Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مختارات تضع القصيدة الفلسطينية في واجهة الشعر الراهن

إضاءات على أجيال من الشعراء ومسيرتهم بالكلمة والروح

لوحة للرسام الفلسطيني إسماعيل شموط (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

حمل الشعراء الفلسطينيون القضية الفلسطينية الى مصاف القضايا الإنسانية العالمية الكبرى، وكتبوا بلغتهم وبدمهم احياناً، ملحمة الشعب الذي هجّر من أرضه وتشرد في بقاع المعمورة. لكنّ الشعر كان وسيلة مهمة في مواجهة الاحتلال أيضا.

على وقع ما يجري اليوم في فلسطين عموماً، وغزة ورام الله خصوصاً، وعلى وقع المأساة الإنسانية العظيمة، يفاجئك طفل في الثامنة من عمره، وهو فلسطيني ممن جرى تهجير أجداده من فلسطين عام 1948 ثم 1967 ويعيش في عمّان، بنص قصصي يرى فيه القتلى والضحايا في الشاشات، لكنه يرى أن "فلسطين ظلت تقاتل"، فهو يرى المأساة بقتلاها وضحاياها وخراب بيوتها، لكنه يرى المواجهة أيضاً، يراهما معاً، وفي آن واحد.

أسوق هذه المقدمة للتأكيد على عمق ارتباط الفلسطينيين، بمن في ذلك أطفالهم، بقضيتهم وما يجري لها وعليها، كما أننا في صدد الاستماع إلى الأصوات التي تعلو هناك، أصوات من يمتلكون القدرة على التعبير عن المأساة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. ومن وسط تلك المذبحة تخرج صرخات وترتفع أرواح لمبدعين في شتى مجالات الإبداع، ونتحدث ببساطة عن عشرات الشعراء والكتاب والرسامين والصحافيين الذين راحوا ضحية الحرب الأخيرة، ونجمع أصواتهم من هنا ومن هناك.

وإلى ذلك نرصد أصوات مبدعين عبّروا عن المأساة المتواصلة منذ أعوام، وخصوصاً ما يتعلق بالمجاميع (الأنطولوجيات) الشعرية التي صدرت حاملة أصوات الضحايا.

عن غزة التاريخ والإبداع

لسنا في حاجة إلى أن نراجع تاريخ غزة الممتد لآلاف السنين، ويكفي أن ننظر إلى مبدعيها في 100 عام مضت لنرى كم قدمت للإبداع، فحين نقول غزة الأمس نستحضر أولاً الشعراء المؤسسين الأوائل، بدءاً من هارون هاشم رشيد (1927- 2020)، صاحب قصيدة "سنرجع" الشهيرة التي غنتها فيروز:

 سنرجع یوماً إلى حینا/ ونغرق في دافئات المنى

سنرجع مهما یمر الزمان/ وتنأى المسافات ما بيننا

ونسترجع معين بسيسو (1928- 1984) صاحب المقولة "علمتني الزنزانة السفر لمسافات بعيدة، وعلمتني أيضاً الكتابة لمسافات بعيدة، فالسجين دائماً يسافر بيده في الماء، ويحاول الكتابة بصوته"، وبدءاً من "ديوان المعركة" وكثير من الشعر والمسرح والسيرة، وخصوصاً قصيدته ذائعة الصيت والشهرة:

أنا إن سقطت فخذ مكاني/ يا رفيقي في الكفاح

واحمل سلاحي لا يخفك / دمي يسيل من السلاح

كما لا ننسى الفنان إسماعيل شموط وزوجته الفنانة تمام الأكحل اللذين انتشر صيتهما منذ خمسينيات القرن الـ 20 في غزة والقاهرة والعالم العربي، ولا تزال أعمالهما محل اهتمام فلسطيني وعربي وعالمي.

مختارات شعرية حديثة

أما إبداعات الزمن الراهن، والعقدين الأخيرين في هذا الزمن تحديداً، وفي مجال الشعر خصوصاً، فيمكن أن نرصدهما في عملين كبيرين يجمعان أبرز الأصوات الشعرية. نرصده ما بين أنطولوجيا ثنائية اللغة، عربية/ فرنسية بعنوان "أن تكون فلسطينياً" (26 شاعرة وشاعراً)، التي أنجزها الشاعران المغربيان عبداللطيف اللعبي وياسين عدنان، وبين أنطولوجيا "غزة أرض القصيدة" (17 شاعرة وشاعراً) أنجزها ابن غزة الشاعر محمد تيسير، نستطيع القول إن الشعر الفلسطيني عموماً والشعر في غزة بخاصة يشهد تطوراً ملحوظاً على غير صعيد، وتحديداً على مستوى الأصوات الجديدة التي ظهرت خلال الأعوام الـ 20 الأخيرة، وما قدمته وتقدمه من مقترحات مختلفة تتطلب دراسات نقدية جادة.

