Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هكذا يكون الشعر... مزعجا وعبثيا وجميلا ومحزنا

مختارت جديدة بالإنجليزية ترسم عبر 240 قصيدة رحلة السلوفيني توماس شالمون الطويلة إلى الوضوح

يقال إن محمود درويش قال إن "الوضوح هو أعمق ما لدينا من غموض". وهذا ما يظهر بشدة في شعر شالمون المتأخر (مواقع التواصل)

ملخص

ما كان منه إلا أن عمل مندوب مبيعات في السوق السوداء، ينتقل من بيت إلى بيت يبيع الموسوعات، ومرة طرق باب امرأة عجوز وعرض عليها بضاعاته، فقالت العجوز إنها لا تقرأ إلا لبروست وكافكا وشالمون. قال "أنا شالمون".

يقدم الشاعر الأميركي كريستوفر ميلر مختاراته من قصائد الشاعر السلوفيني توماس شالمون (1941-2014) بقوله إن سلوفينيا هي بلد شعراء، أنصابها التذكارية مخصصة لهم لا لقادة الجيوش، وكثير من ألويتها في الحرب العالمية الثانية حملت أسماءهم، والفئات النقدية عليها صور أشهرهم. ومن أبرز شعراء سلوفينيا عالمياً، وإن لم نعرفه حق المعرفة في العربية، توماس شالمون.

صدر لشالمون حديثاً باللغة الإنجليزية كتاب عنوانه "قبلوا عين السلام: مختارات شعرية، 1964-2024"، عن منشورات "ميلكويد"، وهي من اختيار وترجمة الشاعر الأميركي بريان هنري. وفي مقدمتها يحكي الشاعر الأميركي روسي المولد إيليا كاميينسكي، أن شالمون قضى في السجن خمسة أيام بسبب قطة ميتة في قصيدة، "كان في الـ23 من العمر وكتب قصيدة يصف فيها أبناء بلده بـ(المؤدلجين ذوي الأيديولوجيات العاهرة، والمثقفين المتمرسين ذوي الأيدي المتعرقة، وعمداء الكليات ذوي الخطوم)، فلم يتسبب شيء من هذا في مشكلة. إنما نجمت المشكلة عن قطة ميتة ترد في منتصف القصيدة. إذ كان اسم وزير الداخلية يعني حرفياً (القطة)، فأخذها على محمل شخصي". وحكى شالمون في حوار بعد ذلك أن الوزير "شعر بالإساءة فزج بي في السجن".

 لم تؤهله تلك الأيام الخمسة، حتى في نظر نفسه، لمرتبة الشعراء المناضلين، ففي يوغوسلافيا في تلك الأيام عانى كثيرون معاناة تفوق كثيراً سجن شالمون. غير أن تلك الأيام الخمسة جعلت الشاعر غير مقبول للعمل لدى الحكومة، وكانت أغلب الوظائف في يوغسلافيا حكومية آنذاك، فما كان منه إلا أن عمل مندوب مبيعات في السوق السوداء، ينتقل من بيت إلى بيت يبيع الموسوعات، ومرة طرق باب امرأة عجوز وعرض عليها بضاعاته، فقالت العجوز إنها لا تقرأ إلا لبروست وكافكا وشالمون، فقال "أنا شالمون".

مركز الدائرة

لا يورد كاميينسكي كثيراً من أمثال هذه الحكاية في مقدمته التي يخصصها لمناقشة افتراضات شاعت عن الشاعر في بلده وفي الولايات المتحدة التي تعرفه منذ عقود كثيرة بوصفه أحد الشعراء الأوروبيين البارزين منذ أواخر القرن الـ20 وحتى وفاته.

أخلص شالمون للشعر على مدار حياته، فلا أحسب أني صادفته موصوفاً بغير الشاعر. وهو من أغزر الشعراء إنتاجاً. يقول كاميينسكي، "سمعت بأرقام مختلفة تشير إلى عدد الكتب الشعرية التي نشرها شالمون. فبعضهم يقول 48. وبرايان هنري، مترجم الشاعر منذ أمد بعيد، يقول إن شالمون نشر 52 كتاباً مفرداً، لكن ماذا يكون كتاب أو اثنان أو ثلاثة بين أصحاب؟".

