Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

وثائق تكشف عن تواطؤ إدارة بايدن في مجاعة غزة الكارثية

تحقيق "اندبندنت" يرصد الأخطاء والفرص المهدورة والخيارات السياسية التي اتخذتها الولايات المتحدة فأفسحت المجال لتفشي المجاعة في شمال غزة

فلسطينيون يحتشدون للحصول على وجبات طعام في مخيم جباليا للاجئين، في قطاع غزة، 18 مارس 2024 (أ ب)

ملخص

تحقيق "اندبندنت" الذي يشمل وثائق مسربة وشهادات مسؤولين سابقين وحاليين، يرسم صورة تحمل في طياتها إدانة كبيرة للرئيس الأميركي جو بايدن على كارثة المجاعة في غزة التي كان يمكن تفاديها كلياً

توجهت أصابع الاتهام إلى الرئيس جو بايدن وإدارته لتواطئهم في السماح بتفشي المجاعة في غزة من خلال عدم اتخاذهم التدابير الكافية بعد تلقيهم تحذيرات متتالية من خبرائهم ومنظمات الإغاثة التابعة لهم.

وتكشف مقابلات مع مسؤولين حاليين وسابقين في وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية (يو أس آيد) USAID ووزارة الخارجية الأميركية، كما منظمات الإغاثة العاملة في غزة ووثائق داخلية تابعة لوكالة "يو إس آيد" عن أن الإدارة إما رفضت أو تجاهلت المناشدات باستخدام نفوذها لإقناع حليفتها إسرائيل - التي تتلقى دعماً عسكرياً أميركياً بمليارات الدولارات - كي تسمح بدخول مساعدات إنسانية كافية إلى قطاع غزة منعاً لانتشار المجاعة فيه.  

ويقول المسؤولون السابقون أيضاً إن الولايات المتحدة وفرت الغطاء الدبلوماسي لإسرائيل من أجل تهيئة الظروف المناسبة لحصول المجاعة عبر إعاقة كل الجهود الدولية الرامية إلى وقف إطلاق النار أو تخفيف الأزمة، مما جعل عملية إيصال المساعدات شبه مستحيلة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وقال جوش بول، المسؤول السابق في وزارة الخارجية الذي استقال احتجاجاً على الدعم الأميركي للحرب، لـ"اندبندنت"، "لا يقتصر الأمر على تجاهل التجويع الذي صنعه الإنسان لشعب بأكمله، بل هو تواطؤ مباشر".

وتنفي إسرائيل قطعاً وجود أزمة جوع في غزة، أو قيامها بتقييد المساعدات. وتقول إن القتال مع "حماس"، الحركة المسلحة التي أشعلت فتيل الحرب الحالية حين قتلت 1200 شخص وأسرت أكثر من 250 رهينة من إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، عرقل محاولات الإغاثة. 

وتوفي 32 شخصاً في الأقل، من بينهم 28 طفلاً، جراء سوء التغذية والجفاف في غزة، وفق منظمة "هيومن رايتس ووتش". ربما كان من الممكن تفادي وفاة هؤلاء الأطفال، وكثيرون غيرهم يرجح أن يفارقوا الحياة في القادم من الأيام، لو استجاب الرئيس بايدن بطريقة أكثر حزماً للهواجس التي نقلت له في السر والعلن.        

لو فرضت الولايات المتحدة ضغوطاً مكثفة على إسرائيل كي تفتح مزيداً من المعابر البرية وتغرق غزة بالمساعدات منذ بدء ظهور أولى علامات التحذير في ديسمبر (كانون الأول)، لكان ذلك كفيلاً بمنع انتشار الأزمة، برأي المسؤولين. لكن السيد بايدن رفض فرض شروط على المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل.  

وبدل أن يفعل ذلك، دفعت حكومة بايدن باتجاه حلول إغاثية مبتكرة وغير فعالة مثل إسقاط المساعدات من الجو أو إقامة ميناء عائم. والآن، يعاني زهاء 300 ألف شخص في شمال غزة مجاعة "شاملة" وفقاً لبرنامج الأغذية العالمي، فيما يعيش سكان غزة بأكملهم، أي 2.3 مليون شخص، في مستويات كارثية من الجوع.

أما مستوى المعارضة داخل الوكالة الحكومية الأميركية المعنية بتوزيع المساعدات المدنية في الخارج ومكافحة الجوع حول العالم، فلم يعرف له مثيل قبلاً.

إذ أرسل موظفو "يو إس آيد" 19 مذكرة اعتراض داخلية في الأقل منذ بداية الحرب، انتقدوا فيها الدعم الأميركي للحرب على غزة.

وفي مذكرة اعتراض جماعية داخلية كتبها هذا الشهر موظفون عدة في "يو إس آيد"، هاجم الموظفون الوكالة وإدارة بايدن على "عدم صون المبادئ الإنسانية الدولية والالتزام بولايتها الرامية إلى إنقاذ الأرواح".  

وتدعو مسودة المذكرة المسربة التي اطلعت عليها "اندبندنت"، الإدارة إلى ممارسة الضغط من أجل "وضع حد للحصار الإسرائيلي الذي يتسبب بالمجاعة".

لكن عدم التحرك بعد تحذيرات متكررة مثل هذه كان خياراً سياسياً.

"وفرت الولايات المتحدة الدعم العسكري والدبلوماسي الذي مكن المجاعة من الظهور في غزة"، بحسب ما قاله جيريمي كونينديك لـ"اندبندنت"، وهو مسؤول سابق رفيع المستوى في "يو إس آيد" في عهد إدارتي باراك أوباما وجو بايدن عمل على منع تفشي المجاعة في اليمن وجنوب السودان.

