الخرطوم- أحمد أبو المعالي
دخلت الاحتجاجات الشعبية المطالبة بتنحي نظام الرئيس السوداني عمر البشير أسبوعها السابع وسط مؤشرات إلى تراجعها وبدء خطوات لبلورة تسوية سياسية تحقق تغييراً "سلساً" يجنّب البلاد الإنزلاق نحو الفوضى، وأعلن جهاز الأمن والاستخبارات أنه أطلق 186 من الشبان الذين اعتُقلوا في الاحتجاجات الأخيرة، وذلك بمبادرة من المدير العام للجهاز الفريق صلاح عبد الله.
وذكرت نشرة صحافية صادرة عن الجهاز، أن عبد الله أجرى حواراً مع الشباب، توصل من خلاله إلى تفاهم بشأن الأسباب التي دعتهم إلى التظاهر، مشيرةً إلى أن خلاصة التفاهم إنتهت بتكوين لجنة من المعتقلين لبحث القضايا التي دعت إلى التظاهر والسعي إلى حلها عبر النقاش والحوار، وبث التلفزيون الحكومي وقنوات أخرى مقاطع فيديو لمفرج عنهم يقبلون فيها الحوار مع الحكومة، غير أن ناشطين اعتبروا ما جاء في تلك المقاطع مجرد مسرحية. كما أفرجت السلطات عن نائب رئيس حزب الأمة مريم الصادق المهدي، بعد احتجازها ساعات. وروت مريم عقب إطلاقها أن قوة تابعة لجهاز الأمن جاءت إلى منزلها واقتادتها إلى رئاسة الجهاز "لأخذ إفادة مني بحسب تعبيرهم". وأضافت "اصطحبوني إلى رئاسة جهاز الأمن في الخرطوم، وهناك بقيت في الانتظار حوالي ساعتين، وبعدها اقتدتُ لمقابلة مدير الجهاز الذي حقق معي، ومن ثم أُفرج عني"، وأكدت مريم أن "محاولات الترويع لن تثنيها، كما أن مواقف حزبها وتحالف قوى نداء السودان، وقوى الحرية والتغيير وكل قطاعات الشعب السوداني باتت واضحة ومحددة". وقالت إن "الاتجاه الأجدى للنظام بجميع مؤسساته هو الإستجابة الفورية، وقبل سفح مزيد من الدماء، لمطالب الشعب".
وكان وزير الداخلية السوداني أحمد بلال أعلن في 7 يناير (كانون الثاني) الحالي، أن عدد الموقوفين في الاحتجاجات التي تشهدها البلاد بلغ 816 شخصاً، في حين تقدر المعارضة عدد المعتقلين بأكثر من ألف منذ بدء الاحتجاجات، وسقط خلال الإحتجاجات التي تتواصل منذ 39 يوماً، 30 قتيلاً، وفق أحدث إحصاء حكومي، في حين تقول منظمة "العفو الدولية" إن عددهم بلغ 40، وتتحدث المعارضة عن سقوط 50، وقال مسؤول في حزب المؤتمر السوداني المعارض أن زعيمه عمر الدقير و44 من قادة وكوادر الحزب، لا يزالون رهن الاعتقال. واعتبر إعلان سلطات الأمن الإفراج عن كل المعتقلين مجرد "تضليل إعلامي"، مؤكداً أن السلطات لا تزال تعتقل مزيداً من السياسيين والناشطين"، وأكد الناطق باسم الحزب الشيوعي علي الكنين لـ "اندبندنت عربية" أن اكثر من نصف عدد أعضاء اللجنة المركزية للحزب (36 قيادياً) لا يزالون رهن الاعتقال ولم يُفرج عن أي قيادي أو كادر من الحزب. وأضاف أنهم ماضون في التظاهرات "حتى يتنحى النظام الحاكم" وأنهم لن يدخلوا معه في أي حوار سياسي.
