Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السوري عبد اللطيف عبد الحميد سينمائي الخيبات الانسانية

صاحب "رسائل شفهية" التقط تناقضات الشارع واستبق انتفاضة الشعب بصرخة مدوية وسخر من شتى أنواع والقمع

المخرج عبد اللطيف عبد الحميد خلال تصوير فيلم "الطريق" (ملف الفيلم)

ملخص

رحل المخرج والممثل السينمائي السوري عبد اللطيف عبد الحميد عن 70 عاماً في دمشق التي لم يشأ أن يغادرها، على رغم الحرب، مختاراً أن يبقى مع الشعب الذي عبّر عن خيباته والآمه وآماله القليلة.

شكّل الحلم في سينما عبد اللطيف عبد الحميد (1954-2024) مادة خصبة لصياغة ما يقارب 20 فيلماً، روائياً طويلاً وقصيراً ووثائقياً. وقد بدأ تجربته منذ تخرجه في المعهد العالي للسينما في موسكو عام 1981، فاستلهم تجربة "سينما المؤلف"، وكتب كل سيناريوات أفلامه. الرجل المولود في حمص كان بدأ حياته كموسيقي ومطرب بعد دراسته للموسيقى. وهذه ذكريات كان عبد الحميد قد عاد إليها في أفلام له  اقترب فيها من السيرة الذاتية، بينما استعاد في أفلام أخرى، أحداثاً من حياته مذ كان فتى ، فأورد عبرها، ملامساته الأولى لسحر الفن السابع، عبر مواظبته طفلاً على حضور أفلام شارلي شابلن في صالات مدينة اللاذقية.

أثناء دراسته للسينما في موسكو قام صاحب "قمران وزيتونة" 2002 بتحقيق العديد من الأفلام الروائية القصيرة كان أبرزها "تصبحون على خير" و" رأساً على عقب"، إضافةً إلى فيلمين تسجيليين هما "أيدينا" و"أمنيات" اللذان حققهما في 1983. وهو العام الذي عمل فيه مخرجاً مساعداً مع  السينمائي محمد ملص في فيلمه "أحلام المدينة"، قبل أن ينجز فيلمه الروائي الأول "ليالي إبن آوى" 1987. وقد قارب فيه ولأول مرة بيئة الساحل السوري، بما شكّل صدمة للجمهور على صعيد استخدام لهجة تلك المنطقة.

اتكأ هذا الفنان على إرثٍ معرفي وحياتي كبيرين، لقراءة البيئة التي أخلص لها من دون أن يخونها أو يزوّرها، أو حتى أن يحاول زركشتها وتجميلها. لكن البيئة هنا لم تكن هاجس هذا المخرج، بل كانت هي مجرد أداة لتشريح عمق هزيمة حزيران 1967، وما تركته هذه الهزيمة من آثار نفسية لا تمحى عند أبناء جيل عبد اللطيف.

بدا ذلك في فيلمه الأول الذي حاز عليه العديد من الجوائز في مهرجانات دولية. فيلمه الثاني "رسائل شفهية" 1991 لم يتأخر، بل كان مفاجئاً وصادماً من حيث استمرار عرضه في الصالات السورية لسنوات عدة، وبنجاح جماهيري منقطع النظير. ظاهرة لم تشهدها سينما القطاع العام في سورية إلا في فيلم "الفهد" لنبيل المالح (1936- 2016). هكذا تمكن عبد الحميد من تحقيق ما يسمى معادلة "نقاد- جمهور"، فنال هذا الشريط وقتها الجائزة البرونزية في مهرجان فالانسيا لدول المتوسط في إسبانيا، عام 1992. إضافةً إلى جائزة الجمهور الشاب في مهرجان مونبليه في فرنسا، وجائزة اتحاد النوادي السينمائية الأوروبية عام 1992.

قدّمت الحياة الكثير من المقترحات لصاحب "ما يطلبه المستمعون"  2003، فانعكست شخصيته المرحة الساخرة في نتاجه الإبداعي، وتجلى ذلك كملَكة خاصة لديه، لصياغة المفارقة والدهشة سينمائياً، أمام كل موقفٍ أو حادث عابر يمر به في حياته اليومية. هكذا التقط الفنان السوري مادته الفيلمية بفطرية بالغة، من متناقضات الشارع السوري، وسخر من شتى أنواع القبح والقمع الاجتماعي والسياسي والأبوي. فقد كان معروفاً عن عبد اللطيف أنه يستيقظ من نومه ليدوّن أحلامه على دفاتر يضعها إلى جانب سريره، فـالأحلام بالنسبة إليه هي "الحقيقة الوحيدة" كما كان يردد فيدريكو فيليني (1920-1993).

عبارة استقاها عبد الحميد من السينمائي الإيطالي، فكان لكل فيلم من أفلامه قصة حلم. المنامات المدونة كسيناريوات محتملة، ومن ثم استعادتها أمام الكاميرا، بدت جوهر هذه التجربة الخاصة التي لا تعتبر الواقع إلا حلماً موازياً. تماماً كما حدث عندما كتب وأخرج فيلمه الروائي الطويل "نسيم الروح". الشريط الذي أهداه لروح الموسيقار المصري بليغ حمدي (1932-1993) وحقق أيضاً نجاحاً في شباك التذاكر، وحصد عليه العديد من الجوائز، ومن أبرزها جائزتا لجنة التحكيم الخاصة والجمهور الشاب في مهرجان جربا في تونس 1999، وجائزة أفضل ممثل (بسام كوسا) في مهرجان الفيلم العربي في باريس 2000.

