ملخص
يقيم مركز بومبيدو في باريس معرضاً استعادياً لرسام فرنسي كبير رغم وفاته شاباً، هو برنار ريكيشور، ويقدم مختارات من أعماله التشكيلية المتنوعة بأجوائها وأشكالها وموضوعاتها.
كان مجنوناً قليلاً، متصوّفاً بالقدر نفسه، وفناناً شاعراً إلى حدود اليأس. ولا شك في أن حساسيته المفرطة ويأسه هما اللذان دفعاه، في الرابع من ديسمبر (كانون الثاني) 1961، إلى وضع حد لألمه بالقفز من نافذة محترفه في الفراغ، وكان في سن الـ 32. ولكن على رغم رحيله المبكر، وانطوائه على نفسه أثناء سنوات حياته المعدودة، تمكن، عن غير قصد، من فرض نفسه كأحد وجوه المشهد الفني الباريسي في الخمسينيات.
إنه الفرنسي برنار ريكيشو (1929 ــ 1961) الذي عبر دنيانا مثل مذنّبٍ، ولم يمنعه ذلك من إنجاز عملٍ تشكيلي باهر، يلفحه النفس السوريالي الثاني، ويندرج ضمن تيار التجريد الغنائي والمادي الذي انبثق من رحم هذه الحركة. ولكن مع أن "ذخائر" هذا العمل تحتل موقعاً مركزياً داخل التيار المذكور، بتشكيلها تعبيراً راديكالياً، شعرياً، لجماليته، لا يزال صاحبها مجهولاً إلى حد كبير. ولتبديد هذا الجهل وكشف مدى قيمة بحثه التشكيلي، ينظّم مركز "بومبيدو" الباريسي حالياً معرضاً استعادياً له يسمح بتتبّع مسيرته الفنية الخاطفة من خلال عشرات اللوحات والمنحوتات والرسوم والنصوص التي تركها خلفه.
شغفُ ريكيشو بالرسم تجلى باكراً، حين بدأ في سن الثانية عشرة برسم لوحات ذات موضوعات دينية. وبين عامي 1947 و1951، قاده هذا الشغف إلى الالتحاق بالعديد من المدارس والمحترفات الفنية في باريس، بغية صقل موهبته وتطويرها. وفي تلك الأثناء، أنجز رسوماً عديدة بقلم الرصاص تشكّل تمارين في موضوعات العري والطبيعة الصامتة وجسم الإنسان أو الحيوان، كسلسلة "نساء بدينات" أو تلك التي رصدها لجماجم بشرية وثيران. وفي جميع هذه الأعمال، التي يحضر بعضٌ منها في المعرض، نستشفّ تصميمات دقيقة لا يلبث الفنان أن يفجّرها لاحقاً، مبعثراً شذراتها داخل فضاء لوحاته. لكن قبل أن يفعل ذلك، درس واستوعب الأسلوب التكعيبي الذي شكّل خير تمهيد لعبوره، عام 1956، إلى الرسم التجريدي الذي لم يمارسه بالريشة أو الفرشاة، بل عبر قذف الألوان على سطح اللوحة، وكشطها بالسكين.
شديد التنوعّ، يتحلّى عمل ريكيشو التشكيلي بتماسك وحدّة كبيرين، يعكسان قلقه الوجودي. فسواء عجن المادة بالسكين، أو ربط شبكات من الخطوط والألوان بطريقة يتعذّر فكّها، أو ترك "أثاراً رسومية" تجتاح فضاء لوحاته، دفع منذ البداية بفن الرسم إلى أقصى حدوده. وضمن سعيه إلى تجاوز إطار الفن غير الشكلاني (informel)، الذي يشكّل خير ممثّل ــ مجهول ــ له، تحوّل في اتجاه فن الكولاج، كما تشهد على ذلك تلك "الأوراق المختارة" المدهشة التي تجاور في معرضه الحالي، رسومه ولوحاته. ملصقات عمد أحياناً إلى دمجها بلوحاته، قبل أن تصبح مستقلة كلياً داخل عمله. كبيرة الحجم غالباً، تجدد هذه "الأوراق المختارة"، التي ابتكرها انطلاقاً من صور مجلات حيوانات وطبخ، فن الكولاج بالطرق التي اتّبعها في إنجازها، وبقوتها الاستحضارية.
فن الاستبطان
وعلى صعيد الرسم، استثمر ريكيشو الشكل اللولبي ومدّه بوظيفة استبطانية شبه مغناطيسية داخل لوحات منفّذة بالحبر على ورق، ومعزَّزة بمادة الغواش. وكما في نصوصه الشعرية، أفضى هذا الشكل داخل لوحاته إلى نصوص مكتوبة عمداً بطريقة تتعذّر قراءتها، ترجمها الفنان نحتاً على شكل تركيبات مذهلة من حلقات البوليسترين التي تُستخدم لتعليق الستائر. وشيئاً فشيئاً، أخذت رسومه اللوبية أشكالاً جديدة، وفقاً لحركة التفافها الدائم على نفسها، محييةً سطح اللوحة بقراءات تجريدية ناتئة أو مجوّفة، وفقاً للمتأمل فيها. وعدم اليقين هذا الذي يلفّ هذه النصوص التشكيلية هو الذي يمنحها حيوية تنشّط مركزها المكثّف، الذي تنبثق منه أحياناً نظرات مقلِقة.
