ملخص
تأتي المعارك الأخيرة في الفاشر ضمن سلسلة من المواجهات والمعارك قدرت بنحو أكثر من 40 اشتباكاً بين الجيش السوداني و"الدعم السريع" شهدتها المدينة منذ اندلاع الحرب.
ارتفعت حصيلة قتلى المعارك بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" بمدينة الفاشر في دارفور إلى قرابة 27 شخصاً وجرح 130 آخرين، بعد أكثر من عام على اندلاع الحرب بين الطرفين المتنازعين على السلطة، بحسب ما أعلنت الأمم المتحدة اليوم الأحد.
وقال سكان اتصلت بهم وكالة الصحافة الفرنسية هاتفياً إن "طائرات قصفت الأحد شرق وشمال المدينة ووقع قصف متبادل بالمدفعية".
ومنذ أسابيع عدة يحذر المجتمع الدولي من أخطار اشتباكات دامية في الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، وهي المدينة الكبيرة الوحيدة في دارفور التي لا تزال خاضعة لسيطرة الجيش في الإقليم الواقع في غرب السودان.
وأكد مكتب الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة اليوم الأحد على منصة "إكس" أن "معارك وقعت في الـ10 من مايو (أيار) الجاري بين الجيش السوداني وقوات (الدعم السريع) في الفاشر بشمال دارفور أسفرت عن مقتل 27 شخصاً تقريباً وجرح 130 ونزوح المئات".
وليل السبت/ الأحد قالت رئيسة مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية كليمنتين نكويتا سالامي إن قصفاً "بالأسلحة الثقيلة" وقع في الفاشر، مما يشكل تهديداً لنحو 800 ألف نازح يقيمون في المدينة التي يبلغ إجمالي عدد قاطنيها مليون ونصف المليون شخص.
ويأتي إعلان الأمم المتحدة عن هذه الحصيلة التي قالت إنها تستند إلى "تقارير غير مؤكدة" فيما تعاني المدينة انقطاعاً شبه تام للاتصالات، مما يجعل العاملين في المؤسسات الصحية والإنسانية والمنظمات الحقوقية غير قادرين على التواصل مع الخارج إلا في ما ندر.
وقال مصدر طبي في مستشفى الفاشر الجنوبي، الوحيد الذي لا يزال يعمل في المدينة، إن "المشرحة مليئة عن آخرها بالجثث".
وأكدت منظمة "أطباء بلا حدود" الفرنسية أمس السبت أن "160 مصاباً، من بينهم 31 امرأة و19 طفلاً" وصلوا إلى هذا المستشفى الذي تشير الأمم المتحدة إلى أن طاقته الاستيعابية لا تزيد على "100 سرير".
وبحسب بيان الأمم المتحدة، فإن المستشفى "لم يكن لديه أثناء الاشتباكات سيارات إسعاف لنقل الجرحى، وكان لديه القليل من الأدوية والمستلزمات الطبية لمعالجة الجرحى ولم يكن يتوافر فيه أي مستلزمات للجراحة".
ويواجه 1,7 مليون سوداني في إقليم دارفور خطر المجاعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأسفر النزاع عن سقوط عشرات الآلاف من القتلى ونزوح أكثر من 8,7 مليون سوداني من ديارهم.
حصار مستمر
ومنذ أكثر من أسبوعين تضرب قوات "الدعم السريع" حصاراً على المدينة يمنع دخول أي قوافل تجارية إلى المدينة، خصوصا بعد إعلان سيطرتها على مدينة مليط الميناء البري بين شمال دارفور وإقليم كردفان، وبثت مقاطع مصورة لمقاتليها وهم يتجولون داخل تلك المنطقة من دون أن يصدر تعليق من الجيش.
كما بثت قوات "الدعم السريع" مقاطع فيديو لما قالت إنها مشاهد لمعارك طاحنة دارت خلال اليومين الماضيين بينها وبين الجيش بمشاركة الحركات مسلحة في الأجزاء الشرقية من المدينة والمناطق حولها، تشير فيها إلى اكتمال استعداداتها لاقتحام المدينة.