في كتاب الأنطولوجيا المشتركة مع ياسين عدنان يصبو اللعبي صاحب "مجنون الأمل" إلى فتح "الراهن الشعري الفلسطيني" على المستقبل ما أمكن، في حين يسعى ياسين إلى "الانفتاح على جيل أحدث"، وفي حين تضم هذه المختارات شعراء لهم صيت عربي وحضور دولي، فإنها تضم أيضاً "أصواتاً لا تزال قيد التخلق وأخرى لا يتجاوز حضورها الشعري صفحات "فيسبوك"، لكن العبرة بطراوة التجربة وقدرتها على فتح الشعرية الفلسطينية على أفق جديد قد يبدو لبعضهم ملتبساً مشوشاً، لكن الخطو باتجاهه حُر جريء".

ترصد أنطولوجيا "أن تكون فلسطينياً" بعض التحولات في مسيرة الشعر الفلسطيني، فشعراء هذه الأنطولوجيا "يكتبون بلا أوهام، هكذا ببساطة، ومن دون أن يدّعوا الدخول في مشاريع كبرى، فحتى صورة الشاعر لا تغريهم، كما أن لقب الشاعر لن يفعمهم بالزهو في فضاءات عيشهم الواقعية منها والافتراضية على حد سواء، أما البلد فالقصيدة أبسط من أن تدل عليه"، وهم في ذلك يختلفون عن درويش مثلاً، خصوصاً حين أعلن صاحب "عاشق من فلسطين": "سجل أنا عربي ... أنا اسمٌ بلا لقب".

 ولعل ما يقصده ياسين في إعلانه هذا يرتبط باختلاف الوعي والمنظور تجاه الهوية والقضية، وهنا يبدو الاختلاف مع واحدة من شاعرات الأنطولوجيا، إذ تقول كوليت أبو حسين: "أطلقوا علي اسمي مثل رصاصة/ انتزعته من أفواههم/ وسميتني".

كوليت التي باكراً "صعدت بخفة نحو الموت"، "كلنا أبناء الموت" أعلنت، ثم إن "قلبي مقبرة جماعية"، فيما تختزل جمانة مصطفى القضية في اسم صغير نابض يجر مقبرة عائلية: "مات جدي حيث ولد/ ومات أبي حيث ولدنا/ صار اسمي الثلاثي حياً يجر أمواتاً".

وفي الأنطولوجيا الثانية، "غزة أرض القصيدة"، اختيار وتقديم ومساهمة شعرية من محمد تيسير، نقرأ في المقدمة غبطة بالهوية "يا لها من نعمة أن تكون شاعراً فلسطينياً، وفلسطينياً شاعراً"، ورغبة في معانقة أصحاب القضايا المتعالقة مع قضية الفلسطيني مثل الهندي الأحمر والكردي، ثم نتلقى نصوصاً تتفاوت في مستوى قربها وبعدها من الجحيم الغزي والفلسطيني عموماً، فهي أصوات تأتي من الداخل ومن المنفى، لكنها جميعاً تصب في حال الصراخ نفسه، صراخ ضد الجحيم والموت والاغتراب بأشكاله، ومع الصراخ أسئلة جارحة عن هزيمة الإنسان الفرد والجماعة، هزائم لأسباب وجودية ربما، لكن الهم الوجودي لا ينفك عن الوطني.

لعل هذا العدد من الشاعرات والشعراء، على اختلاف مشاربهم ونتاجاتهم، يلتقون جميعاً في التعبير الصارخ عن رفض الموت في أشكاله وصوره المتعددة، وقد تتفاوت مستويات النصوص ويختلف منسوب اللغة بين الهمس والصراخ وتتعدد الأساليب في تناول القضايا والهموم، فنحن حيال مستويات من الاشتغال الشعري، منها الإنساني الفردي البحت المعزول عن المعالجة المباشرة والصارخة للهم الجماعي الوطني، ومنها ما يمزج هذا الهم الفردي بالجماعي، فيرى فيهما هماً مشتركاً ومترابطاً.   

