لغته تبدو غامضة. وربما الجملة الوحيدة التي كان يكررها في حديثه، وكانت واضحة هي" "المهمّ هو العمل". أما الجملة التي كانت بمثابة نبوءة عند سيزان فهي قوله: "لقد أقسمتُ أن أموت وأنا أرسم". لذلك يصف ريلكه موته بلغة شاعرية: "وكما في رقصة أموات قديمة أمسك الموت يد سيزان من الخلف، واضعاً بنفسه اللمسة الأخيرة، اللمسة الوحيدة التي يستطيع وضعها".
الفن بعين شاعر
لم يكن سيزان وحده موضوع رسائل ريلكه، وإن كان حضوره طاغياً إلى حد كبير، فثمة حضور موازٍ لفان غوخ وأوغست رودان وجان شاردان ومالت لوريدس وبّيسارو وغوغان وأسماء أخرى تنتمي إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كان ريلكه يعود إليها من حين لآخر في قراءته لتحولات الفن في أوروبا، وهي ليست بالضرورة قراءة ناقد تشكيلي أو مؤرخ للفن، إنها بالأساس تنطلق من رؤية شاعر ومن عينه المتطلبة.
توقف صاحب "وليمة العائلة" عند العلاقة المعقّدة بين الفنان والفنان، واستحضر نموذج فان غوخ مع بول غوغان، حيث كان الأول يتمنى اللقاء بالثاني ليقاسمه تجربته، على افتراض أنه الأقدر على فهمه، وبعد أن تحقق اللقاء وتعمقت الصداقة تحولت في أحد منعطفاتها إلى عداوة شديدة، وإلى الرغبة في أن يقضي أحدهما على الآخر إذا ما أتيحت له الفرصة. توقف أيضاً عند العلاقة المعقدة بين الفنان والمرأة، والتي تزداد تعقيداً إذا كانت المرأة فنانة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يتفاعل ريلكه مع كلارا في تفاصيل صغيرة تعالج المشترك بينهما، يعقّب على ترتيبها لورشتها بأسلوب لا يخلو من فلسفة: "أعجبني التغيير الذي أحدثتِه على مرسمك الصغير جداً، أما الفضاء الكبير، الشاسع، فموجود بداخلنا".
لم يخفِ ريلكه أنه كان يحس بالضيق خلال إقامته الباريسية في تلك الفترة، هو الذي اعتاد على الحياة البرية في أماكن شاسعة. لذلك حين أرسلت له زوجته ثلاث قشات صغيرة ضمن إحدى رسائلها تحرّك فيه الحنينُ إلى الأرياف والأفضية الفسيحة. فقد وصف الغرفة التي يعيش بها بأنها علبة صغيرة تجاور عشرات العلب. "يا إلهي، كم من أماكن تعاملت معها في السنة الماضية: من بحار وغابات وفُرَج وسط الغابات. إنني أشعر أحياناً بحنين إليها لا يمكن وصفه".
ما يجعل كاتب ريلكه ناقصاً هو غياب رسائل الطرف الآخر، كلارا ويستهوف، زوجته. فهي تتقاسم معه التجربة الفنية عبر ممارستها للنحت، وهي أيضاً تلميذة أوغست رودان الذي رافقه ريلكه وألّف كتاباً عنه. بالتالي فرسائلها أو ردودها على رسائل زوجها كانت تحمل بالضرورة الكثير من المعطيات والأفكار التي تتخذ شكلاً تفاعلياً مع تداعيات ريلكه، وحافزاً لمواصلة كتابة رسائله.