Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فريق نافالني ينبش أخطاء التسعينيات في روسيا ويثير غضب المعارضة

سلسلة أفلام تحت عنوان "خونة" حول شخصيات محورية من حقبة يلتسين التي أصدرها فريق نافالني أثارت جدلاً واسعاً في صفوف المعارضة

سلسلة أفلام بعنوان "خونة" أصدرها فريق عمل نافالني على اليوتيوب (لقطة ثابتة من الفيلم)

ملخص

الجدل حول خطايا التسعينيات يعود للخطاب السياسي للمعارضة الروسية بعد صدور ثلاثة أفلام من مؤسسة فريق أليكسي نافالني

على رغم مرور أكثر من عقدين على عقد التسعينيات الذي ربما يصح تسميته بعقد الأمل والإحباط الروسي، وعلى رغم الأجندة الروسية المتخمة داخلياً وخارجياً والحرب في أوكرانيا، إلا أن فريق نافالني - التيار المعارض الروسي الأكبر والأكثر تأثيراً - ارتأى أنه الوقت المناسب لمراجعة سريعة للتاريخ الروسي الحديث.

في سلسلة أفلام من ثلاث حلقات، تناولت المراجعة صعود بوريس يلتسين وانحداره حتى تسليمه قيادة البلاد إلى الرئيس الحالي فلاديمير بوتين، ولكن بعكس صورة يلتسين كأول رئيس ديموقراطي لروسيا فإن الأفلام تتحدث عن القرارات والسياسات الاقتصادية التي اتسمت بالفساد ومحاباة الأقارب والمقربين وبالنهاية تسليم البلاد ليس لمن يستحق قيادتها بكفاءته، بل لمن هو مستعد منح يلتسين ضمانات حصانة وعدم الملاحقة القانونية وغيرها من الأسباب التي لا ترتقي إلى مستوى رجال دولة.

منذ المشهد الأول في الحلقة الأولى يصوَر يلتسين بأنه لا يمثل فقط الشخص الذي حارب الشيوعيين وخلص روسيا منهم، بل أنه أيضاً كسياسي انغمس في الفساد وأحاط نفسه بحيتان المال الذين استغلوه ودعموه بل تحكموا به لاقتناص ثروات روسيا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويروي المشهد كيف كان يلتسين يعبر في أحد الأحياء السكنية الراقية في موسكو التي شيدت في العهد السوفياتي لإسكان مسؤولين من جهاز الدولة عندما رأى بناية غير مكتملة البناء، فيخبروه عند سؤاله، أنه مبنى كان مخططاً لعاملين من وزارة الصحة ولكنه لم يكتمل البناء لنقص الموارد. يطلب يلتسين فوراً إكماله وبناء 20 شقة فيه فقط، كل واحد 160 متراً مربعاً (كبيرة في المعايير السوفياتية صغيرة بمعايير كبار الطغاة الفاسدين).

بعدها وبدلاً أن تخصص الشقق بحسب البروتوكول للعاملين في أجهزة الدولة على اختلافها، وأن تكون فقط لفترة خدمتهم في فترة عملهم بالجهاز البيروقراطي، فإن يلتسين يوزع الشقق ويمنحها لأفراد عائلته والمقربين، أي حصراً لأولئك الناس الذين يهتم بهم ويستمتع برفقتهم.

طبعاً لا تنتهي خطايا يلتسين على هذه الحادثة، ولكنها طبعاً مثال جيد على أن السلطة الجديدة في روسيا لم تكن جاهزة لاستيعاب الفرق بين الملكية العامة والملكية الخاصة، والأهم أن الحاكمين الجدد كما السابقين في العهد الشيوعي والقيصري كانوا يعتبرون أن لديهم أحقية في المعاملة الخاصة، لأنهم مختارون من الشعب، أو الله أو المؤتمر الحزبي لقيادة البلاد نحو مستقبل مشرق وعليه يستحقون ما يرونه يناسب جهودهم.

وفي الحلقة الثانية، يسلط الضوء على واحدة من أكثر القضايا جدلاً في تاريخ روسيا الحديث التي لا تزال تبعاتها مستمرة، وهي "نظام القروض في مقابل الأسهم" (عام 1995)، الذي بموجبه منحت مصارف مملوكة لرجال أغنياء روس الدولة قروضاً (كانت أزمة الرواتب مستفحلة وانتخابات الرئاسة على الأبواب) بضمان أسهم في شركات نفط وتعدين وغيرها من أصول مهمة مملوكة للدولة، على أن تعيد المصارف الأسهم فور دفع الدولة القرض وإلا تستولي المصارف على كامل الأصول.

بالحقيقة، وافق هؤلاء الأغنياء وغالبهم من أصحاب المصارف على تقديم القرض كجزء من عملية تمويل لحملة يلتسين الرئاسية التي كانت تبدو كئيبة جداً واستطلاعات الرأي تشير بوضوح إلى خسارته أمام مرشح الحزب الشيوعي غينادي زيوغانوف.