ويوثق هذا التحقيق الذي قامت به "اندبندنت" وفقاً للتسلسل الزمني إخفاقات إدارة بايدن المتكررة في التحرك بشكل حازم رداً على أشهر من التحذيرات من مجاعة وشيكة. وتستمر هذه الإخفاقات إلى يومنا هذا.  

الأطفال هم الأشد عرضة للخطر

المجاعة تخطف الأصغر سناً قبل غيرهم. في غزة اليوم، تعجز أمهات كثيرات عن إدرار ما يكفي من الحليب لإرضاع صغارهن لأنهن لا يتناولن ما يكفي من الطعام أنفسهن. ويدفع اليأس بمن لا يجدون ما يسدون به رمقهم إلى استهلاك أعلاف الحيوانات وغلي الحشائش. فيما تعيش عائلات كثيرة على وجبة واحدة يومياً. 

وصف آرفند داس، رئيس الفريق المسؤول عن التصدي لأزمة غزة في لجنة الإنقاذ الدولية الذي قضى أشهراً في غزة، ما رآه من ازدياد عدد الأطفال الذين يعانون سوء التغذية على مر الأشهر.

وقال "أصبح الوضع الطبيعي رؤية أطفال ونساء شديدي النحول، لا يكسو أجسامهم أي لحم حرفياً".

وأضاف السيد داس، الذي لديه باع طويل في العمل الإغاثي وعمل قبل ذلك في سوريا والسودان وجنوب السودان "رأيت أطفالاً يجلسون في الأروقة، صغار ورضع ليس لديهم أي طعام ولا مياه صالحة للشرب ولا أي شيء. لم أر هذا النوع من سوء التغذية الحاد من قبل".

وقال طبيب طوارئ قدم من المملكة المتحدة ليعمل في مستشفى قرب خان يونس في غزة لـ"اندبندنت" عبر الهاتف إن "الأطفال بالأخص يعانون معاناة شديدة".

وأضاف الطبيب "لدينا أطفال هنا بعمر العاشرة والثانية عشرة لا يتعدى وزنهم وزن طفل بعمر الرابعة أو الخامسة. يعاني معظم الأطفال- إن لم نقل جميعهم- من سوء تغذية وقلة تغذية مزمنين، ورؤية ما يحدث لهم أمر يدمي القلب".

وكانت هذه المجاعة المميتة متوقعة منذ الأيام الأولى من الحرب. إذ بدأت إسرائيل ردها على الهجوم العنيف الذي شنته "حماس" يوم السابع من أكتوبر بفرض حصار خانق أعلنه وزير الدفاع يوآف غالانت.  

وقال يوم التاسع من أكتوبر "إننا بصدد فرض حصار شامل. لا كهرباء ولا طعام ولا مياه ولا وقود- كل شيء مسدود. نحن نقاتل حيوانات بشرية وعلينا التصرف على هذا الأساس". 

وتبع القول العمل.

وشنت إسرائيل عمليات قصف هي الأكثر وحشية حتى الساعة وفرضت حصاراً خانقاً على غزة رداً على هجوم "حماس" الدموي. منذ ذلك الحين، يقول المسؤولون الفلسطينيون إن الهجوم الإسرائيلي حصد أرواح 35 ألف شخص في الأقل، جلهم من النساء والأطفال.

كما فرضت إسرائيل قيوداً مشددة على إيصال المساعدات إلى القطاع ابتداء من تلك الأيام الأولى. وقال مسؤولون في الأمم المتحدة وفي منظمات إغاثة لـ"اندبندنت" إن عمليات التفتيش الشاملة للشاحنات والتقييد الممنهج على إيصال الشحنات والرفض العشوائي لدخول أشياء ذات "الاستخدام المزدوج" مثل الشاحنات والمستلزمات التي قالت إسرائيل إن "حماس" قد تستخدمها في الحرب، عوامل فاقمت أزمة الجوع في غزة.

أعتقد بأن الولايات المتحدة متواطئة في تهيئة ظروف تفشي المجاعة. لم تكن استجابتنا غير كافية إلى حد يرثى له فحسب، بل نحن مسؤولون بشكل فعلي عن جزء كبير منها            موظف الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، يو إس آيد

علاوة على ذلك، كشفت مقابلات مع أكثر من 10 مسؤولين من الأمم المتحدة وموظفين في الإغاثة ودبلوماسيين ينسقون شؤون الإغاثة وجود قيود على توصيل المساعدات داخل غزة، تفاقم الضغوطات على شمال القطاع المحاصر. وأسهمت شراسة المعارك وانعدام الأمن بشكل عام في كل مناطق القطاع في إبطاء إيصال المساعدات. واحتشد الأشخاص المستميتون للحصول على الطعام مرات عدة حول شاحنات المساعدات فطوقوها فور وصولها إلى مناطق منكوبة.

كان نحو ثلثي سكان غزة يعتمدون على المساعدات الغذائية قبل الحرب، وفي ذلك الوقت دخلت القطاع أكثر من 500 شاحنة يومياً، منها شاحنات محملة بالوقود. لكن بين السابع من أكتوبر ونهاية فبراير (شباط)، انخفض عدد الشاحنات التي تدخل إلى ما معدله 90 شاحنة يومياً فقط، مما يشكل تراجعاً نسبته 82 في المئة في وقت ازدادت فيه الحاجة إلى المساعدات بشكل كبير بسبب الحرب. 