 

 

وشالمون أيضاً حاضر بمختارات صدرت مرات كثيرة من قبل باللغة الإنجليزية، وفي الولايات المتحدة نفسها، لكن الكتاب الأخير يمتاز عن الكتب السابقة، إذ يقول برايان هنري في حوار مع مجلة "بلاكبيرد"، "علمت منذ البداية أنني أريد أن أدرج ما لا يقل عن قصيدة واحدة من كل كتاب في كتبه السلوفينية من أجل أن تكون شاملة، وأيضاً لأن مجلد مختاراته السابق (أسئلة الحزن الأربعة)، الصادر عام 1997، لم يمثل إلا نصف أعماله متوقفاً عند كتابه الـ26. ولكن إدراج ما لا يقل عن قصيدة من الكتب الـ52 كان يعني أيضاً أن أقلل عدد القصائد التي يمكنني إدراجها من أي كتاب. فقررت أن ألزم نفسي بألا أتجاوز 10 قصائد من الكتاب. وفي (قبلوا عيني السلام) 240 قصيدة، وإذاً فكل كتاب ممثل بما بين أربع قصائد وخمس. لكنني ترجمت أكثر كثيراً من 240 قصيدة. ترجمت إجمالاً 800 قصيدة، وقد يبدو هذا كثيراً إلى أن نأخذ في الاعتبار أن شالمون نشر أكثر من 4 آلاف نص".

"مرت عملية الاختيار عندي بأطوار عدة. الأولى هي قراءة جميع كتبه المتاحة بالإنجليزية وإعداد قائمة بالقصائد التي أرغب في إعادة ترجمتها. كان من القصائد ما ينبغي بوضوح أن يدرج من قبيل (يونان) و(هو من هو) و(تاريخ) و(أغنية شعبية)، لكنني حاولت أيضاً أن أحدد قصائد قد تفيدها الترجمة. ثم مضيت عبر الكتب الـ52 في السلوفينية، وقمت بترجمات أولية لكل قصيدة، وهي مسودات شديدة الأولية. واتخاذ قرار بالقصائد التي تتم ترجمتها ترجمة كاملة كان الطور التالي. ثم راجعت ترجماتي جميعاً وتدريجاً ضيقت الاختيار. وانتهيت إلى حذف قصائد كثيرة أحببتها".

حرص بريان أيضاً على أن يقدم صورة كاملة لأسلوب شالمون الشعري، وإبراز جوانب في شعره لم تظهر من قبل في كتبه المتاحة بالإنجليزية، وبما أن في الكتاب الجديد 100 قصيدة لم تترجم من قبل إلى الإنجليزية، فالمختارات الحالية تتسع لقصائد "شخصية صريحة، وقصائد سياسية صريحة"، ومن اطلع على شعر شالمون في الإنجليزية بالذات لا بد أن يشعر بشيء من الفضول تجاه هذه القصائد الشخصية والسياسية، فشعره المعهود يبدو في العادة هازلاً، أو لنقل مرحاً أو لاعباً، وعلى رغم عدم رضا المرء عن هذه الصفات الثلاث جميعاً، ولا عن أمانتها وكفاءتها في وصف شعر شالمن، فهي جميعاً تنأى به عن الجدية اللازمة في الشعر الشخصي أو السياسي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يكتب كريستوفر ميلر في مقدمة مختارات صدرت بالإنجليزية بعنوان "أسئلة الحزن الأربع"، قائلاً إن شعر شالمون "ارتجالي وسريالي في آن واحد، وما هو بشيء إن لم يكن قائماً على اللعب، شأن وسيط اللغة ذاته، الذي يعبر عن نفسه مباشرة في الشعر والطرفة". ويكتب هنري برايان أن من الصعب للغاية وصف شعر شالمون بسبب غزارته الهائلة وصفاً واحداً إلا و"يشوهه ويستبعد منه قسماً غير قليل. فمثلاً، درج وصفه روتينياً بالشاعر (الطليعي)، وهو وصف صحيح من وجوه كثيرة، لكنه وصف غير مضيء بصفة خاصة أو نافع. فبعض أفضل قصائده مباشر، سواء أهو سيري أم سردي أم وصفي. لكن لو أن لي أن أصف شعره بصفة واحدة فسألجأ إلى (المزعج). فقوام شعره الإزعاج في التركيب والمنطق والقالب الشعري والمنظور والإحساس بالذات والأفكار المعهودة الخاصة بالزمان والمكان. لكنه دائم الحضور في قصائده، في مركز الدائرة".

في معنى البلقنة

يكتب إيليا كاميينسكي أن توماس شالمون ولد في 1941، وعند ذلك "تعرض بلده يوغسلافيا لغزو قوات المحور بقيادة النازيين، وعانت حربين عالميتين ومن فاشية ومن شيوعية، وانسحقت وسط أوروبا انسحاقاً. وعلى مدار عمر الشاعر، مرت يوغوسلافيا بسلسلة أزمات سياسية مروعة: منها رئاسة تيتو الطغيانية الممتدة لعقود حتى نهاية عمره، والانكماش الاقتصادي في الثمانينيات، والصراعات العرقية واسعة النطاق التي بلغت ذروتها في حروب البلقان وتفكك يوغوسلافيا. تخيلوا عالماً يمكن أن يكشف فيه نطقك لكلمة (الخبز) أن لك هوية خاطئة فتفضي بك إلى القتل. تخيلوا أن تروا اسم موطن ميلادكم، أي البلقان، وأصبح مصطلحاً يعني التفجر السياسي، أي (البلقنة) التي تعني في الكتابات السياسية التفتت وانقسام الدول الوطنية إلى دويلات".