هذه الأموال مع الحملة الشرسة والمبتذلة ضد المرشح الشيوعي لعبت دورها في انتشال يلتسين من بين الأموات وفوزه في انتخابات 1996. وفي الواقع لم تكن الدولة ستعيد أصلاً هذه الأموال، وعليه آلت أصول الشركات هذه للأغنياء الروس الذين تقاسموها وتحولوا إلى أوليغارشيين، مكافأة لهم على دعمهم يلتسين.

أما الحلقة الثالثة والأخيرة، فتتحدث عن عمدة سان بطرسبورغ أناتولي سوبتشاك الذي أيضاً كان بطلاً لعمليات إثراء غير مشروعة على رغم أنه كان قائداً ديمقراطياً كاريزماتياً وأيضاً عن علاقته ببوتين، وكيف أسهم الأخير بتهريبه إلى فرنسا حين فتحت تحقيقات ضده. وتبحث الحلقة عن الجواب الأهم هو كيف تمكن شخص من مستويات بيروقراطية متدنية (لا يميزه شيء عن آلاف غيره) من الصعود بهذه السرعة إلى أعلى مركز في الدولة، لماذا وقع خيار يلتسين وأفراد عائلته وبعض الأوليغارشية على شخص ليس في رصيده خبرة طويلة مثل رئيس الحكومة يفغيني بريماكوف أو بوريس نمتسوف مثلاً الذي عمل فترة في الحكومة وأيضاً حاكماً لمنطقة كبرى هي مقاطعة نيجني نوفغورود.

وفي هذا الصدد، يبدو أن الأوليغارشية عندما اختارت بوتين كان لديها هدفان، انتقاء شخصية قادرة على الفوز في الانتخابات بوجه تحالف بريماكوف - لوجكوف (عمدة مدينة موسكو) القوي، والثاني أن تكون شخصية غير كاريزماتية ومن غير ذي ثقل في الجهاز الحاكم لكي يكون سهلاً التحكم بها كما كان الحال في عهد يلتسين. الهدف الأول أصاب، أما الثاني فانتهى بشكل معاكس تماماً، إذ بدأ الأوليغارشيون بالتساقط تباعاً إلا من أعلن ولاءه للرئيس الجديد، في تحول أيضاً يستحق مراجعة وأبحاثاً معمقة.

ويقول فريق نافالني إن "مؤسسة مكافحة الفساد" [التسمية القانونية للفريق] تقود تحقيقات متعددة عن فساد اليوم وعن قرارات الأمس التي نعيش تبعاتها اليوم، وأن الإلهام لإنتاج الفيلم جاء بعد البيان الذي نشره أليكسي نافالني من سجنه في أغسطس (آب) الماضي، وأعرب فيه عن رأيه بالتسعينيات منتقداً القيادة الروسية حينها بالتفريط في إنقاذ روسيا، ومما قاله حينها "أنا أكره قيادة روسيا بأكملها، التي كانت تتمتع في عام 1991 (بعد الانقلاب [للشيوعيين المتشددين الفاشل]) وعام 93 (بعد إطلاق النار على البرلمان) بسلطة مطلقة ولم تحاول حتى إجراء إصلاحات ديمقراطية واضحة. كما أننا الآن ندفع ثمن حقيقة أننا اعتبرنا في عام 1996 أن تزوير نتائج الانتخابات ليس دائماً بالأمر السيئ".

وأيضاً جاء في البيان "أنا أكره يلتسين ومعه ’تانيا وفاليا‘ [ابنة يلتسين وزوجها]، و[أناتولي] تشوبايس وبقية أفراد الأسرة الفاسدة التي أوصلت بوتين إلى السلطة. أنا أكره المحتالين الذين لسبب ما أطلقنا عليهم اسم الإصلاحيين. من الواضح الآن أنهم لم يشاركوا في أي شيء آخر غير المؤامرات ورفاهيتهم. في أي بلد آخر أصبح هذا العدد الكبير من وزراء ’الحكومة الإصلاحية‘ من أصحاب الملايين والمليارات؟".

أصوات منتقدة

أحد أبطال الفيلم ميخائيل خودوركوفسكي - حينها مالك مصرف "ميناتاب"، وبعدها شركة "يوكوس" النفطية - يرى أن توقيت الفيلم خاطئ جداً لأنه يحيل الأنظار عن الموضوع الأهم اليوم، أي حرب بوتين في أوكرانيا ويسهم في خلق انقسامات في صفوف الشريحة الواسعة المعارضة للحرب على أمور غير ذات أولوية حالياً، لافتاً إلى أن يلتسين والإصلاحيين على رغم بعض الأخطاء "أنجزوا كثيراً لروسيا".