وتنفي إسرائيل قطعياً وجود أزمة جوع في غزة أو قيامها بتقييد المساعدات. وقالت الوحدة المسؤولة عن التنسيق مع الفلسطينيين في وزارة الدفاع، والمعروفة باسم وحدة تنسيق نشاطات الحكومة في الأراضي (كوغات) مرات عدة بأن المساعدات التي تدخل غزة "غير محدودة" وإنها تضطلع "بدور فاعل" في تيسير دخولها. حاولت "اندبندنت" التواصل مع كوغات طلباً لتعليقها على هذه المزاعم بالتحديد لكنها لم تتلق جواباً حتى الآن.

من ناحية أخرى، دمرت الغارات أيضاً البنية التحتية الضرورية لإنتاج الغذاء. يوم الـ15 من نوفمبر (تشرين الثاني)، تعرضت مطحنة القمح الوحيدة الباقية في غزة إلى القصف وخرجت عن الخدمة- ولم يعد هناك بالتالي أي دقيق أو خبز ما عدا الذي تنجح المنظمات الخارجية بإدخاله إلى القطاع.   

وفي أية حال، فإن القصف الإسرائيلي المكثف على كل مناطق غزة جعل إمكان توصيل المساعدات بأمان أمراً شبه مستحيل. قتل 254 عامل إغاثة في الأقل على امتداد فترة الصراع، من بينهم 188 موظفاً في الأمم المتحدة- يشكلون أكبر عدد من موظفي الأمم المتحدة الذين قتلوا في أي نزاع في تاريخ المنظمة نفسها. وتعرضت مواكب عدة إغاثة للنيران الإسرائيلية. وقالت "أونروا"، وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، لـ"اندبندنت"، إنه على رغم مشاركتها إحداثيات نظام تحديد المواقع وعدد الشاحنات وجهات الاتصال مع الجيش، تعرضت ثلاث قافلات مساعدات تابعة لها إلى القصف من المدفعية البحرية الإسرائيلية وإلى إطلاق النار. 

التحذيرات الأولى

وصل عدد ضحايا القصف الإسرائيلي على غزة إلى الآلاف بسرعة، لكن خطر المجاعة كان هو الآخر يلوح في الأفق.

بحلول ديسمبر (كانون الأول)، توصلت المؤسستان الدوليتان اللتان تلجأ إليهما حكومات العالم لتحديد مرحلة الوصول إلى المجاعة - وهما التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي وشبكة نظام الإنذار المبكر بالمجاعة - إلى الخلاصة نفسها: المجاعة وشيكة وتهدد أكثر من مليون شخص.   

وقال السيد كونينديك، الذي ترأس مكتب المساعدة الخارجية في حالات الكوارث في "يو إس آيد" طوال ثلاث سنوات، إن تلك التحذيرات كان من المفترض أن تحث البيت الأبيض على التحرك الفوري. فلو وقعت الظروف نفسها في معظم دول العالم، كما قال، هذا ما كان ليفعله. لكن الولايات المتحدة تعنتت في رفضها اتخاذ أية خطوة قد تعوق الجهد الحربي الإسرائيلي.

وقال لـ"اندبندنت"، "عندما تظهر تحذيرات تنبه إلى وجود ذلك الخطر، من المفترض أن تقابل برد فعل حازم، سواء من ناحية المساعدات الإغاثية أو من الناحية الدبلوماسية. لكن لم يدل شيء في استجابة إدارة بايدن لتوقعات حصول المجاعة في ديسمبر على هذا الشكل من التحول الحاد نحو منع وقوع المجاعة".

وما تبع كان نمطاً من الدفاع والتحريف والإنكار الصريح من البيت الأبيض.

في ردهم على أسئلة "اندبندنت"، سلط المتحدثون باسم إدارة بايدن الضوء مراراً وتكراراً على مطالبات السيد بايدن المتكررة للحكومة الإسرائيلية بفتح مزيد من المعابر لمرور المساعدات، مشيرين إلى الزيادة الموقتة في عدد شاحنات المساعدات التي تدخل غزة على أنها دليل على فعاليته، بحسب وصفهم.

لكن الذي لم يقله مساعدو بايدن أنفسهم هو أن تدفقات المساعدات المتقطعة تلك لم ترق إلى مستوى الأزمة. واستمر الجوع بالانتشار، ومع ذلك، رفض البيت الأبيض أن يستخدم نفوذه عبر التهديد بفرض شروط على تقديم المساعدات العسكرية.

"لم يدل شيء في استجابة إدارة بايدن لأول تقرير عن حصول المجاعة على هذا الشكل من التحول الحاد نحو منع وقوع المجاعة"           جيريمي كونينديك، المدير السابق لمكتب المساعدة الخارجية في حالات الكوارث في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية

وقال السيد كونينديك "أعتقد أن إدارة بايدن كانت تضغط على إسرائيل في الكواليس لكي تستأنف فتح المعابر لمرور المساعدات. لكنها اعتمدت موقف الإذعان التام للطريقة التي اختارت إسرائيل خوض الحرب بها، واستمرت بتزويدها بالأسلحة من دون أن تفرض أي شروط حقيقية على ذلك".

وفي هذا السياق، قال متحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض لـ"اندبندنت" "منذ بداية هذا النزاع، يقود الرئيس بايدن جهود إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة للتخفيف من معاناة الفلسطينيين الأبرياء الذين لا علاقة لهم بـ’حماس‘".