يرمي كاميينسي من هذا العرض السياسي إلى تبرير شعر شالمون، فيكتب قائلاً إن "النقاد يصنفونه شاعراً صعباً وشذرياً وعبثياً وسريالياً، لكن هذه الصعوبة في الأسلوب حدثت في لحظة (صعوبة) تاريخية واجتماعية وسياسية فائقة. لا يصعب أن نتخيل أن التشذير في شعره يعكس التشذير في وطنه، بل لعله تشذير هوية كل  شخص في بلده. وليس القصد من ذلك هو القول إن كل عبثي لا بد أن يكون واقفاً قبالة بناء يحترق. وإنما القصد هو القول إننا يجب أن نفتح أعيننا لنرى لو أن مبنى يحترق بالفعل من وراء العبثي الذي نقرأ شعره. ولو أن الأمر كذلك فهل من مستوى آخر كامل من المعنى غائب عنا؟ بخاصة أن شالمون قال إن (خلفيتي الفوضوية تتبدى في لغتي)".

 

 

في حوار مجلة "بلاكبيرد" يشير برايان هنري إلى نطاق عريض من التأثيرات في شعر شالمون، قاطعاً بتأثير السرياليين بالذات، والشاعرين الأميركيين جون آشبري (وبخاصة كتابه "ثلاث قصائد") وفرانك أوهارا، والجيل الثاني من شعراء مدرسة نيويورك، فضلاً عن تأثيرات مبكرة للرومي ووليم بليك ووليم كارلوس وليمز وبعض الشعراء الروس المتوقعين وشعراء من شرق أوروبا من بينهم فاسكو بوبا. ويرصد هنري تطوراً في مسار شالمون الشعري على مدار العقود والكتب، "ففي البداية كان أكثر نزوعاً إلى التجريب. لكن حتى في تلك الفترة كانت له قصائد مباشرة نسبياً وقصائد كثيرة في قوالب ثابتة من قبيل الرباعية، لكنه كثيراً ما كان يدخل ابتكارات على تلك القوالب. وطالما غاصت قصائده في السيري، وبصورة مباشرة في بعض الأحيان. وفي العقد الأخير له سيطر قالب الثنائي، وبخاصة في قصائد تألفت إحداها من سبعة مقاطع ثنائية الأبيات. لكن حتى في هذه القصائد التي قد تبدو أكثر تمسكاً بالأعراف الشكلية، بقي شالمون على جموحه وقوته الخيالية المعهودة على مدار حياته الكتابية. فلم تفقد قصائده إدهاشها قط، ولا خفتها، ولم يضق قط نطاق اهتمامه".

عندما اختار بريان هنري قصيدة واحدة من بين كل ما ترجمه من دواوين شالمون ليكتب عنها ضمن سلسلة "ما الذي يطلق شرارة الشعر؟" في موقع "poetry daily" (أي الشعر يومياً) الأميركي، اختار قصيدة عنوانها "سوترا":

ما البحر؟ البحر الجبهة.

ما الجبهة؟ الجبهة الليل.

ما الرمل؟ الرمل الفجر.

ما الفجر؟ الفجر الملك.

الملك الرجل الملقب.

الرجل الملقب يحمل العبء.

ما الكيس؟ الكيس القمامة.

ما القمامة؟ القمامة الساقية.

ما اللون؟ اللون الغاز.

ما الغاز؟ الغاز الطفل.

الطفل يعانق الإنجيل.

الطفل يحطمه.

ما الحمل؟ الحمل بهجة.

ما البهجة؟ البهجة باخ.

ما الحكمة؟ الحكمة الصمت.

الحكمة الرقم أربعة.

الرقم أربعة مصلوباً

الرقم أربعة محاصراً.

والـ"سوترا" (Sūtra) حرفياً هي الخيط الذي تنتظم من خلاله أشياء مختلفة، لنتخيل مثلاً خيط المسبحة أو العقد، وهي في الأدب مجموعة من المقولات القصيرة الكثيفة. وتشير الكلمة في الهندوسية إلى نوع أدبي يقوم على العبارات الحكمية الوجيزة، ويرمي إلى تقديم نصوص يسهل حفظها على طلبة بعض المدارس الدينية. غير أن هذه الصلة الدينية لم تمنع القالب من أن يكون مطية لظهور كتاب من أشهر كتب الحب في العالم وهو المعروف بالـ"كاماسوترا".