وليس غريباً أن نلمس شيئاً من الضياع لدى بعض شعراء هذا الجيل، ضياع يعبر عن رغبة في الوصول إلى إجابات على أسئلة ملحة، لكنها ضاربة الجذور في الماضي القريب والبعيد، فكيف يمكن لإنسان مهزوم أن يكون طبيعياً أو سوياً؟ هذا سؤال قد يعبر عنه ويطرحه شاعر أو  شاعرة في صيغة ما، كأن تمتزج المشاعر، ففي لحظة يتمنى الشاعر لحظة حب فتأتي ممزوجة بالهزيمة "أن نرقص متحدين، أنا في الهزيمة وأنت في ظلها"، وفي لحظة نراه يعلم أطفاله "أن يطيعوا رغباتهم".

وعلى رغم ما تتسم به غالبية هذه الأصوات من قلة النضج إلا أننا حيال قاموس ومفردات وصور مشتركة ومتشابهة، السلاح واللون الأحمر والموت المجاني والقتيل والجريح والمجزرة والاعتداءات، وتكرار لصور الضحايا وخصوصاً الأطفال الذين لم يكونوا أرقاماً، بل إنهم كانت لهم أسماء وعيون وشهادة ميلاد في بداية نموها، والقاموس نفسه تقريباً مع شذوذ قليل هنا أو هناك، الذكريات نفسها، الحب ذاته في مواجهة الموت وأشكاله المختلفة، ومع التشابه في المشهد يختلف شكل التعبير كما تختلف درجة حرارة العبارة.

ولعل من الطبيعي، وإن لم يكن مفهوماً، قول شاعرة:  "حيوات عديدة في رأسي: تمثال عظيم لإله اختفى، عرابة لشاعر يعمل في الطوبار، يلقي الشعر وهو يبكي، أعيدوا طيني الأول إلى البيت.. مدد يا حلاجي". هنا شكل من أشكال البوح والتجليات الصوفية، لكنها صوفية أرضية وجودية وليست إلهية أو سماوية، وطبيعي ومفهوم هذا الصوت لشاعر يقول:

"عندما تنتهي الحرب/ سآخذك إلى مطعم فاخر/ لن نحاف الموت كثيراً/ تحت القصف سنكون أبطالاً/ لكن عندما تنتهي الحرب/ سأدعوك إلى حفلة راقصة/ سنكون وحيدين/ ولن تصحبنا قذيفة مباغتة/ ولن تفجعنا لوثة الطائرة/ الحرب قاسية/ لكنها تدفعني لأحبك أكثر".

أو قول شاعر آخر: "منهك يا رفيقي/ وأشعر كما يشعر سكان الدور العاشر في عمارة ستنهار بعد ثوانٍ".

وأختم بما قرأت في المختارات من الأصوات التي تستحق الوقوف، بصوت الشاعرة والكاتبة المكافحة فاطمة محمود أحمد، فهي سيدة من غزة نجت من ميتات عدة، وهي كما يصفها مقدم المختارات "حواء غزة، وجه فلسطين الذي لا يشيخ"، وهي تبوح بالعادي البسيط: "بعيداً عن مطاردات الحداثة/ اخرج ممن عالمك وتخيل مشهد البحر/ أجنحة النوارس تتابع الموج/ ابحث عن فضاء تتلمس فيه خطاً للأفق/ تصرخ بنفس الثوار لتشعر أنك لا زلت إنساناً/ كل شيء هنا تحت نعال الجلاد/ كل عين فلسطينية فوهة بندقية".

ولما كان الحديث كله هنا عن الإبداع في ظلال حروب سابقة ربما، فإن نصوص غزة التي تحفل بها المنابر ومواقع التواصل الاجتماعي تحتاج إلى وقفة مختلفة تتناول تفاصيل المشهد الذي ترسمه النصوص الجديدة الطالعة من جحيم المجزرة المروعة، ومن بين الأنقاض يأتي أخيراً صوت يحيى عاشور في قصيدته "غزة في الحصار" التي ترسم الحال النفسية لمن يعيشون رعب الحصار والمجزرة، يقول:

"مرة نظن

أننا في مركب

والعالم كله من حولنا سمك

وفي مرة أخرى نرى

أننا لسنا سوى غابة

والعالم كله من حولنا قناصة

عندما يسقط صاروخ

قرب بيتي

أتمنى

رغم عجلته غير المبررة

لو يلاحظ

أنني منكمش منذ زمن

في قبر

حفره الخوف

عندما يسقط الصاروخ

أقول أخيراً سأموت

لكنه الموت لغرابة حظي

لا يعجبه الموتى الجاهزون".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة