ملخص
رأى ستيفن كينغ مؤلف روايات الرعب الجماهيري أن المخرج ستانلي كوبريك حط من قيمته الفنية، و"فهم" روايته "إشراق" فهماً مختلفاً عما فهمها هو وبالتالي "فإنني لم أر روايتي في فيلمه"
تأتي الدورة الجديدة من مهرجان كان السينمائي المقام حالياً ولأيام عديدة أخرى في الجنوب الفرنسي لتلفت أنظار محبي السينما الذين - لحسن الحظ - يتزايدون عاماً بعد عام، إلى ظاهرة قد يكون من شأنها أن تبدو محيرة إن لم تثر شيئاً من الاضطراب: ظاهرة تتمثل في تضاؤل نسبة الأفلام الكبيرة المقتبسة من أعمال روائية قد تكون كلاسيكية، وقد تكون أكثر معاصرة وتجريبية. يأتي هذا التضاؤل بعد عقود استندت فيها السينما وفي خير نتاجاتها في معظم البلدان المنتجة إلى المتن الروائي الكبير، بحيث كان في وسعنا أن نرى ذات زمن أن ثمة تمازجاً خلاقاً بين النوعين الإبداعيين يبدو وكأنه ترسخ بصورة نهائية. لكنه في الواقع لم يترسخ، بل ها هي السينمات الجديدة التي تنتج حالياً تبتعد أكثر وأكثر عن الأدب، وبخاصة في البلدان الفقيرة إنتاجياً حيث قد تزداد جودة ما ينتج، ولكن بالتماشي مع قلة اهتمام السينمائيين باقتباس روايات معروفة. ولعل رحيل عدد من كبار روائيي العالم في السنوات الأخيرة عزز من ظهور هذا الأمر، وفي إمكاننا إعطاء أمثلة عدة فصيحة عن روايات كبرى لا تزال حتى اليوم غائبة عن شاشات السينما، بدءاً من روايات لميلان كونديرا وصولاً إلى روايات بول أوستر الكبرى، مروراً بروايات لماركيز أو بورخيس وقس على ذلك. ولعل الأدهى من هذا أن الغياب الذي نتحدث عنه يتفاقم، في وقت يزداد فيه اهتمام التلفزة بإنتاج أفلام على طريقتها تنهل من الأدب الروائي.
غياب الأدب الكبير
طبعاً يحتاج تحليل هذه الظاهرة إلى عمل بحثي دؤوب لا يمكن لهذه العجالة أن تقوم به، كل ما يمكننا أن نفعله هنا هو التوقف عند لحظات صارخة من لحظات علاقة الرواية الأدبية بالسينما الحقيقية، لافتين إلى أن كل ضروب التقدم التي حققتها تقنيات السينما حتى اليوم تتمكن بعد من تحويل روايات هذا النمط من الروائيين الكبار إلى أفلام / علامات في تاريخ فن الصورة المتحركة مقارنة مثلاً بما يتم على صعيد آخر من تحويل كل إنتاجات الشرائط المصورة (الكوميك) والاستعراضات الموسيقية (المسرح الغنائي الراقص) والأبطال الخارقين وحكايات الخيال العلمي وما شابه ذلك، إلى أفلام تدر أرباحاً هائلة وتستقطب مشاهدين بمئات الملايين. كل هذا وما يماثله يحدث فارقاً كبيراً في تاريخ السينما وتجديدات هائلة في مساراتها، ولا سيما من ناحية استعادة أعداد هائلة من الجماهير إلى الصالات. غير أن السينما الحقيقية، السينما الكبيرة تبقى في منأى عن هذه السعادة وضاعت أمورها بين تلك النتاجات الكبيرة من ناحية والسينما الأكثر ذاتية وحميمية التي يسميها بعضهم "السينما المستقلة" تلك التسمية الغامضة البلهاء التي لا تعني شيئاً في نهاية المطاف. ومهما يكن ليس هذا موضوعنا هنا. موضوعنا هو، كما أشرنا، التوقف لاستذكار بعض اللحظات المضيئة في حكاية سينما الروايات الكبرى. ولعلنا نكون على صواب إن بدأنا حديثنا بستانلي كوبريك الراحل قبل ربع قرن عن 13 فيلماً تعتبر من تحف السينما العالمية، وربما تعتبر أيضاً أوضح تحية وجهها سينمائي كبير لتاريخ الرواية. نقول هذا وفي ذهننا على أية حال المرة اللافتة التي وجد فيها مبدع سينمائي نفسه يواجه صاحب رواية اقتبسها في فيلم له. وتلك المرة هي التي اقتبس فيها كوبريك رواية "إشراق" لكاتب روايات الرعب الجماهيري ستيفن كينغ الذي سيقول كثر إن فيلم كوبريك حلق بمستوى أدبه الجماهيري إلى ذروة "كان عليه أن يعترف بأنه لم يحلم بها". لكن كينغ لم يفعل. بل فعل العكس تماماً ليكون فريد نوعه بين الكتاب الذين اقتبس منهم كوبريك أفلامه، من ثاكري إلى آرثر سي كلارك ومن أنطوني بارغس إلى آرثر شنيتزلر. ففي النهاية اقتبس كوبريك حقاً أفلامه من كتاب كبار ويفوقون قيمة فكرية ستيفن كينغ حتى ولو تفوق هذا عليهم رواجاً وازدهاراً.