وأضاف المتحدث "قبل تدخل الرئيس، لم يدخل غزة أي طعام أو مياه أو دواء. كما أن الولايات المتحدة أكبر الجهات المانحة للمساعدات في عملية الاستجابة للوضع في غزة. هذه أولوية قصوى الآن، وستظل كذلك، في سبيل معالجة الظروف المتردية على الأرض، نظراً إلى الحاجة إلى مساعدات أكثر بكثير". 

لكن داخل "يو إس آيد"، شعر الموظفون المدنيون المخضرمون بالهول إزاء عدم إبداء قادتهم المعينين سياسياً أي إحساس بالإلحاح أو العجلة.

وكشفت وثائق داخلية لوكالة "يو إس آيد" اطلعت عليها "اندبندنت" أن الموظفين كانوا يعبرون عن قلقهم من عدم التحرك ويرفعون هذه الهواجس إلى رأس الهرم، مديرة الوكالة سامانثا باور وغيرها من كبار القادة من خلال الرسائل ومذكرات الاعتراض الداخلية، ولكن بلا جدوى في أغلب الأحيان.   

وقال أحد الموظفين في "يو إس آيد" طلب عدم الكشف عن هويته لأنه ما يزال يعمل مع الوكالة "ما فاجأني وتسبب لي بخيبة أمل عميقة، هو أننا لم نكن نسمع أي شيء عن المجاعة الوشيكة في غزة".

تعتبر مذكرات الاعتراض- وهي شكل من الاحتجاج الداخلي المسموح به، يطرح عبر قناة مخصصة لإبداء الملاحظات المهمة حول السياسات- نادرة نسبياً في وكالة "يو إس آيد" مقارنة بوزارة الخارجية. لكن موظف الوكالة قال إنه على علم بإرسال 19 مذكرة على الأقل اعتراضاً على عدم تحرك الوكالة- والحكومة- من أجل التصدي للمجاعة الوشيكة.

وهذا "عدد هائل" بحسب وصف السيد كونينديك، الذي أشار إلى أنه لم يصادف إرسال أية مذكرة اعتراض في "يو إس آيد" بحسب ما يذكر خلال أكثر من خمس سنوات قضاها في الوكالة في عهدي السيدين أوباما وبايدن.    

وبحلول منتصف يناير (كانون الثاني)، أخذت منظمات الإغاثة الموجودة في الميدان في غزة بإرسال مناشدات يائسة لوقف إطلاق النار من أجل إفساح المجال لإيصال المساعدات الغذائية. وأفاد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) بأن 378 ألف شخص في غزة يواجهون مستويات جوع كارثية فيما يواجه سكان غزة بأكملهم، أي 2.2 مليون شخص، انعداماً حاداً للأمن الغذائي.

وقال مدير حالات الطوارئ في منظمة الصحة العالمية مايكل راين في مؤتمر صحافي عقده يوم الـ31 من يناير "هذا شعب يتضور جوعاً حتى الموت، هذا شعب يدفع إلى حافة الهاوية".

خلال اليوم نفسه الذي وصف فيه السيد راين الآفاق القاتمة في غزة، دافع مستشار اتصالات الأمن القومي بالبيت الأبيض جون كيربي عن قرار إدارة بايدن بتعليق المساعدات لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). ونفى السيد كيربي أن يكون لقطع المساعدات عن وكالة الأمم المتحدة ذات الوجود الأهم في غزة أي تأثير سلبي في الوضع الإنساني هناك، زاعماً بأن الولايات المتحدة "تبذل قصارى جهدها في سبيل إدخال مزيد من المعونات (الإنسانية) لسكان غزة". 

وحتى في هذه اللحظة، كان البيت الأبيض يركز على إعطاء إسرائيل كل ما تحتاج إليه للفوز في حربها على "حماس".

"أونروا" تفقد قدرتها على العمل 

انتشر الجوع سريعاً خلال الشهر التالي مع استمرار الحرب. يوم الـ27 من فبراير، قال ثلاثة مسؤولين كبار في الأمم المتحدة لمجلس الأمن إن 576 ألف شخص في الأقل أصبحوا الآن "على بعد خطوة واحدة من المجاعة".

وتوجه راميش راجاسينغام، مدير التنسيق في "أوتشا"، للمجلس بقوله "للأسف، مع أن الوضع اليوم قاتم جداً، ما زالت الإمكانية موجودة لكي يتدهور أكثر بعد".

وفي إحدى أبشع المجازر التي وقعت في هذا النزاع، قتل عشرات الفلسطينيين أثناء محاولتهم الوصول إلى المعونات بكل ما أوتوا من قوة بعدما أطلقت القوات الإسرائيلية النار على حشد يحاول الحصول على أكياس دقيق من شاحنات المساعدات في الـ29 من فبراير قرب مدينة غزة. في البداية، تحدث الجيش الإسرائيلي عن وقوع تدافع أسفر عن حدوث الفوضى، لكنه زعم في تحقيق لاحق بالأحداث بأن الجنود الإسرائيليين "لم يطلقوا النار على القافلة الإنسانية بل على عدد من المشتبه بهم الذين تقدموا نحو القوات المجاورة وشكلوا خطراً عليها". 

وأضاف تحقيق الجيش الإسرائيلي "خلال عملية النهب، وقعت حالات أذى كبير طاولت المدنيين بسبب التدافع وقيام الشاحنات بدهس الناس". قتل أكثر من 100 فلسطيني في ذلك اليوم، وهم يحاولون الوصول إلى المساعدات.