أما "الذخائر" في إنتاج ريكيشو الفني، فتشكّل ذروة عمله التشكيلي الاستثنائي. وريثة العلب السوريالية، تفتننا هذه الأعمال، المكوّنة من أشياء عثر الفنان عليها في أحضان الطبيعة (عِظام حيوانات، شذرات خشبية...) أو انتشلها من مكّبات النفايات (أحذية أو خردوات مختلفة)، بالتوليفات المدهشة لمكوّناتها، وبالألوان النيّرة التي تعلو سطوحها وتعزّز حضورها. وفي بعضها، أدرج ريكيشو أيضاً لفافات من لوحات له لم يكن راضياً عنها. أما سلسلة "الرسائل السبع" التي تشكّل خاتمة عمله التشكيلي، فبدأ بخطّها بأبجدية زائفة في نوفمبر (تشرين الثاني) 1961، بغية تقديمها في معرضه الباريسي الوشيك في غاليري "دانييل كوردييه". ولكن قبل يومين من افتتاح المعرض، قفز من نافذة محترفه الذي يقع في الطابق الخامس، واضعاً بذلك حداً لمسيرة فنية فريدة وواعدة.
وفعلاً، يستمد عمل ريكيشو التشكيلي قيمته الكبيرة من تغذّيه من التقدم العلمي لعصره (نظرية الانفجار العظيم، فيزياء الكم...)، ومن حمّى آليات الفنان الذهنية وفيض انفعالاته وصراعاته الداخلية، وبالتالي من سعيه فيه خلف وحدة ينصهر داخلها العلم والفن وسعادة الكينونة، ويتصادى فيها المجهري والكوني. من هنا قوله في ما يتعلق بمضمون لوحاته: "كل شيء يمكن أن يستحضر أشياء أخرى كثيرة، وفقاً لطريقة النظر إليه، وكل صورة هي ركيزة لعدد لا يحصى من الصور". ومن هنا أيضاً بقاء العديد من الأشكال التي رسمها مفتوحة على التأويل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما كتابات ريكيشو، فوصلتنا في شكل مسودات متفاوتة، نظراً إلى وفاته المبكرة، وإلى طابعها السرّي في حياته، لكونه لم يسع قطّ إلى نشرها، وتتوزع على دفترين أخضر وأحمر، على حافظة أوراق خضراء، وعلى كتيّب من عشرين صفحة. وقد أخرجها مركز "بومبيدو" من "مكتبته، حيث تقبع، بغية عرضها مع أعماله الفنية. كتابات نُشرت مقتطفات منها بعد عام على رحيل صاحبها، في مجلتي "L’Arc" و"N.R.F."، ثم بكاملها في عام 1973 داخل كاتالوغ كتب رولان بارث مقدّمته، وبعد أسابيع قليلة، في كتاب قدّم له الشاعر والناقد السوريالي ألان جوفروا، قبل أن تعمد "منشورات الواقع" إلى إصدارها عام 2002 برفقة كل ما بقي غير منشور من أرشيف الفنان (رسائل، دفتر يوميات، تدوينات متفرّقة...).
وطوال مسيرة ريكيشو، رافقت الكتابة الفعل التشكيلي، لكنها بقيت تتمتع باستقلالية. وبالتالي، ثمارها ليست مجرّد تأملات وتعليقات للفنان على عمله الفني، ولا هي بيانات قصد بها تحديد موقعه على خارطة الفن، علماً أن المعادلات الشكلية الملاحَظة بين الممارستين تشهد على تطوّر موازٍ لكن في خدمة بحثٍ واحد، وعلى تلاشي الحدود بين رسم وكتابة، وبالنتيجة، على تأثير متبادَل وهاجس مرجعي مشترك هو الشكل اللولبي. فبترسيخه مجموع عمله ضمن الحركة اللولبية التي تطبع كل أجزائه، حمل ريكيشو فعلي الكتابة والتشكيل إلى مكان مشترك يُلغى فيه الشكل والمعنى، وتلتقي النهاية بالبداية. وبقيامه بذلك، قدّم جواباً فريداً على مسألية مفصلة الممارستين التي كانت مطروحة بقوة داخل المحيط الفني الباريسي في الخمسينيات.
وسواء تعلّق الأمر بدفتر يومياته، برسائله أو بنصوص نثرية متفرّقة تركها خلفه، تكشف كتابات ريكيشو عن فكر حيوي ومتناقض يدعو إلى رؤية ثورية، فردية بشكل راديكالي، تقترب من فكر الفيلسوف العدمي والفوضوي ماكس شتيرنر وكتابه "الأنا العليا وذاتها". أما قصائده، المكتوبة بمفردات صوتية من اختراعه، فتشكّل محاولة فريدة لهدم جدران المعنى الضيقة، وتحرير الذهن بواسطة لغة أخرى، مادية، فورية، تحاور الروح والحواس معاً.