احتجاج جامعة الخرطوم
في موازاة ذلك، طوّقت قوات من الشرطة والأمن السوداني الأربعاء 30 يناير (كانون الثاني)، مباني جامعة الخرطوم، كبرى الجامعات في البلاد، ومنعت دخول أساتذة الجامعة الذين أعلنوا وقفة احتجاجية دعماً للحراك المعارض، وقال شهود إن "عدداً من الأساتذة نجحوا في الدخول إلى مقر الجامعة، ونفذوا وقفة احتجاجية، شارك فيها عشرات الأساتذة. وكان نحو 500 أستاذ من الجامعة وقعوا مذكرة تنص على اقتراح يقضي بتنحي الرئيس عمر البشير وتشكيل حكومة انتقالية، إضافة إلى اقتراحات أخرى، وأعلنت اللجنة التمهيدية الخاصة بالأساتذة في بيان صدر في وقت سابق، أن الهدف من نشاط الأساتذة هو "تحقيق انتقال سلمي للسلطة ودعم الحراك الثوري الحالي في البلاد، والإصغاء إلى مطالب المتظاهرين العادلة، والسعي إلى إيجاد آلية للانتقال السلمي للسلطة"، ونفّذ أساتذة جامعة الخرطوم الشهر الماضي، وقفةً احتجاجية في الشارع العام، اعتقلت خلالها الأجهزة الأمنية عدداً منهم، وقال الأساتذة المعتقلون حينذاك، إنّهم "عوملوا معاملةً سيئة لا تتناسب ومكانتهم الأكاديمية"، فأثار ذلك جملة انتقادات، وهذا ما دفع بجهاز الأمن والاستخبارات إلى إطلاق سراحهم جميعاً مع الاعتذار إليهم.
خيارات تسوية سياسية
في المقابل، إعتبر مراقبون قرار مدير الأمن الافراج عن المعتقلين خطوةً في الاتجاه الصحيح، تعكس أن السلطات باتت على اقتناع بتراجع الاحتجاجات وزوال خطرها على الحكومة، وبادرة حسن نية تسهم في تخفيف الاحتقان السياسي، وترفع الضغوط النفسية عن مئات الأسر القلقة على مصير أبنائها الموقوفين، وقال المحلل السياسي عبد الله عثمان الكنين إن إطلاق المعتقلين، ومن بينهم رموز وكوادر سياسية تحمل رغبة ضمنية من الحكومة في التواصل معهم وتهيئة بيئة ملائمة للحوار من اجل التوافق على مشتركات وتفاهمات وطنية تقود الى انفراج سياسي وتسوية تجنب البلاد الانزلاق الى فوضى، ورأى أن خطوة مدير الأمن تعبد الطريق أمام النخب والقيادات السياسية إلى التواصل والحوار بلا توتر أو شروط مسبقة، بعدما وضع الحراك الشعبي البلاد في مرحلة جديدة تتطلب تعاملاً عقلانياً، بلا وصاية من أي طرف أو محاولات إقصاء أو استفزاز وتبني خطاب سياسي واعلامي متوازن.
وأفاد بأن قرار الأمن ينبغي تعزيزه بخطوات لاستكماله بتطبيع الحياة السياسية والاعلامية عبر إعادة تراخيص مراسلي الفضائيات والوكالات التي أُلغيت والافراج عن الصحافيين المعتقلين ورفع الحظر عن الاقلام التي أوقِفت عن الكتابة. وأضاف عثمان أن الحراك الشعبي على الرغم من استمراره 40 يوماً وتمدده جغرافياً في غالبية الولايات لا يزال بلا قيادة أو خطاب ومحتوى سياسي وفكري، مع أن أي حراك شعبي هدفه تحقيق التغيير، ولا تغيير بلا فعل وخطاب وبرنامج.
ويعتقد دبلوماسي أفريقي في الخرطوم أن منظمي الاحتجاجات وداعميها من القوى السياسية لم يطرحوا سوى تنحي النظام بشعار "تسقط بس"، في حين يطرح الحزب الحاكم "تقعد بس" وانتظار الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة في العام 2020، والموقفان يقودان البلاد الى أفق مسدود.
ورأى دبلوماسي فضّل عدم الكشف عن اسمه، أن أقصر طريق آمن لتجاوز الأزمة السياسية في السودان هو التوافق بين القوى الفاعلة على تسوية تستند إلى انفراج سياسي وكفالة الحريات وتشكيل حكومة وحدة وطنية لتنفيذ برنامج سياسي واقتصادي متوافَق عليه، تنتهي ولايتها بعد سنتين بإجراء انتخابات حرة ونزيهة، يتواضع الجميع على أساسها، ويقتضي ذلك إرجاء الانتخابات سنة. وأضاف أن "أي محاولة لفرض إرادة طرف على الآخر وتحديد شروط مسبقة والمناورة لكسب الوقت ستزيد حالة الاستقطاب والاصطفاف السياسيين اللذين تشهدهما البلاد، وتضع الوطن أمام خيارات كارثية".