قبل الحرب، كانت "أونروا"، أكبر وكالة أممية عاملة في غزة، توفر وتوزع الاحتياجات الأساسية للناس لكي يتمكنوا من الاستمرار في القطاع المحاصر، مثل الغذاء والدواء والوقود. وكانت الولايات المتحدة أكبر جهة مانحة لـ"الأونروا"، بفارق كبير عن الجهات الأخرى، إذ تسهم بنحو نصف موازنة التشغيل السنوية للوكالة تقريباً. 

لكن الولايات المتحدة علقت مساهمتها بعد الادعاءات الإسرائيلية بتورط نحو 12 موظفاً في "أونروا" في هجوم السابع من أكتوبر، وبارتباط 10 في المئة من موظفيها تقريباً بالمقاتلين. (لاحقاً، توصل تحقيق مستقل ترأسته وزيرة الخارجية الفرنسية السابقة كاثرين كولونا إلى أن إسرائيل لم تقدم بعد أي إثباتات تؤكد صحة هذه المزاعم).

مع حلول نهاية فبراير، قالت "أونروا" إن إسرائيل منعتها فعلياً من دخول شمال غزة.   

وقالت المنظمة إن 188 من موظفيها في الأقل قتلوا منذ بداية الحرب، فيما استهدف أكثر من 150 مرفقاً من مرافقها- من بينها عدد كبير من المدارس- ولقي أكثر من 400 شخص حتفهم "أثناء احتمائهم بعلم الأمم المتحدة".

وأثرت عمليات القتل بشكل بالغ في قدرة منظمات الإغاثة على توفير إمدادات مطلوبة بشدة- فيما استمرت الظروف السلامة الأمنية لعمال الإغاثة بالتدهور. في أعقاب قصف مستودع للأغذية في رفح في مارس (آذار)، اتهم المفوض العام للأونروا فيليب لازاريني إسرائيل بـ"الازدراء الصارخ" للقانون الإنساني الدولي. 

 وقال "إن هجوم اليوم على أحد مراكز التوزيع القليلة المتبقية التابعة لـ’الأونروا‘ في قطاع غزة يأتي في الوقت الذي تنفد فيه الإمدادات الغذائية، وينتشر الجوع على نطاق واسع، ويتحول في بعض المناطق إلى مجاعة"، مضيفاً أن المنظمة شاركت إحداثيات المنشأة مع الجيش الإسرائيلي.

وأعرب السيد لازاريني مراراً وعلناً عن معارضته لعرقلة إسرائيل مرور قوافل المساعدات الإنسانية.

وقال في مارس "قلتها مراراً وتكراراً: هذا الجوع والمجاعة الوشيكة من صناعة الإنسان، وما يزال بالإمكان تفاديهما".

وحاولت "اندبندنت" التواصل مع وحدة كوغات الإسرائيلية للحصول على ردها على هذه المزاعم لكنها لم تتلق جواباً منها بعد. لكن في بياناتها السابقة، دانت كوغات "بشدة" ما سمته "اتهامات باطلة تنشر بشكل غير مسؤول" بأن إسرائيل تقيد وصول المساعدات إلى غزة أو مرورها عبرها. كما اتهمت "حماس" بعرقلة المساعدات وسرقتها. ورفضت كوغات الاتهامات حول انخفاض عدد شاحنات المساعدات التي تدخل القطاع.

وقالت كوغات "إسرائيل تساعد وتشجع وتسهل دخول المساعدات الإنسانية لسكان قطاع غزة وللبنى التحتية وغيرها من البنى الحيوية في القطاع"، مضيفة أن حرب إسرائيل مع "حماس" "وليس مع سكان قطاع غزة".

حل بسيط

بالنسبة إلى العاملين في الحقل الإنساني الموجودين على الأرض، كان حل المشكلة بسيطاً: فوقف إطلاق النار هو السبيل الوحيد لزيادة كمية المساعدات الضرورية من أجل منع وقوع المجاعة. ومن دون ذلك، أضعف الإيمان أن تفتح إسرائيل مزيداً من المعابر البرية في غزة وتسمح بمرور عدد أكبر من شاحنات المساعدات.

لكن الولايات المتحدة عرقلت محاولات الوساطة المتتالية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من أجل التوصل إلى وقف لإطلاق النار بالنيابة عن حليفتها، إسرائيل.

في تبريرها لاستخدام حق الفيتو للمرة الثالثة في الـ20 من فبراير، قالت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس - غرينفيلد إن أي وقف فوري لإطلاق النار قد يهدد المحادثات المتعددة الأطراف للتوصل إلى هدنة موقتة في الحرب وإطلاق سراح الأسرى الذين تحتجزهم "حماس".

وفي ظل غياب أي وقف شامل لإطلاق النار، ناشدت المنظمات الإنسانية إدارة بايدن أن تستخدم نفوذها للضغط على إسرائيل كي تسمح بالتدفق الفوري للمساعدات الضرورية لمنع المجاعة إلى غزة.

فوحدها الولايات المتحدة، باعتبارها الداعم الرئيس لحرب إسرائيل، والجهة التي تهبها نحو 4 مليارات دولار سنوياً للدفاع عن نفسها، تمتلك النفوذ الكافي لكي تقنع إسرائيل بهذه الخطوة. لكن السيد بايدن رفض بتعنت مجرد التفكير في فرض أي شروط على المساعدات، ذاكراً اعتقاده القديم بضرورة دعم الدولة اليهودية الوحيدة في العالم.

