حتى وإن كان الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز أبدى دائماً، في كتاباته المختلفة كما في ممارسته تدريس الفلسفة، تقديراً كبيراً لفيلسوفين "شماليين" سبقاه زمنياً في شكل مباشر، وهما كيركغارد ونيتشه، فإنه في حقيقة أمره لم يكن لا من أتباع هذا ولا من حواريي ذاك. بل إنه كان يرفضهما معاً من الناحية الفلسفية. يرفض كيركغارد لمسيحيته الزائدة عن الحد وفق تصوره، ويرفض نيتشه لعدائه المفرط للمسيحية. ومع هذا إذا توقفنا عند علاقة ياسبرز بهذا الأخير، سنجده وكرس له، بفارق زمني يصل إلى 18 عاماً، كتابين ضخمين. أولهما هو "نيتشه والمسيحية" (1919)، أما الثاني فهو الذي يعتبر من أكثر كتبه شعبية، بل حتى من أكثر الكتب التي وضعت عن نيتشة شعبية على الإطلاق، هو الذي ترجم إلى عدد لا بأس به من اللغات على عكس معظم كتب ياسبرز الأخرى. ومهما يكن فإن ياسبرز الذي سنعود لكتابه الثاني بعد أسطر، كان من أولئك الفلاسفة الذين - على عكس معظم مفكري القرن الـ20 الذين تحولوا إلى آيديولوجيين أو سياسيين أو رجال أحزاب - أصروا على البقاء داخل أطر التفكير الفلسفي إلى حد قضاء العمر كله في الكتابة والتدريس. بمعنى آخر عرف ياسبرز كيف يكون واحداً من الصادقين مع أنفسهم في مجال العمل الفلسفي إنما من دون أن يقيم في برج عاجي، بل نراه انكب على الفلسفة وحدها طوال حياته، واضعاً إياها فكرياً وعملياً في خدمة الحياة العامة للبشر. في هذا الإطار الفكري المميز يحتل الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز إذاً مكانة متقدمة، لا سيما اعتباراً من عام 1945، أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية باندحار النازية التي كان ياسبرز واحداً من الذين بكروا في التنديد بعنفها وبطابعها الشمولي.
فيلسوف يتأمل التاريخ
منذ 1945، واصل كارل ياسبرز تأمله في التاريخ، ولكن من موقع التماس مع الواقع الملموس. وهذا ما يتجلى بخاصة في كتبه التي نشرها طوال عقد ونصف العقد من الزمان ومن أبرزها "الخطيئة الألمانية" (1946) و"أصل التاريخ ومعناه" (1950) و"القنبلة الذرية ومستقبل الإنسانية" (1958) و"الحرية وإعادة التوحيد" (1960). لقد كان تدخل الفيلسوف في كتبه هذه تدخلاً سياسياً مباشراً أخذه عليه معاصروه من الذين يريدون للفلسفة أن تظل منزهة عن "الصغائر". وهو مأخذ كانت المفكرة الفيلسوفة صديقة ياسبرز وهايدغر حنة آرندت من أبرز الذين تحدثوا عنه، إذ نجدها كتبت تقول "إن تجاوب ياسبرز مع الحياة العامة يبدو لي فريداً من نوعه، لأنه يأتي من فيلسوف، ولأنه ينبع حقاً من صلب قناعته الفلسفية العميقة: إن القاسم المشترك بين الفلسفة والسياسة هو اهتمامهما بالعالم كله، وهذا هو السبب الذي يجعل الفلسفة على علاقة بالحياة العامة، إذ لا يكون ثمة مكان إلا للشخص وقدرته على البرهنة عن ذاته. إن الفيلسوف على خلاف العالم يشبه رجل السياسة في كونه مرغماً على أن يوضح شخصياً ما لديه من آراء. ولكن في هذا المجال يبقى وضع رجل الدولة مميزاً، بالنظر إلى أن رجل الدولة لا يكون مسؤولاً إلا أمام شعبه، أما ياسبرز وفي الأقل في كل الكتابات التي وضعها بعد 1933، فتحدث كما لو أنه يدافع عن آرائه أمام الإنسانية بأسرها".
500 صفحة مكرسة لنيتشه
وهذه الإنسانية هي بالتحديد تلك التي نراها تسيطر، ولو غالباً في شكل موارب، على الصفحات الـ500 في الأقل التي يشغلها كتاب ياسبرز الذي نتحدث عنه هنا "نيتشه، مدخل إلى فلسفته" المنجز عام 1936 بالألمانية، مع أن ياسبرز كان مقيماً في ذلك الحين في الولايات المتحدة الأميركية بعد مبارحته ألمانيا هرباً من حكمها النازي وعداء هتلرييها لكل ما هو فكر حر. وكان ياسبرز منذ وصوله بدأ يشارك في الحركة الفكرية الأميركية بحماسة شديدة. وهنا بصدد كتابه عن "نيتشه" لا بد من الإشارة إلى أن ياسبرز لم يكن يشارك نيتشه أفكاره، ومع ذلك تظهره صفحات الكتاب متعمقاً فيها مستوعباً كل كلمة وفكرة، بل أحياناً مفتوناً بقدرة نيتشه على صياغة أفكاره بلغة أدبية "نادرة الوجود في عالم الكتابة الفلسفية". مهما يكن فإن من النادر أن يبدو ياسبرز في الكتاب مناهضاً كلياً للفكر النيتشوي إلا في المجالات التقنية، أو حين يرى أن صاحب "هكذا تكلم زرادشت" يفرط في عدائه العضوي للمسيحية. ومن الواضح على أية حال أن غاية ياسبرز من وضع هذا الكتاب كانت غاية تعليمية مع ما يستتبعه هذا من موضوعية نلاحظها في تقسيم الكتاب كما في ثناياه.
