ملخص
وسط دعوات من بعض الجمهوريين والمفكرين اليمينيين الذين يطالبون الولايات المتحدة بفك الارتباط عن حلف "الناتو" ينشأ خطاب مضاد بين الديمقراطيين وجمهوريين آخرين يؤمنون بالدور العالمي للولايات المتحدة يؤكد أن الحلف يمثل في جوهره انتصاراً رائعاً للأمن المتبادل ويعزز دور أميركا المهيمن في السياسة والاقتصاد العالمي
مع احتفال دول حلف شمال الأطلسي "الناتو" بالذكرى الـ75 لتأسيسه وتأكيد أنه أقوى وأنجح تحالف في التاريخ، إلا أن هناك حالة من الشك في شأن قدرة الحلف على مواجهة التحديات الجديدة والتكيف مع العصر في ظل تحول الوضع الأمني بسرعة في جميع أنحاء العالم، كما أن العودة المحتملة للرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب إلى البيت الأبيض تثير المخاوف حول مدى التزام الولايات المتحدة بأمن دول الحلف. فما أوجه الاختلاف بين رؤية كل من الجمهوريين والديمقراطيين للحلف؟ وهل أصبح عبئاً على الولايات المتحدة أم أن استمرار وجوده لا بديل عنه لضمان بقاء النفوذ الأميركي حول العالم؟
قوة ردع
وسط دعوات من بعض الجمهوريين والمفكرين اليمينيين الذين يطالبون الولايات المتحدة بفك الارتباط عن حلف "الناتو"، ينشأ خطاب مضاد بين الديمقراطيين وجمهوريين آخرين يؤمنون بالدور العالمي للولايات المتحدة، يؤكد أن الحلف يمثل في جوهره انتصاراً رائعاً للأمن المتبادل، ويعزز دور أميركا المهيمن في السياسة والاقتصاد العالمي، وهم يشيرون في ذلك إلى أن الحلف الذي أسسته 12 دولة فقط في أبريل (نيسان) 1949، أثبت فاعليته إلى درجة أن عضويته تضخمت إلى 32 عضواً بانضمام فنلندا والسويد إليه أخيراً، ونجح طوال تاريخه في ردع المعتدين المحتملين، سواء كان ذلك الاتحاد السوفياتي أو روسيا الاتحادية.
ولأن مبدأ الدفاع الجماعي يمثل حجر الزاوية في التحالف الذي كان هدفه إنشاء ميثاق أمني دائم في قلب أوروبا، وتنص المادة الخامسة من المعاهدة على أن الهجوم على أحد الأعضاء يشكل هجوماً على الجميع، هناك من يرى في الولايات المتحدة أن دعم "الناتو" يقلل من خطر نشوب حرب مكلفة وأوسع نطاقاً قد تشمل الولايات المتحدة، وأكد الرئيس جو بايدن مراراً أن أميركا تحت قيادته ستدافع عن كل شبر من أراضي "الناتو" في سياق حديثه عن حرب روسيا على أوكرانيا.
وفي وقت سابق من هذا العام، قال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن إن "(الناتو) هو أقوى وأنجح تحالف في التاريخ والسبيل للحفاظ عليه على هذا النحو هو التفكير في نجاحه الملحوظ، وإدراك أن نجاحه ليس ثابتاً، ما يتطلب إعادة التزام الرؤية المشتركة عبر الأطلسي اليوم وغداً وفي السنوات المقبلة".
منظمة مختلفة
لكن منظمة حلف شمال الأطلسي اليوم تبدو منظمة مختلفة عما كانت عليه عام 1949، فهي أكبر وأقوى وأكثر تنوعاً مما تصوره منشئوها، إذ يمثل الحلف ما يقارب نصف القوة الاقتصادية العالمية ونحو نصف القوة العسكرية العالمية، ونجح بامتياز في ردع التهديد الذي كان يمثله الاتحاد السوفياتي للغرب خلال الحرب الباردة، وظل موحداً في حماية مواطنيه من سياتل في غرب أميركا إلى ستوكهولم في شمال أوروبا، ما ضمن الأمن الجماعي لبلدانه، وعندما شن إرهابيو "القاعدة" هجمات 11 سبتمبر (أيلول) على واشنطن ونيويورك، وقف أعضاء "الناتو" متضامنين مع الولايات المتحدة وقاتلوا معها في أفغانستان ولقي نحو ألف من الأوروبيين مصرعهم استناداً للبند الخامس من المعاهدة بأن أي اعتداء على دولة من الحلف هو اعتداء على جميع دوله.