وقال يان إيغلاند، الأمين العام للمجلس النرويجي للاجئين، المنظمة الإنسانية التي يعمل عشرات موظفي الإغاثة التابعين لها في غزة، إنه وجه رسالة إلى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن حثه فيها على تشكيل مهمة مراقبة دولية على حدود غزة من أجل تسهيل إيصال المساعدات بدل ترك الأمور بيد إسرائيل في الوقت الذي تخوض فيه حرباً. لكن مناشداته لم تلق آذاناً صاغية.

وقال لـ"اندبندنت" إن "العجز الدبلوماسي يفوق التصور. لديك رؤساء جمهورية ورؤساء وزراء يسافرون إلى (إسرائيل) ويستجدون ويحثون ويناشدون والجواب هو لا. ثم يستمرون بتوفير الأسلحة والدعم. من القوى العظمى هنا؟".

قال السيد إيغلاند إنه كان على الولايات المتحدة أن تعلم ما الذي سيحدث في غزة عندما لوح الزعماء الإسرائيليون بتهديدات الدمار الشامل في الأيام الأولى التي تلت هجوم "حماس".

وقال "علموا بالأمر ومع ذلك لم يفرضوا أي شروط على دعمهم. كان خطأ جسيماً، للغاية. ولا شك في أنه ارتد عليهم الآن بشكل هائل".

وفي حديثه إلى "اندبندنت"، تكلم جوش بول، الذي استقال من وزارة الخارجية احتجاجاً على الدعم الأميركي للحرب في أكتوبر، عن وجود "ازدواج في المعايير عندما يتعلق الأمر بإسرائيل" داخل إدارة بايدن - في كل المواضيع، بدءاً بالأسلحة ووصولاً إلى صون القانون الإنساني الدولي.

وأضاف أنه كان في متناول الإدارة مجموعة من الأدوات التي تسمح لها بالضغط على إسرائيل كي تتوقف عن تقييد دخول المساعدات.

وقال "كانت الإدارة قادرة أن تفعل ذلك من خلال تطبيق المادة 620 آي من قانون المساعدات الخارجية 620I of the Foreign Assistance Act التي تحظر تقديم المساعدة إلى بلدان تقيد المعونات الإنسانية الممولة من الولايات المتحدة، وكانت قادرة على فعل ذلك من خلال وقف توريد شحنات الأسلحة، وكانت قادرة على فعل ذلك من خلال دعم قرارات الأمم المتحدة التي تدعو إسرائيل إلى التوقف عن تقييد المساعدات الإنسانية".    

ووجه السيد كونينديك الذي يترأس حالياً المنظمة الدولية للاجئين Refugees International نداء علنياً إلى السيد بايدن في مقالة رأي نشرتها مجلة "فورين أفيرز" في فبراير، دعاه فيه "للتحرك الآن بغية جعل الوقاية من المجاعة أولوية قصوى والاستعداد لاستخدام النفوذ الأميركي البناء- بما يشمل وقف مبيعات الأسلحة موقتاً- إن لم تستجب الحكومة الإسرائيلية".     

وفي حديث إلى "اندبندنت" بعد شهر من نشر مقالته، قال إنه لا يمكن تفادي حصول المجاعة على الأرجح من دون تحرك السيد بايدن السريع.

داخل وكالة "يو إس آيد" أيضاً، شعر الموظفون بالغضب تجاه تأكيدات إدارة بايدن المتواصلة بأنها تبذل قصارى جهدها في سبيل دفع إسرائيل للسماح بدخول مزيد من المساعدات. انخفضت كمية المساعدات التي وصلت إلى سكان غزة بنسبة النصف في فبراير، مقارنة بالشهر السابق. 

وفي الثالث من مارس، أدلت نائب الرئيس كامالا هاريس بما اعتبر عندها التصريح الأكثر جرأة عن أهمية المساعدات الإنسانية في غزة. وفي خطابها لمناسبة ذكرى المظاهرات المطالبة بالحقوق المدنية في مدينة سيلما، ألاباما، قالت السيدة هاريس إنه يتعين على الحكومة الإسرائيلية "أن تبذل جهوداً أكبر بكثير في سبيل زيادة تدفق المساعدات"، لافتة إلى عدم وجود "أي تبريرات" لعدم القيام بذلك.

وبعد أيام قليلة، قال المتحدث باسم البيت الأبيض السيد كيربي لـ"اندبندنت" في إطار إحاطة إعلامية يومية إنه "من غير المقبول" و"لا من الصائب لأي هدف" أن تقيد إسرائيل إدخال المساعدات إلى غزة.

لكن السيد كيربي رفض قطعياً فكرة أنه على السيد بايدن استخدام ورقة تقييد إيصال الأسلحة لإرغام الحكومة الإسرائيلية على السماح بتدفق المساعدات.

ووصف موظف "يو إس آيد" إصرار الإدارة على أنها تبذل كل ما في وسعها لكي توقف انتشار الجوع بأنه "مخادع جداً".

وقال "لا أعتقد بأن رئيس الولايات المتحدة- الحليف والممول الأهم لإسرائيل- يمتلك نفوذاً ضئيلاً لا يسمح له بأن يرغمها على اتخاذ خطوات جدية لكي تسمح حقاً بإدخال الكمية الكافية والضرورية من المساعدات لإنقاذ الأرواح". 

وأضاف "لا يبدو أن أي جهد حقيقي بذل من أجل إرغام إسرائيل على ضمان وصول أكبر للمساعدات الإنسانية".

بعد إخفاقها في إقناع حليفتها بالسماح بدخول مزيد من المساعدات عن طريق المعابر البرية، أقدمت الولايات المتحدة على خطوة غير اعتيادية، فأطلقت عملية إسقاط المساعدات جواً فوق غزة. 