ذلك أن المؤلف بعد مقدمة جعل عنوانها "كيف نفهم عمل نيتشه" واستعرض فيها الأنماط المتعددة لتفسير هذا العمل مركزاً بخاصة على مفهوم الحقيقة الذي يعرف ياسبرز أنه كان أساسياً لدى نيتشه، ينتقل في قسم أول إلى حياة نيتشه، إذ يرسم صورة متكاملة لتلك الحياة بدءاً من الطفولة وصولاً إلى زمن العزلة ثم المرض والموت، مركزاً على حدود إمكان ديمومة الصداقة لدى نيتشه، مستعيناً في توضيح هذا بمثال علاقة الفيلسوف بفاغنر. وبعد ذلك ينتقل ياسبرز إلى شرح المواضيع النيتشوية الأساسية: الإنسان والإنسان الأعلى، والحقيقة، التاريخ والزمن الراهن، والسياسات الكبرى وصولاً إلى تفسيره للعالم. ليتوقف في القسم الثالث عند ما يسميه "فكر نيتشه على ضوء شمولية وجوده". والحال أن هذا القسم هو الذي توقف فيه ياسبرز، وبقدر كبير من الوضوح والتعمق عند الفكر النيتشوي، متوزعاً بين رفض أجزائه والقبول المشروط بكليته، مما أثار لدى قراء الكتاب ذلك الالتباس الذي جعل بعضهم يعتقد ياسبرز نيتشوياً، وهو ما أنكره صاحب العلاقة على أية حال، لا سيما إذ يؤكد في نهاية تحليله أن "نيتشه يبقى ضحية، ويظل حتى النهاية فكراً مفتوحاً، غير قابل لأن يستحوذ عليه أحد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نيتشوي ولكن
والحال أن ياسبرز، المولود في 1883 في أولدنبورغ، كان تبدى "نيتشوياً"، منذ 1931، وفي خضم اهتمامه المبكر بنيتشه، وبعدما كان شجب معاداة هذا الأخير للمسيحية في كتابه المبكر عنه، إنما فقط في مجال إعلانه رغبته، في كتابه "وضعية عصرنا الروحية"، في إيقاظ معاصريه على حقائق الأخطار المحيطة بهم. وكان ياسبرز درس الطب ثم علم النفس قبل أن ينصرف إلى الفلسفة، لكن نزعته الفلسفية، في البداية، ظلت تأملية ترتبط بعلم النفس. غير أنه سرعان ما وجد نفسه غير قادر على الفصل بين الفلسفة والفكر السياسي، بتأثير من الظروف العالمية المستجدة. وهو من دون أن يصل في طموحه إلى ما نادى به كارل ماركس من أن "على الفلسفة أن تغير العالم، بعد أن فسرته طويلاً"، وجد أن الفلسفة بإمكانها في الأقل أن تنشر الوعي لدى تلك النخب التي كانت تغوص في الوحل حتى الأعناق.
النازية لم تأت من فراغ
على رغم تنبيهه المبكر أحس ياسبرز أنه، مثل غيره من الألمان، مسؤول عما حدث وأن النازية وهتلرها لم يأتيا من فراغ، وهذا ما جعله يمضي الجزء الأكبر من سنوات عمره الأخيرة، وحتى رحيله عام 1969 في مدينة بال السويسرية، محاولاً أن يغوص في مسببات تلك "الخطيئة الألمانية"، وهو غوص أكسبه احتراماً كبيراً حتى لدى خصومه الفكريين، من أمثال الماركسي المجدد يورغان هابرماس، الذي خصه بثلاث دراسات شهيرة قال في واحدة منها إن "ياسبرز فهم في حينه أنه، من دون وعي المسؤولية السياسية، لن يكون من الممكن إحداث أي قطع مع التقاليد القاتلة لدولة نظمت معسكرات التجميع، ومع مجتمع كان فيه قتل الأقليات التي حددت هويتها في شكل تعسفي، أمراً ممكناً". إزاء هذا كله كان من الطبيعي لكارل ياسبرز أن يعتبر ابناً شرعياً للوعي الألماني الجديد، الوعي النابع من الخطيئة الألمانية، والراغب في تجاوز تلك الوضعية للوصول إلى تكوين إنسان ألماني منزه عن الخطيئة واع لها ومدين لها أيضاً. إزاء هذا هل يبدو من المهم حقاً أن يكون ياسبرز "وجودياً" في نظر سارتر، وفيلسوفاً يعتبر "الفشل هو الحد الضروري لكل مشروع إنساني" كما يقول الفيلسوف الشخصاني إيمانويل مونييه؟