ومع ذلك، ظهرت خلال السنوات الأخيرة، حالة من الشك في شأن قدرة الحلف على مواجهة التحديات الجديدة والتكيف مع العصر في ظل تحول الوضع الأمني بسرعة في جميع أنحاء العالم، وبالمقارنة بما رسمه الرئيس الأميركي هاري ترومان في يوم التوقيع على المعاهدة عام 1949 من صورة لعالم بدا في ذلك الوقت شبه طوباوي، يرتكز على السلام الدائم والرخاء وتوحده قيم الديمقراطية والفردية والحرية وسيادة القانون، تغيرت هذه النظرة المثالية في السنوات الأخيرة.
وبحسب مدير سياسة "الناتو" السابق في وزارة الدفاع الأميركية كريستوفر سكالوبا، فقد حل محل النظرة المثالية شعور بأن الواقع الجديد قد يكون مختلفاً من حيث الإجابة عن أسئلة مصيرية مثل، هل سيعمل الحلفاء معاً حقاً؟ وهل سيساعدون بعضهم بعضاً إذا تعرضوا للهجوم؟
وعلى رغم أن حلف شمال الأطلسي يرتبط جغرافياً بمنطقة أوروبا الأطلسية، فإن التهديدات التي تواجهه ليست كذلك، إذ يتعين عليه الآن رد التهديدات أينما أتت في العالم، وهذا يعني أن يكون الحلف نشطاً أيضاً في البحر المتوسط، وبحر البلطيق والبحر الأسود، فضلاً عن المشاركة مع الدول الشريكة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
التباين حول الحلف
لكن الأمر يبدو للرئيس السابق دونالد ترمب ولعديد من الجمهوريين مختلفاً، إذ يصبح التضامن عبر الأطلسي والدفاع المتبادل لا قيمة لهما، والأمر كله يتعلق بالمال وما إذا كانت دول الناتو تنفق اثنين في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع بحسب ما ينص اتفاق دول "الناتو" عام 2014 أم لا، كما لا يشارك ترمب وغالبية الجمهوريين نظرة الديمقراطيين إلى روسيا تحت زعامة الرئيس فلاديمير بوتين باعتبارها تهديداً للنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة.
ولم يكن هذا التحول في الحزب الجمهوري وليد الساعة وإنما يعود لعقدين تقريباً حيث بدأت القاعدة المؤثرة في الحزب الجمهوري تتغير من مجموعة رجال الأعمال النافذين والغرف التجارية التي استفادت من المشاركة الدولية، إلى فئة ديموغرافية ريفية أكثر، وطبقة عاملة أكثر تشككاً في العالم وفي الدور القيادي الذي تلعبه أميركا فيه.
ويشير بعض الخبراء الذين عملوا في الإدارات الجمهورية منذ عهد الرئيس رونالد ريغان إلى الشعور المتنامي منذ إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، إلى أن الولايات المتحدة كانت تحاول القيام بالكثير عالمياً في حين تتجاهل المشكلات داخل البلاد، وأن هذا المعنى وجد تجسيده في شعبوية الرئيس ترمب التي تركز على الشعور بالمظلومية لدى الفئات الشعبية من الحزب والذي كان خاضعاً بالفعل، ولفترة زمنية طويلة، لمد وجزر في التوجهات الرئيسة حول نهج السياسة الخارجية عبر التاريخ الأميركي من المثالية الدولية للرئيس وودرو ويلسون إلى الرؤية الشعبوية للرئيس أندرو جاكسون والانعزالية لمشاركة أميركا عالمياً.
أسباب التحول
ووفقاً لبول سوندرز، الذي خدم في وزارة الخارجية في عهد الرئيس جورج دبليو بوش، كانت لدى مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية رؤية إعادة تشكيل المجتمعات الأخرى على نطاق واسع، لكنها كانت طموحة للغاية، ولم تنجح واستغرقت وقتاً طويلاً، وشعر الشعب الأميركي بالإحباط الشديد بسببها، وتمكن ترمب من الاستفادة من الرفض الشعبي لهذا النهج، لكنه لم يحدد رؤية للسياسة الخارجية والأمنية الأميركية، وترك الجمهوريين مع كل هذه التأثيرات والمخاوف المختلفة، ما أدى إلى تعزيز النزعة التحررية في الحزب التي ترى أن الدور الأميركي النشط في العالم، القائم على جيش كبير ودولة أمنية واسعة النطاق، يجعل البلاد في النهاية أقل حرية في الداخل الأميركي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتجلى التحول الانعزالي الجمهوري في السياسة الخارجية بشكل صارخ في المناقشة الدائرة حول المساعدات العسكرية الإضافية لأوكرانيا، حيث يردد الجمهوريون القول إن الولايات المتحدة لديها مشكلاتها الخاصة، وبحسب مساعد وزير الدفاع السابق خلال إدارة ريغان لورانس كورب، فإن الشعور بالتجاوز كان موجوداً بالفعل لدى الرئيس جورج دبليو بوش، الذي تجاوز حدوده في العراق وأفغانستان، وكانت لديه رؤية لاستخدام أحداث 11 سبتمبر لإصلاح الشرق الأوسط، وعندها بدأ كثر في الرأي العام الأميركي يشعرون أن الأمور تسير إلى أبعد من اللازم على حساب الولايات المتحدة.