أما الصحافي المخضرم، ورئيس التحرير السابق لإذاعة "صدى موسكو" التي أغلقتها السلطات بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، يرى أن يلتسين لم يكن يهتم بالثروة الشخصية، ولم تكن تعني له شيئاً. في المقابل فإنه يفسر إحاطة يلتسين نفسه بالأوليغارشية لأنه كان أمام خيار، إما الاعتماد في الحكم على بقايا جهاز السوفياتي السابق، وفي نهاية الأمور الخضوع لهم أو الرهان على ناس جدد قد يكونون شبيهين بـ"العصابات المالية" ولكنها قادرة على حمايته والدولة من براثن العودة للحكم الشيوعي.

معظم الانتقادات لا تشكك في الوقائع التي يسلط الفيلم عليها الضوء بل في انتقائيتها وفي انعدام السياق وفي توقيت الفيلم نفسه. وبعضها الآخر مأخذه على الفيلم بأنه لم يسلط على خطايا أخرى ليلتسين مثل الحرب في الشيشان، ودستور عام 1993 الذي يركز السلطات في شخص الرئيس.

كما أن كثيرين اعتبروا الفيلم بروباغندا لا تختلف عن دعاية الكرملين، وأكثر أنه في هذه الحالة توافق مع الخطاب الرسمي حول فوضى التسعينيات.

خلاصات

لا شك هناك دائماً سهولة أكبر في مقاربة الأحداث من بعد زمني والحكم على أخطاء الأشخاص أو الثناء عليهم لأننا عشنا ورأينا واختبرنا نتائج هذه الخيارات، إلا أنه من الصعب تقييم تبعات خطواتك في لحظة اتخاذ القرار أو حتى خلال فترة وجيزة بعده، على رغم أن فساد بعضها لا يخفى على أحد.

هناك من يعتقد أن فوز المرشح الشيوعي غينادي زيوغانوف كان ليعني تصفير كل الإصلاحات والقضاء على الحريات والاقتصاد الحر. برأيي أولاً، أنه من المؤسف أن الحزب الشيوعي الروسي لم يتطور بعد انتهاء الحقبة الشيوعية ليصبح حزباً ديموقراطياً اشتراكياً كما حصل في كثير من دول أوروبا الشرقية، هنا لعب دور الجمود الفكري الذي طغى على الحزب واقتصاره على المتزمتين بعدما تركه كل من آمن بروسيا خالية من الفكر الشيوعي.

ولكن في الوقت نفسه حتى لو فاز مرشح الحزب الشيوعي بانتخابات الرئاسة (للتذكير كان غينادي زيوغانوف نجم مؤتمر دافوس عام 1995 وبدا أكثر رصانة بكثير من يلتسين المريض والسكير وكان خطابه معتدلاً حينها) فالأرجح أن أحوال روسيا والعالم في ذاك الوقت ما كانت لتسمح للحزب الشيوعي بإعادة عقارب الساعة للوراء، بل ربما - ولا يسعنا إلا التخيل - لكانوا تعثروا بأنفسهم بالأزمة الاقتصادية الروسية (عام 1998)، وهي الأزمة التي قضت على الجناح الليبرالي في الحكومة الروسية أمثال بوريس نمتسوف وأناتولي تشوبايس، ولعبت دوراً في خضات سياسية أفضت إلى مجيء فلاديمير بوتين الخارج من الأجهزة الأمنية السوفياتية.

أخيراً، لو كانت روسيا اليوم ديموقراطية وحرة ويحكمها القانون، لما كان الفيلم أبصر النور، وأكثر من ذلك لما تحدث أحد اليوم عن أخطاء يلتسين ودائرته لو أن روسيا اندفعت في العقود التالية نحو الديموقراطية كما حصل في معظم دول أوروبا الشرقية. إن المعارضة الروسية اليوم أو فريق نافالني تحديداً ينبشون الماضي لكي يجدوا تفسيراً أو جواباً عن جذور الواقع المرير الذي تعيش فيه روسيا اليوم، ويحاولون "وضع حد للقمع والمعاناة الكبيرة التي جلبها بوتين إلى بلادنا"، على حد قول الفيلم في نهايته.

وهناك مفارقة ساطعة تثير الانتباه، وهي أن معظم أفراد عائلة يلتسين اليوم هم من أغنى الأغنياء ويعيشون في فيلات في دول غربية (حفيدة يلتسين مثلاً تواعد ابن الأوليغارشي الراحل بوريس بيريزوفسكي) وما زالوا مقربين من بعض رموز الأوليغارشية التي أسهم يلتسين في خلقها. مفارقة أن تبدأ حياتك مثالياً وديموقراطياً وفقيراً وأن تنتهي كأحد أصحاب ثروة فاحشة مشكوكة المصدر.

المزيد من تقارير