يوم طرح محفوظ سؤالاً ماكراً
وهنا بالتحديد رأى كينغ أن كوبريك حط من قيمته الفنية، و"فهم" روايته فهماً مختلفاً عما فهمها هو. وبالتالي "فإنني لم أر روايتي في فيلمه" كما قال، وراح يدلي بتصريحات ينتقد فيها الفيلم ويحط من قدر مخرجه. لكن هذا بقي صامتاً بل حتى غير مبال تجاه جهل الكاتب بالفوارق بين لغة السينما ولغة الرواية. بل لعل الرد الوحيد العملي على كينغ جاء من الكاتب الإنجليزي أنطوني بارغيس، الذي كان كوبريك اقتبس منه فيلمه السابق "البرتقالة الآلية" عن رواية كبيرة له. هنا وقبل "إشراق" بسنوات، وكما كانت حاله دائماً، "فهم" السينمائي الكبير الرواية على طريقته وأفلمها تبعاً لذلك في فيلمه، ليكون بارغيس أكبر المعجبين بالنتيجة، على رغم أنه بدوره قال إنه بالكاد تعرف على روايته على الشاشة، مضيفاً أن ذلك "أمر طبيعي. فالحقيقة أن علاقة الكاتب بروايته تنتهي يوم يبدأ الناس قراءتها، فيقرأها ويفسرها كل واحد بحسب رؤيته. وفي يقيني أن كوبريك لم يفعل سوى هذا، وأنا أوافقه كلياً على ما فعل. فيلمه يضيف إلى روايتي، أما فهمي الخاص للرواية فموجود دائماً داخل النص الأدبي". من هنا فإن بارغيس رد على موقف كينغ ولو بصورة مواربة. وكان رداً يشبه إلى حد كبير ما قاله لنا الروائي العربي الكبير نجيب محفوظ حين كنا نتحدث على متن "عوامة يوم الثلاثاء" في القاهرة حول أفلمة رواياته، معتبرين أن تلك الأفلام شوهت الروايات، فنظر إلي بمكره اللذيذ متسائلاً: "وهل لديكم الروايات في بيوتكم"؟ فقلنا له: "طبعاً"! فتساءل ضاحكاً: "إذا هل طاولها أي تشويه مس صفحاتها"؟
كوبريك الأفضل في كل الأنواع
طبعاً كاتب من طينة بارغيس أو من طينة محفوظ يمكنه أن يقول هذا لكن الأميركي كينغ كان ذلك صعباً عليه، ومن هنا كانت النتيجة أن أوصل الأمر إلى القضاء. لكن ذلك كله لم يسفر عن نتيجة، ففيلم كوبريك بقي شامخاً يعتبر أعظم فيلم رعب وجنون حققته السينما في تاريخها. وهي تراتبية اعتادتها معظم أفلام كوبريك، إذ كان من شيمه أنه في كل مرة يحقق فيها فيلماً ينتمي إلى نوع سينمائي معين، يعتبر الفيلم من الأفلام الأعظم في تراتبية هذا النوع ("2001 أوديسا الفضاء" بالنسبة إلى أفلام الخيال العلمي، و"لوليتا" الفيلم الأعظم حول جنون الحب، و"دكتور سترنجلاف" الأعظم حول سينما القنبلة النووية والحرب الباردة، و"خطوات المجد" من أعظم أفلام مناوأة الحرب والحض على ترك المعركة احتجاجاً، وطبعاً "رصاصة بغلاف معدني" من أعظم الأفلام التي حققت انطلاقاً من حرب فيتنام). بيد أن هذا كله لم يقنع ستيفن كينغ الذي انتهى به الأمر إلى الدفع باتجاه إعادة إنتاج روايته نفسها في فيلم جديد أحاطه بدعاية كبيرة تعتبره فتح معركة حاسمة لا هوادة فيها بين الأدب والسينما. لقد تحقق الفيلم وعرض. لكن ما من أحد انتبه له. مر مرور الكرام ليبقى "إشراق" ستانلي كوبريك قمة في تاريخ السينما يعتبره النقاد والمؤرخون أعظم فيلم رعب في التاريخ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رقي كاتب إنجليزي
وفي المقابل لم ينس أنطوني بارغيس أبداً أن فيلم كوبريك نفسه، "البرتقالة الآلية"، أطلق اسمه وأدبه في العالم بفضل قوة الفيلم ومكن روايات أخرى كثيرة له من أن تحقق انتشاراً ومكانة كبيرين. وهو تحدث عن هذا الأمر تحديداً بعد سنوات من ظهور الفيلم في عام 1972 في مقالة حدد فيها مكانة الرواية، كما حدد مكانة الفيلم معتبراً الإبداعين معاً عملين كبيرين، قبل أن يحدد إطار كل من النوعين الإبداعيين في عالمه الخاص، مؤكداً أن مشاهدته لفيلم كوبريك مرات ومرات أضفت أضواء كاشفة "ورائعة" على عمله الروائي، إلى درجة أنه راح يتمنى من كل قلبه بعد ذلك أن يخوض كوبريك بل من هم في مستوى كوبريك من جديد تجربة أفلمة روايات أخرى له. ولقد أسر بارغيس يومها بأنه، في أعماقه، حين أعلن كوبريك أنه سيجعل من ملحمة نابوليون فيلمه التالي راح يتمنى أن يقتبس السينمائي الكبير روايته التي كتبها هو عن القائد الفرنسي، لكن كوبريك لم يفعل - ولن يحقق ذلك الفيلم الأمنية على أية حال أبداً - إذ بدا واضحاً أنه كان يريد لفيلمه الـ14 أن يستند إلى سيناريو خاص، لكن التجربة وئدت ومات كوبريك.
(الحلقة المقبلة: بين ج.ج. بالارد وكروننبرغ)