ووفق مصادر ولائية، فإن الهجوم الأخير المستمر على المدينة حشدت له قوات "الدعم السريع" قوات أكبر من أي وقت مضى، جمعتها طوال الشهرين الماضيين من الولايات المجاورة في جنوب وشرق ووسط دارفور.
تبادل الاتهامات
وفيما قال بيان لقوات "الدعم السريع" إنها أحبطت هجوماً خادعاً استهدف مواقعها واخترق دفاعاتها من قبل الجيش وحلفائه في الفاشر الجمعة الماضي، رد الجيش ببيان نفى فيه مبادرته بالهجوم مؤكداً تصديه لهجوم كبير شنته تلك القوات على المدينة من الناحيتين الشرقية والشمالية، وتكبيدها خسائر بشرية ومادية كبيرة.
أضاف البيان، "نجحت قواتنا في صد نحو 22 هجوماً عليها في الفاشر، خلال الأيام الأخيرة، وظلت تظهر أعلى درجات ضبط النفس حرصاً على حياة المدنيين، واستجابة لنداءات الإدارات المدنية والمنظمات المحلية الإقليمية والدولية".
توالي التحذيرات
إلى جانب عديد من التحذيرات السابقة من الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات والجهات لوقف التصعيد في مدينة الفاشر، دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش المجتمع الدولي إلى اتخاذ إجراءات فورية في شأن تصاعد العنف في السودان، مبدياً قلقه في شأن الهجمات العشوائية ضد المدنيين والعنف الجنسي البشع ضد النساء والفتيات وقتل ومهاجمة العاملين في المجال الإنساني ومنعهم من عملهم.
حذر غوتيريش، في خطابه قبل مؤتمر المجتمع المدني التابع للأمم المتحدة أول من أمس الجمعة، من أن الاشتباكات العنيفة في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور تمنع وصول المساعدات، وأن الهجوم على المدينة ستكون له عواقب وخيمة وأنه من المرجح أن يؤدي ذلك إلى تمزق وانتشار الصراع في جميع أنحاء دارفور.
شدد الأمين العام للأمم المتحدة على ضرورة إنهاء الحرب وبذل جهود دولية منسقة لتنفيذ عملية سياسية يمكنها إعادة السودان إلى المسار الصحيح، مرحباً بالخطوات المتخذة لإنهاء الصراع بما في ذلك الجهود التي تبذلها "إيغاد" والاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية من خلال منبر جدة، مؤكداً استمرار جهود الأمم المتحدة ومبعوثه الشخصي رمطان لعمامرة، بصورة وثيقة مع جميع الأطراف لتعزيز الجهود المنسقة نحو سلام شامل ودائم.
الأرض المحروقة
دبلوماسياً حملت الخارجية السودانية ميليشيات "الدعم السريع" مسؤولية التصعيد الحالي في مدينة الفاشر واستهداف النازحين والمدنيين، وانتهاجها سياسة الأرض المحروقة بإزالة قرى كاملة من على الأرض، وقصفها المستمر الأحياء السكنية لما وصفته بالتقاعس الدولي في مواجهة الجرائم التي ترتكبها.
وأشاد بيان للخارجية، بما جاء في تقرير منظمة "هيومان رايتس ووتش"، من أن هناك تقاعساً عالمياً تجاه الفظائع وجرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية والعنف الجنسي التي ترتكبها الميليشيات على نطاق واسع.
أضاف البيان، "على رغم المطالبات الصادرة من الأمين العام للأمم المتحدة ومجلس الأمن وعدد من كبار المسؤولين الغربيين بعدم مهاجمة المدينة، فإن الميليشيات لا تلقي بالاً لتلك الدعوات التي لا تصاحبها أي إجراءات دولية جادة لإجبارها على وقف عدوانها".
وتعتبر مدينة الفاشر العاصمة التاريخية لدارفور العاصمة الولائية الوحيدة بالإقليم التي ما زالت تحت سيطرة الجيش، بينما تفرض قوات "الدعم السريع" حصاراً على المدينة منذ ما يزيد على الأسبوعين.
أسلحة ثقيلة
على نحو متصل أعربت منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في السودان كليمنتين نكويتا سلامي، عن قلقها في شأن استخدام أسلحة ثقيلة في القتال الدائر بمدينة الفاشر، وإصابة مدنيين بجروح بينما وجد آخرون يحاولون الفرار أنفسهم عالقين وسط المعارك العنيفة.
حذرت المسؤولة الأممية، في بيان لها صباح اليوم الأحد، من أن أعمال العنف الجارية تهدد حياة أكثر من 800 ألف شخص يعيشون في الفاشر، منوهة بأن الهجمات واستخدام أسلحة ثقيلة في وسط المدينة المكتظ بالسكان يتسببان في سقوط كثير من الضحايا، حاضة جميع الأطراف على تجنيب المدينة القتال.
وتحتضن المدينة عدداً كبيراً من معسكرات النازحين القدامى منذ أكثر من عقدين بعد الحرب في 2003 في عهد الرئيس المعزول عمر البشير، أكبرها معسكرا نيفاشا وزمزم وتضمان أكثر من 500 ألف نازح وفق الأمم المتحدة، إلى جانب النازحين الجدد من ولايات دارفور الأخرى الواقعة تحت قبضة قوات "الدعم السريع"، في معسكرات جديدة أنشئت بعد الحرب الحالية.
بعثة وعقوبات
في السياق طالبت المنظمة "هيومان رايتس ووتش" كلاً من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي بنشر بعثة جديدة بصورة طارئة لحماية المدنيين المعرضين للخطر في السودان، كما طالبت مجلس الأمن الدولي بفرض عقوبات على المسؤولين عن الجرائم التي وصفتها بـ"الخطرة" في غرب دارفور.
واتهم أحدث تقرير للمنظمة قوات "الدعم السريع" والميليشيات المتحالفة معها بقيامها بعمليات تطهير عرقي وإبادة جماعية في ولاية غرب دارفور، وعاصمتها مدينة الجنينة على وجه الخصوص، إذ قتلت الآلاف وشردت مئات الآلاف من إثنية المساليت وغيرهم من الجماعات غير العربية، غير أن قوات "الدعم السريع" نفت الاتهامات الواردة في شأنها في التقرير الذي صدر نهاية الأسبوع الماضي، في أن تكون قد ارتكبت أياً من صور التطهير العرقي أو جرائم ضد الإنسانية في حق السكان المدنيين.
من جانبها حضت المندوبة الأميركية بالأمم المتحدة ليندا توماس أطراف الحرب في السودان على وقف التصعيد والعمل من أجل السلام. وأضافت في تغريدة على حسابها بمنصة "إكس"، "إن نفس الجناة الذين ارتكبوا الفظائع الواردة في التقرير الأخير لمنظمة (هيومن رايتس ووتش)، يحاصرون الآن مدينة الفاشر".
بدوره جدد المبعوث الأميركي الخاص إلى السودان توم بريليو مطالبته قوات "الدعم السريع" بفك حصارها على الفاشر، محذراً في تغريدة على حسابه بمنصة "إكس" من اقتراب خطر المجاعة الكاملة في البلاد، ما لم يتم العمل على تحسين وصول المساعدات الإنسانية إلى المتضررين من الحرب.
قرار الاجتياح
تعليقاً على المعارك المتجددة في مدينة الفاشر أوضح المحلل سياسي أبو بكر الأمين قرشي، أنه من الواضح أن قوات "الدعم السريع" قررت اجتياح المدينة لإكمال بسط سيطرتها على كل إقليم دارفور، معتبراً أن نتيجة معركة الفاشر ستشكل نقطة تحول في مآلات الصراع، متوقعاً أنه في حال تمكن قوات "الدعم السريع" من الاستيلاء على المدينة سيضع إقليم دارفور أمام مصير غامض قد تتجه به نحو الانفصال مما يعني بدوره تهجيراً تلقائياً لمعظم القبائل ذات الأصول الأفريقية (الزرقة)، على رغم أن هذا السيناريو يبدو صعباً في الوقت الراهن في ظل تحالف قوات الحركات المسلحة مع الجيش.