ووصف السيد كونينديك الذي أشرف على عمليات إنزال جوية مماثلة للمساعدات الإنسانية فوق النيبال والفيليبين والعراق الخطة بأنها "فشل ذريع للسياسة" من جانب إدارة بايدن.

وقال إن الإنزالات الجوية "هي الطريقة الأعلى كلفة والأقل فعالية لإيصال مساعدات إلى شعب. لم نلجأ إليها أبداً تقريباً لأنها أداة للحالات القصوى".

وقال لـ"اندبندنت"، "عندما تلجأ الحكومة الأميركية إلى تكتيكات استخدمتها للالتفاف على السوفيات في برلين وداعش في سوريا والعراق، يجب أن يثير ذلك أسئلة قاسية جداً عن حال السياسة الأميركية".

بايدن يتصرف أخيراً

في الثاني من أبريل، عاد الخطر الذي يواجهه كل من يحاول إيصال الغذاء إلى الغزاويين اليائسين، للواجهة مجدداً. إذ قتلت مجموعة من عمال الإغاثة الدوليين التابعين لمنظمة "المطبخ المركزي العالمي" بثلاث غارات متتابعة نفذتها مسيرات إسرائيلية في غزة.

وقالت منظمة الإغاثة الإنسانية التي لا تتوخى الربح وأسسها الشيف الشهير خوسيه أندريس إن أفرادها كانوا يتنقلون في سيارات طبع عليها شعار المنظمة الخيرية عندما تعرضت للقصف مع أنها نسقت إحداثياتها وتحركاتها مع الجيش الإسرائيلي. 

وفي مقالة رأي بعنوان "دعوا الناس يأكلون" نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" في الأيام التي تلت عمليات القتل، قال السيد أندريس إن الضربة الجوية جاءت "نتيجة مباشرة لسياسة ضغطت المساعدات الإنسانية إلى مستويات تبعث على اليأس" واتهم إسرائيل بـ"منع وصول الغذاء والدواء للمدنيين".   

هذه المرة، بدر عن البيت الأبيض رد فعل مختلف. فالسيد أندريس من أصدقاء السيد بايدن وهو شخصية معروفة ومحبوبة في العاصمة واشنطن. للمرة الأولى منذ بداية النزاع، أثار الرئيس احتمال إيقاف الولايات المتحدة دعمها إن لم تتخذ إسرائيل بعض الخطوات فوراً. 

وفي اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بعد يومين من مقتل موظفي المطبخ المركزي العالمي، "أوضح (السيد بايدن) ضرورة إعلان إسرائيل وتطبيقها سلسلة من الخطوات المحددة والملموسة والقابلة للقياس من أجل معالجة الأذى اللاحق بالمدنيين والمعاناة الإنسانية وسلامة عمال الإغاثة"، وفق ما كشف عنه البيت الأبيض عن تفاصيل المحادثة الهاتفية.

وردت الحكومة الإسرائيلية فوراً بالموافقة على فتح ثلاثة ممرات إنسانية لمرور المساعدات إلى غزة، من بينها معبر إيرز [بيت حانون] في شمال غزة الذي لم يفتح منذ بداية النزاع.

ومع ذلك، كانت نبرة القلق تتصاعد في النداءات التي تطلقها منظمات الإغاثة. في تقريرها الصادر في التاسع أبريل اتهمت "هيومن رايتس ووتش" إسرائيل "بالاستمرار في ارتكاب جرائم حرب، من خلال العقاب الجماعي وتعمد عرقلة المساعدات الإنسانية واستخدام تجويع المدنيين سلاح حرب". 

في الوقت نفسه، كان مسؤولو "يو إس آيد" يتبنون موقفاً أكثر حزماً في دق ناقوس الخطر داخلياً.  

وجاء في برقية أعدها مسؤولون في الوكالة وسربت إلى موقع "هاف بوست" في مطلع أبريل أن "عتبة تصنيف حصول المجاعة اجتيزت على الأرجح" وأن مستويات الجوع وسوء التغذية في غزة "غير مسبوقة في التاريخ الحديث".    

كما وجدت مذكرة منفصلة أعدها مسؤولون في "يو إس آيد" لوزير الخارجية أنتوني بلينكن وسربها موقع "ديفيكس" Devex احتمال انتهاك إسرائيل أمراً صادراً من البيت الأبيض يفرض على من يتلقون المساعدات العسكرية الأميركية أن يسمحوا بوصول الدعم الإنساني الممول من الولايات المتحدة بلا عوائق.

وسربت مذكرة أخرى لـ"ديفيكس" من خبراء الأمن الغذائي، حملت عنوان "المجاعة حتمية، والتغييرات قد تخفف من دون أن توقف وفيات المدنيين على نطاق واسع". وقالت المذكرة إن "التحديات الإدارية التي فرضتها إسرائيل تعوق إيصال" المساعدات الإنسانية المنقذة للأرواح. 

بدا أن الضغط الذي مارسه السيد بايدن على نتنياهو له تأثير فوري. إذ تمكن عدد أكبر من الشاحنات المحملة بالسلع الغذائية والإمدادات من دخول غزة في أواخر أبريل وفتحت إسرائيل معبر إيرز بعد طول انتظار في الأول من مايو (أيار) مما أدى إلى دخول أكثر من 200 شاحنة يومياً لأسابيع عدة. 