وتميزت تجارب عبد اللطيف بمسحة الكوميديا المريرة والساخرة، لاسيما في شريطه الطويل "خارج التغطية" 2007. الفيلم الذي تعرض لهجوم كبير من الرقابة لكونه طرح لأول مرة مسألة المعتقلين السياسيين في سوريا. وعلى الرغم من الحذف وإعادة المونتاج في الفيلم، ظل عبد اللطيف مصراً على تقديم وجهة نظر مغايرة عن مثقفي اليسار الذين تعرضوا للاعتقال والمضايقات من قبل السلطات. تماماً كما حصل في فيلمه الإشكالي "العاشق"، والذي وجّه عبره نقداً قاسياً لحزب البعث ومسؤوليه، خاتماً الشريط بصرخة: "الشعب السوري واحد"، وهي أحد أبرز الهتافات التي تبناها الحراك الشعبي في البلاد بعد اندلاع الأحداث الدامية في نيسان (آذار) 2011.   

في هذا الفيلم ومن قبله "صعود المطر" 1994 ومن بعده فيلماه "خارج التغطية" 2007، و"مطر أيلول" 2008، أكد أن تجربته السينمائية لم تقتصر على الريف السوري، بقدر ما كانت تحاول النبش في المسكوت عنه أينما وجد، ومحاولة إيجاد شخصية سورية جامعة، حاول هذا الفنان تهجئة مراراتها وخيباتها العميقة. فالمدينة كما هو الريف الذي شاهده الجمهور في أفلام عبد اللطيف، كانا بعيدين عن أي ضغينة أو أفكار مسبقة، بل سعى هذا الفنان إلى التجريب السينمائي دونما جلبة، واعتمد على قصص واقعية أعاد إنتاجها بصيغة أقرب إلى الكاريكاتيرية ضمن قالب أقرب إلى الواقعية السحرية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لا يمكن أن نعزل شخصية عبد اللطيف المخرج عنه كممثل في أفلامه وأفلام سواه، وشارك في العديد من التجارب كممثل دور رئيسي، كان أبرز تلك الأفلام أمام كاميرا المخرج أسامة محمد في فيلمه "نجوم النهار" عام 1988، ليلعب بعدها أدواراً لافتة مع المخرج جود سعيد في ثلاثة أفلام هي "صديقي الأخير"، و "في انتظار الخريف" ومؤخراً "سلمى" (قيد التحضير)، فيما قدم شخصية شيخ الكتّاب في فيلم "ماورد" لمخرجه أحمد إبراهيم أحمد. وفي كل هذه الأفلام لم يتنازل عبد الحميد عن مسحة الأداء الكوميدية، وعن تلك الشطارة في تمرير لحظات تلقائية أمام كاميرا المخرجين الذين عمل معهم، فجسد أدوار ضابط الإستخبارات ورجل الدين والمدرب الرياضي والمزارع والمخرج السينمائي، بعفوية لافتة، وابتعد تمام البعد عن التكلف أو المبالغة.   

قدم عبد اللطيف في سنوات الحرب السورية العديد من الأفلام التي تباينت من حيث مستواها الفني، لكنها ظلت محافظة على سخريتها اللاذعة من كل أطراف الصراع السوري، ومن أبرز تلك الأفلام "أنا وأنتِ وأمي وأبي" و"طريق النحل" و"عزف منفرد" و"الإفطار الأخير" و"الطريق"، وحاز هذا الأخير جائزتي أفضل نص وأفضل تمثيل (موفق الأحمد) في الدورة 33 من مهرجان قرطاج السينمائي لعام 2022. وكان المخرج يعكف على كتابة سيناريو فيلمه الجديد، لكن حالته الصحية كانت إلى تدهور بعد وفاة رفيقة دربه ومصممة أزياء معظم أفلامه لاريسا عبد الحميد، مما عرّضه لإجراء عملية قلب مفتوح، إلى أن تمكنت الأحزان من اقتطاف عينيه مساء الأربعاء إثر تعرضه لنوبة قلبية حادة.

ونعته نقابة الفنانين ووزارة الثقافة السورية والمؤسسة العامة للسينما، فيما كتب العديد من المثقفين والفنانين على حساباتهم الشخصية على الفيس بوك في رثائه، فدوّنت الفنانة سلاف فواخرجي تقول: "ما أقسى هذه الليلة أيها الحبيب الغالي، أستاذي وصديقي…الكبير والعظيم عبد اللطيف عبد الحميد، لا تكفيك كل الدموع … يا قلبي رحل أبوك…لا ضحكات من بعدك". فيما كتب المخرج جود سعيد تدوينة مؤثرة بعد أن قام بإسعافه شخصياً من بيته في حي ركن الدين إلى مستشفى ابن النفيس عند سفح قاسيون: "السينما السورية تنعى بسمتها، عبد اللطيف إلى لقاء في عالم أقل وجعاً. كيف سأنام اليوم دون صوتك، كيف سأنام اليوم وغداً وبعد غد. كان هذا باكراً يا صديقي". في حين كتب الشاعر والنحات أحمد إسكندر سليمان المقيم في ألمانيا ناعياً صديق العمر: "عبد اللطيف عبد الحميد، لن أقول وداعاً، لأنكَ باقٍ كما الزمان الذي يأتي ويتدفق. إلى الآن الذي أردناه مشبعاً بالجمال والفرح والعدالة. يؤلمني أنني لستُ قريباً منك الآن يا صديقي... يؤلمني أنني لن أراك حين أعود إلى دمشق".

اقرأ المزيد

المزيد من سينما