تفاعل الأسئلة والإجابات

أعترف شخصياً أن كثيراً من العلاقات في هذه القصيدة خفي علي. ولكنني لا أعتقد أصلاً أن الطريق السليم إلى التعامل مع هذه القصيدة هو استكشاف العلاقات. فما العلاقة بين البحر والجبهة حتى يكون البحر الجبهة؟ وما العلاقة بين الجبهة والليل حتى يجرؤ أحد أن يعتبر الجبهة الليل؟ وهل من الصواب أن نجرب مثلاً وضع كلمتي البحر والجبهة في محرك "غوغل" البحثي عسى أن نعثر على سياقات تجمع الكلمتين؟

يدرج هنري هذه القصيدة ضمن ما يسميه الحواريات في شعر شالمون، متصوراً من السؤال والجواب أن ثمة شخصين، ويمضي قائلاً إن "تصادم الصوتين قد يكون مزعجاً وعبثياً وجميلاً ومحزناً، وإن هذه هي سمات شعر شالمون بعامة. لقد استلبني تفاعل الصوتين ومخاتلة بعض الإجابات. وأذهلني إمكان أن لا يعمل السؤال في قصيدة مثلما يعمل السؤال في غيرها، ولا إجابة السؤال. وعلى رغم حضور صوتين فإن هذه القصيدة وأمثالها عند شالمون تنقل إحساساً بالوحدة، وكأنما هذا التفاعل بين الصوتين يجري عن بعد شاسع. وعلى رغم أن عنوان "سوترا" يشي بعرض معرفة وحكمة، فشالمون مهتم بالتفاعل بين الأسئلة والأجوبة أكثر من اهتمامه بإرضاء التوقعات المنتظرة من الـ(سوترا) التقليدية".

 

 

والحقيقة أن هذه القصيدة من أكثر ما قرأت لشالمون تعبيراً عن نهجه في الشعر، وهي ذات عنوان مشرقي واضح، لكنها أوروبية على رغم أنفها، وإن لم تكن أوروبية شرقية شأن شالمون، وإنما أوروبية غربية. فالوشيجة بينها وبين فرنسا والسريالية، أوثق من الوشيجة بينها وبين الشرق، شرق أوروبا، ناهيكم عن الشرق الهندي. ولو أننا تغاضينا عن العنوان فقط لرأينا أنفسنا أمام قصيدة مماثلة للتي نجدها عند الشعراء السرياليين، وكان من أيادي السريالية البيضاء على الأدب، والدادية من قبلها، أن قدمت بضع ألعاب كتابية لا يزال الشعراء يلجأون إليها بين الحين والآخر، ومن هذه الألعاب لعبة الأسئلة الناقصة، إذ يطرح شاعر على آخر سؤالاً يكتم منه كلمة: ماذا تكون الـ...؟ فيجيب الشاعر الثاني بقوله مثلاً "سكينة في يد مخمور". والآن لو أن الكلمة الناقصة في السؤال هي "السعادة" تكون الصدفة قدمت لنا هذه الهبة، "السعادة سكينة في يد مخمور".

في تقديري أن جمال هذه الألعاب هو أن تبقى ألعاباً يحتفظ بها الشعراء لأنفسهم، ولا تظهر إلا في كتب عنهم من دون كتبهم، ويبدو أن شالمون رأى غير ذلك في كثير مما كتبه. لكن لعل هذه النزعة خفتت بمرور الوقت.

يكتب إيليا كاميينسكي أن سمة اللعب في شعر شالمون تبدلت في نهاية حياته، وأن هذا من أهم ما كشفته له مختارات بريان هنري. يكتب كاميينسكي، "يقال إن محمود درويش قال إن (الوضوح هو أعمق ما لدينا من غموض). وهذا ما يظهر بشدة في شعر شالمون المتأخر الذي تظهر فيه صور غريبة بقدر ما هي واضحة، وانظروا على سبيل المثال:

عظامي الصغيرة
تحب عظامك الصغيرة.

إحساس هائل.
تنبت الأزهار فوقنا.

ويخطو الناس.
بعضهم بأحذية مبلولة.

يوقدون الشموع ويقبلون الشفاه.
كم هي جذابة.

عظامنا الصغيرة، بومات صغيرة تامة.
من ينبش الأرض إليها

لا تروعه.
قداستها تطمئنه.

العنوان: Kiss the Eyes of Peace: Selected Poems 1964–2014 by Tomaž Šalamun

ترجمة وتحرير: Brian Henry

الناشر: Milkweed Editions

المزيد من كتب