ورأى بعضهم في هذه التطورات إشارة إلى التقدم. فيما اعتبر آخرون أنها تظهر القدرة التي يتمتع بها السيد بايدن في التأثير مباشرة في تحركات إسرائيل، عندما يختار استخدام نفوذه.  

لكن كما حدث مرات عدة في هذا النزاع، لم يدم الضغط ولا التحسن طويلاً. 

لم تكن المجاعة حتمية

صرحت الأمم المتحدة مرات عدة بأنه عند صدور الإعلان الرسمي بتفشي المجاعة، سيكون الوقت قد فات للحؤول دون وقوع آلاف الوفيات. ويتطلب هذا الإعلان جمع بيانات دقيقة إلى أبعد الحدود، لا يمكن الحصول عليها في ظل انعزال شمال غزة المستمر بسبب الاقتتال.

ويرجح أن المديرة الأميركية لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة سيدني ماكين أخذت هذا الوضع في الاعتبار عندما أصبحت أبرز مسؤولة دولية إلى الآن تعلن تفشي المجاعة في شمال غزة خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي.

وقالت ماكين، أرملة السيناتور السابق جون ماكين، صديق بايدن المقرب، في مقابلة لبرنامج "قابل الصحافة" Meet the Press على "إن بي سي" أذيعت يوم الخامس من مايو "إنه أمر مرعب. تفشت المجاعة - المجاعة الشاملة - في الشمال وهي تتجه جنوباً".

من وجهة نظر المنظمات الإنسانية العاملة على الأرض، لم تكن هذه النهاية حتمية.

وقالت لويز ووتريدج، مسؤولة الاتصالات في "أونروا"، في مقابلة هاتفية معها من غزة الأسبوع الماضي "هذه مجاعة من صنع الإنسان كان بالإمكان تجنبها تماماً، ووقعت بسبب نقص المساعدات الإنسانية وتقييد وصول المعونات الإنسانية طوال سبعة أشهر".

وبحسب معطيات الأمم المتحدة، يواجه أكثر من نصف سكان غزة - نحو مليون و100 ألف شخص - انعدام الأمن الغذائي الكارثي. وهذه أعلى نسبة من إجمالي السكان في مكان واحد تسجل عالمياً على الإطلاق. يعاني طفل من كل ثلاثة تحت عمر السنتين سوء التغذية الحاد. 

والأمور تتجه نحو الأسوأ.

أعلنت إسرائيل منذ أشهر عدة نيتها اجتياح مدينة رفح الجنوبية، آخر ملجأ في غزة يأوي أكثر من مليون نازح من المناطق الأخرى في القطاع المدمر. ويضم هذا العدد نحو 600 ألف طفل محشورين داخل الخيم والمباني المكتظة وباحات المستشفيات لا يملكون ما يختبؤون تحته سوى قماش مشمع. وتشكل المدينة المركز الأساسي لمنظمات الإغاثة العاملة في غزة، وهي أيضاً آخر معاقل "حماس" وفقاً لإسرائيل. أعرب البيت الأبيض في السابق عن معارضته العلنية لشن عمليات واسعة النطاق في رفح نظراً إلى الكارثة الإنسانية التي ستسفر عنها هذه العمليات لا محالة.  

لكن بعد أيام قليلة من مقابلة السيدة ماكين، أصدرت إسرائيل أمراً لـ100 ألف شخص بإخلاء المدينة. ويوم الأربعاء، استولت القوات الإسرائيلية على معبر رفح الحدودي، فأوقفت نقل المساعدات من خلال معبر أساسي. وهو أيضاً المعبر الوحيد الذي يمكن إجلاء الفلسطينيين الجرحى أو المرضى منه.

وفي الخامس من مايو (أيار)، أغلقت معبراً حيوياً آخر هو كرم أبو سالم، بعد مقتل أربعة من جنودها يوم الأحد على إثر هجوم عليهم في المنطقة. وفيما تقول إسرائيل بأن كرم أبو سالم فتح من جديد بعد ذلك، لفت مسؤولون أمميون إلى أنه خطر جداً لعبور العاملين في المجال الإنساني. وقال ينس ليرك، المتحدث باسم "أوتشا" لـ"اندبندنت" إن رفح وكرم أبو سالم كانا "شريانين حيويين للعملية الإنسانية" على مستوى القطاع بأكمله وإن إغلاقهما كان "كارثياً".   

واستدعت هذه الخطوة ردة فعل مفاجئة من السيد بايدن. فللمرة الأولى، هدد بإيقاف بعض شحنات الأسلحة الهجومية إلى إسرائيل إن دخلت قواتها المدينة. لكن بدل التراجع عن الهجوم، وسعت إسرائيل نطاق أوامر الإخلاء في جنوب وشمال غزة، لتشمل 300 ألف شخص بحسب التقديرات، وبدأت هجومها على رفح.     

في هذه الأثناء، لم يفرض الرئيس الشروط نفسها بالنسبة إلى إيصال المساعدات الضرورية.

وهذا التناقض هو سبب الاستياء الكبير داخل الحكومة الأميركية، ولا سيما في صفوف الأشخاص الذين مهمتهم منع الناس من الموت جوعاً.  

وقال موظف "يو إس آيد" الحالي الذي حجبت هويته لـ"اندبندنت" "أعتقد بأن الولايات المتحدة متواطئة في تهيئة ظروف تفشي المجاعة. لم تكن استجابتنا غير كافية إلى حد يرثى له فحسب، بل نحن مسؤولون بشكل فعلي عن جزء كبير منها".

© The Independent

المزيد من تحقيقات ومطولات