مخاوف مشروعة
وبالنسبة للجمهوريين أثار الرئيس السابق بعض المخاوف المشروعة، إذ تعهدت كل دولة في حلف "الناتو" بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014، إنفاق ما لا يقل عن اثنين في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الوطني على الدفاع بحلول عام 2024، وحتى الآن لا يزال 13 من أعضاء الحلف البالغ عددهم 32 عضواً غير قادرين على تلبية عتبة اثنين في المئة، وشكك ترمب في موثوقيتهم كحلفاء وسأل: إذا كانوا يخشون روسيا إلى هذا الحد، فلماذا لا يزالون غير راغبين في إنفاق اثنين في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على أمنهم؟
كما أن تهكم ترمب الأخير بأن الروس يجب أن يفعلوا ما يريدون تجاه من لا ينفقون كثيراً، وأن الولايات المتحدة لن تدافع عن هذه الدول، جعل عديداً من الأوروبيين يتساءلون عما يمكن أن تعنيه رئاسة ترمب الثانية بالنسبة لهم، وما إذا كان يمكن لحلف "الناتو" أن يستمر في الوجود من دون التزام أميركي واضح وذي صدقية.
مشكلة لأوروبا
وعلى رغم مقترحات سكرتير عام الحلف بإنشاء صندوق أوروبي لتخصيص 100 مليار يورو (نحو 108,356 مليار دولار) لدعم أوكرانيا، فإن هذا يثير تساؤلات حول السبب وراء عدم قدرة الأوروبيين حماية أمنهم من ترمب عبر إنشاء سياسة صناعية دفاعية أوروبية مستقلة ومنسقة، بدعم من موازنة الاتحاد الأوروبي والسوق الموحدة، لكن هناك ثلاثة أسباب إلى التشكك، في الأقل في الأمد القريب وفق رأي إيان بريمر، مؤسس ورئيس مجموعة "أوراسيا"، أولها أن تصميم وتنفيذ دور أقوى للمفوضية الأوروبية في مجال السياسة الدفاعية والصناعية سيستغرق وقتاً طويلاً، ومن المرجح أن تواجه الخطة معارضة من السلطات الوطنية التي تشعر بالقلق من أن فرنسا المدافعة عن الدفاع الأوروبي الجماعي والدولة الوحيدة الحالية في الاتحاد الأوروبي التي تمتلك أسلحة نووية، ستتمتع بأكبر قدر من القوة لتحديد السياسة الأمنية للقارة.
ثانياً، أن الخطر الحالي لا يسمح بهذا التحول الأوروبي عن الولايات المتحدة الذي يستغرق نحو عقد من الزمن بينما لا يزال الاتحاد الأوروبي يعتمد بصورة كبيرة على أنظمة الأسلحة الأميركية، والقدرة على الوصول إلى معلومات الاستخبارات الأميركية، والدور الذي تلعبه أميركا باعتبارها القوة الدافعة وراء التشغيل البيني للحلف عبر البلدان.
وأخيراً، قد تختار بعض الحكومات الأوروبية الانحياز إلى ترمب بدلاً من إقامة علاقات أوثق مع زملائها من أعضاء الاتحاد الأوروبي، إذ يعد رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان ورئيس الوزراء السلوفاكي روبرت فيكو من الأمثلة الواضحة على ذلك، وقد ينضم إليهما قادة شعبويون في الاتحاد الأوروبي أصدقاء لروسيا.