يضيف، بتمكن قوات "الدعم السريع" من السيطرة على الفاشر، فإنها ستربح ورقة قوية للضغط والمساومة في مفاوضات منبر جدة المرتقبة، لذلك من غير المتوقع أن تعير اهتماماً أو تكترث للضغوط والدعوات إلى عدم اقتحام المدينة لأنه تحول إلى هدف استراتيجي بالنسبة إليها، لا سيما مع مخاوفها من خسارة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة التي يضغط الجيش لاستردادها، إلى جانب ما تعرضت له من هزيمة وخسائر في بعض المحاور بالعاصمة.
عواقب الصمود
أشار قرشي إلى أن صمود المدينة طوال هذه الفترة نتيجة نجاح الجيش وقوات الحركات المسلحة في الدفاع عنها يشكل نجاحاً في حماية المدينة لكنه يضع المدنيين داخل الفاشر في بؤرة نار الصراع والمعاناة، ويهدد بخسائر كبيرة ومتواصلة في صفوف المدنيين، إلى جانب البنى التحتية الخدمية والممتلكات الخاصة والعامة، وهي مآلات خطرة لطول فترة القتال بين الطرفين سيدفع ثمنها الباهظ المدنيون بالدرجة الأولى.
على الصعيد المحلي أكد والي شمال دارفور السابق الموجود في مدينة الفاشر الجنرال نمر محمد عبدالرحمن، تأزم الأوضاع بصورة خطرة في المدينة، متوقعاً الاشتعال التام للمدينة في أي لحظة بحسب المؤشرات الراهنة، متوقعاً وقوع خسائر كبيرة في أرواح وممتلكات المدنيين.
وأوصى عبدالرحمن المواطنين المدنيين بالابتعاد عن مرمى النيران والمناطق العسكرية، مناشداً المنظمات الإقليمية والدولية ودول الجوار الضغط على الطرفين لوقف الحرب وإبعاد القوتين من مناطق وجود المدنيين والسماح لهم بالخروج الآمن.
مآلات السقوط
في الاتجاه ذاته حذر المتخصص في العلاقات الدولية محسن عبداللطيف من أنه في حال سقوط الفاشر من ثم كل الإقليم، فإن الوضع سينفتح باتجاه معاناة غير متناهية للقبائل ذات الأصول الأفريقية، مما ينذر بحرب إثنية أهلية قد تدفع بالمجتمع الدولي ومنظماته وآلياته إلى الجنوح نحو خيارات التدخل تحت ذريعة حماية المدنيين.
قلل عبداللطيف من فعالية المناشدات الدولية لمنع اقتحام "الدعم السريع" مدينة الفاشر، مذكراً بأن المناشدات غير مسنودة بأي نوع من الضغوط الجادة التي لم تكترث لها تلك القوات عند اجتياحها مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة.
يبدي عبداللطيف استغرابه تجاه ما وصفه بحالة عدم المبالاة الدولية تجاه الحرب في السودان على رغم الجرائم والانتهاكات والفظائع الرهيبة الموثقة من قبل منظمات دولية ذات صدقية وعلى رغم فتح المحكمة الجنائية الدولية تحقيقات في جرائم الحرب الراهنة، وعلى رغم ذلك لا يبدو أن الدبلوماسية الدولية تعتبر أن أزمة السودان قضية ذات أولوية على الصعيدين الأمني والإنساني.
لم يستبعد الأكاديمي أن يفتح سقوط الفاشر وكامل إقليم دارفور بيد "الدعم السريع" أولى ذرائع وثغرات التدخل الدولي العسكري لدواع إنسانية في البلاد من بوابة حماية المدنيين في دارفور، سواء تحت الفصل السابع أو ربما من خلال تحالف (إقليمي-دولي) بعيداً من مظلة المؤسسات الدولية.
ومنذ أشهر الحرب الأولى بين الجيش وقوات "الدعم السريع" التي اندلعت في منتصف أبريل (نيسان) العام الماضي، تمكنت الأخيرة من إسقاط الحاميات العسكرية التابعة للجيش وبسط سيطرتها على أربع من عواصم ولايات دارفور الخمس هي نيالا (جنوب دارفور)، والجنينة (غرب دارفور)، والضعين (شرق دارفور)، وزالنجي (وسط دارفور)، وتسعى حثيثاً للسيطرة على الفاشر لاستكمال نفوذها في كامل إقليم دارفور.