أميركا تحتاج إلى "الناتو" أكثر
غير أن آراء ترمب والجمهوريين في شأن "الناتو" لا تزعج الأوروبيين فقط، بل أيضاً كثر من الديمقراطيين وبعض الجمهوريين وغالبية النخبة السياسية في واشنطن والذين وصفوا تصريحات ترمب بأنها خطرة للغاية، مشيرين إلى المزايا العديدة التي تحصل عليها الولايات المتحدة من كونها جزءاً أساسياً من "الناتو"، أولها أن الحلف يمنح أميركا حلفاء موثوقين، فعلى رغم أن الولايات المتحد، قوة هائلة للغاية عسكرياً وتمتلك أكبر ترسانة نووية على وجه الأرض، ولا تزال أكبر اقتصاد في العالم، إلا أنه من دون حلفائها في أوروبا وآسيا، فإن الولايات المتحدة ستصبح قوة عظمى متضائلة إلى حد كبير. والسبب وراء ذلك يعود إلى أن "الناتو" يوفر للولايات المتحدة موقعاً قيادياً في واحدة من أقوى شبكات التحالف العسكري في العالم، وتذهب هذه القيادة إلى ما هو أبعد من المجال الأمني، إذ تخلف تأثيرات سياسية واقتصادية عميقة وإيجابية للغاية، من بينها شراء معظم الدول الغربية أسلحتها ومعداتها العسكرية من الولايات المتحدة.
في المقابل، تتحالف روسيا مع الأنظمة المثيرة للجدل، مثل إيران وكوريا الشمالية، وإلى حد ما الصين، في وقت تعتبر الولايات المتحدة الدول القوية اقتصادياً مثل كندا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وعديد من الديمقراطيات الراسخة الأخرى أصدقاء وحلفاء لها، وإذا خرجت من "الناتو" ستفقد هؤلاء الحلفاء، بالتالي تفقد جزءاً من قوتها.
ثانياً، يوفر حلف شمال الأطلسي السلام من خلال غطاء من الحماية والأمن المتبادل لجميع أعضائه، وهو ما يساعد في تفسير الأسباب التي دفعت الغالبية العظمى من دول وسط وشرق أوروبا إلى المطالبة بالانضمام إلى الحلف بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991 ومواصلة أوكرانيا الضغط من أجل الحصول على عضوية الحلف، بينما خاضت روسيا حروباً قصيرة في السنوات الأخيرة مع مولدوفا وجورجيا وأيضاً مع أوكرانيا قبل عام 2022، لكن بوتين لم يجتح الدول المجاورة الأعضاء في "الناتو" لأن ذلك من شأنه أن يدفع التحالف بأكمله إلى حرب مع روسيا، وهو ما سيكون مقامرة محفوفة بالأخطار بالنسبة لموسكو.
إمبراطورية الدعوة
ثالثاً، كان التحالف العسكري للاتحاد السوفياتي، المسمى حلف "وارسو"، يتطلب انضمام الاتحاد السوفياتي والدول التابعة له في وسط وشرق أوروبا إليه، بينما يعد "الناتو" تحالفاً عسكرياً طوعياً، ويجب على الدول أن تمر بعملية تقديم طلبات صارمة قبل قبولها، ما يعني أن الوجود الأميركي الحالي في أوروبا لم يفرض بالقوة، بل على العكس، إذ تعتبر القوات الأميركية ونفوذها في أوروبا موضع ترحيب من قبل حلفائها.
ومن خلال الانضمام إلى الحلف وقبول القيادة العسكرية لواشنطن، فإن دول "الناتو" الأخرى تمنح الولايات المتحدة نفوذاً وقوة غير مسبوقين، ولهذا أطلق الباحث النرويجي غير لوندستاد على ذلك اسم "إمبراطورية الدعوة" على اعتبار أن هذه الإمبراطورية غير الرسمية أسهمت في ترسيخ الولايات المتحدة ونفوذها في أوروبا.
في انتظار نوفمبر
وسيترقب الجميع في الولايات المتحدة وأوروبا نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، والتي ستحدد المدى الذي سيتأرجح فيه الحزب الجمهوري والولايات المتحدة، وما إذا كان الاتجاه الانعزالي يتصاعد أم يتراجع، وليس فقط النظر في الصدام المحتمل بين رؤية الرئيس جو بايدن الأممية للولايات المتحدة باعتبارها بطلة للديمقراطية العالمية وبين سياسة "أميركا أولاً" للرئيس السابق دونالد ترمب.
وحتى لو خسر ترمب الانتخابات، سيظل هناك سؤال طويل المدى هو: هل يموت التوجه نحو سياسة خارجية أميركية أكثر انعزالية؟ أم أن الأجيال الجديدة من الناخبين الأميركيين الذين لم يبلغوا من العمر ما يكفي لتذكر الدور الدولي الذي لعبته الولايات المتحدة سيكون لهم رأي آخر؟