Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ترميم أم تشويه؟ آثار مصر تبحث عن ملامحها

استخدام مواد غير ملائمة والاعتماد على شركات مقاولات ليست متخصصة وانخفاض مهارة المرممين وعدم الاهتمام بالبحث العلمي أبرز الأسباب

مصريون أثناء ترميم قصر البارون إمبان في مصر الجديدة بالقاهرة (أ ف ب)

ملخص

"تمثال رمسيس الثاني بطنه منتفخ، قصر البارون ألوانه زاهية، وهذا المسجد فقد أثريته بإزالة زخارفه ونقوشه"... فهل تراجعت كفاءة المرممين المصريين؟

"تمثال رمسيس الثاني بطنه منتفخ، قصر البارون ألوانه زاهية، وهذا المسجد فقد أثريته بإزالة زخارفه ونقوشه"، بتلك التعليقات عبّر فريق من الأثريين المصريين عن اعتراضهم على الأساليب المتبعة أخيراً في أعمال الترميم، مطالبين بالاعتماد على "الدراسات الاستشارية"، واستخدام "مواد تتوافق مع طبيعة الأثر الأصلي".

وكلما انتشرت صور تتعلق بمعالجة تماثيل أثرية أو مبان وقصور تاريخية، أو مواقع مُدرجة على قائمة التراث العالمي، تتصدر المبارزة الكلامية بين فريق يرى في هذه الأعمال تشويهاً للآثار، وآخر يقدم مبررات تدعم موقفه، مفنداً إياها للرأي العام دفاعاً عن المشروعات التي حظيت بجدل واسع.

وفي مدخل أحد أهم المناطق الأثرية المدرجة استقر تمثال رمسيس الثاني ببطنه البارز، محاطاً بتماثيل أخرى أعيد ترميمها بالأسلوب نفسه، مما يثير حفيظة المهتمين بقطاع الآثار المصرية، بخاصة بعد انتشار صور حديثة تُظهر تأثر أحد هذه التماثيل بعوامل التعرية.

وعلى صفحته الشخصية بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، انتقد محمد عبد المقصود، الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للآثار، صورة منتشرة حديثاً تظهر أحد تماثيل معبد الأقصر، المُدرج على قائمة التراث العالمي "يونسكو"، يبدو متأثراً بعوامل التعرية. داعياً إلى "سرعة إزالته"، وشملت التعليقات مطالبات بتشكيل لجنة تحقيق لمراجعة جميع أعمال الترميم والصيانة، بما يتماشى مع المعايير الدولية الحديثة.

وبين فريقٍ منتقد وآخر يدافع عن الأساليب المتبعة في إنجاز صيانة ومعالجة الآثار، تبقى التساؤلات المتعلقة بمدى ملامة مواد الترميم المستخدمة بطبيعة الأثر الأصلي مُلحة. وبحسب متخصصين تحدثوا إلى "اندبندنت عربية"، فإن أعمال الترميم تتطلب "مهارة خاصة" من العاملين بهذا المجال، وإلماماً بتخصصات مختلفة، لتفادي استخدام مواد مضرة للأثر على المديين القريب والبعيد.

مواد محظورة

يؤكد المتخصص الدولي في مجال الترميم، حجاج إبراهيم، الذي كان عضواً سابقاً باللجنة الدائمة بوزارة الآثار المصرية، في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، أن بعض أعمال الترميم "لا تتماشى مع المعايير الدولية والاشتراطات المتعلقة بمعالجة وصيانة الآثار". مستذكراً بعض الوقائع التي استندت إليها وجهة نظره منها "استخدام مادة البارالويد بكميات مفرطة (مادة لاصقة تستخدم لتقوية الأثر) في منطقة بوتو بكفر الشيخ". لافتاً إلى أن المرممين "دهنوا التماثيل باستخدام المادة بدلاً من رش مناطق محددة منها، ما ألحق أضراراً بها".

وكذلك ينتقد حجاج، الحاصل على دكتوراه بعنوان "صناعة الألوان والأصباغ والأحبار في مصر حتى نهاية أسرة محمد علي"، الأسلوب الذي اتُبع في ترميم قصر البارون، "الترميم جرى بألوان كيماوية. الأصح أن تكون طبيعية، لتفادي وتجنب الأضرار التي تشمل تغير اللون أو تأثره بالظروف الجوية". مؤكداً أن الألوان الطبيعية "تكون مشتقة من مصادر نباتية أو حيوانية أو ترابية، وأكثر ملاءمة عند الاستخدام في الترميم الأثري".

وتعقيباً على هذه الانتقادات التي يسوقها حجاج وأثريون آخرون لم يتقبلوا المظهر الجديد للقصر المعاد ترميمه دافع محمد عطية هواش، أستاذ قسم الترميم بكلية الآثار جامعة القاهرة واستشاري الترميم بقصر البارون عن هذا المشروع المعاد ترميمه، وقال لـ"اندبندنت عربية"، "فريق الترميم اعتمد على التحاليل اللازمة في جميع خطط العمل، وقبل البدء بأي تدخل". مشدداً على أنهم "اعتمدوا على دراسة شاملة لتحليل الأثر الأصلي أعدّها مكتب مصر للاستشارات".

 

وحول الانتقادات، التي طاولت أعمال الترميم بسبب تغير شكل القصر، ردّ هواش، وهو خبير في "الترميم الدقيق"، "البعض يحكم على الأمور بناءً على ذاكرته البصرية الحديثة من دون الرجوع إلى الشكل القديم لقصر البارون، الذي هو بالأساس تراث هندي بُني بمحاكاة بيوت (الراجبوت)، تعني الملوك، واللون الأحمر القرمزي كان العنصر الأساسي الخاص بهذه المنازل".

ومضى هواش، "قصر البارون كان أول مبنى في مصر يستخدم الخشب الصناعي منذ 112 سنة، واستخدم في بنائه مضخات الألوان والرش للمرة الأولى، لذا اهتممنا بإحياء أصالة المبنى الأثري والقيم الجمالية من دون الالتفات لردود الفعل".

وانتشرت صور لقصر البارون على مواقع التواصل مطلع العام الماضي، أظهرت بقعاً داكنة في جدران واجهة القصر، وعلق مصطفى وزيري الذي كان يتولى منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، بأنها كانت نتيجة تساقط الأمطار، مما أدى إلى ظهور بقع أملاح وظهور أجزاء رطبة بالجدران.

لكن حجاج اعتبر أنها ليست المرة الأولى، التي تستخدم فيها ألوان كيماوية في أعمال الترميم، مؤكداً اتباع الأسلوب ذاته في مقبرة جد أمون بالواحات البحرية، مما أدى إلى "تأثر المقبرة بعوامل الطقس واختفاء ألوانها الجديدة". ناصحاً بضرورة اختيار مواد الترميم بعناية فائقة، كي تضمن الحفاظ على الأثر لأطول وقت، مع التفريق بين المواد المستخدمة في الترميم الدقيق وغيرها من مواد الترميم المعماري.

مهارات مفقودة

العمل في مجال الترميم يتطلب مهارات متعددة، بحسب ما أكده مهران أنور، أستاذ مساعد في معهد الآثار والترميم بالإسكندرية، منها إلمام المشتغلين بمجال الترميم بمجموعة من التخصصات، مثل الجيولوجيا والكيمياء والفيزياء، لأهميتها في تحليل المواد، وتقدير مدى تحملها ومقاومتها للتآكل. مؤكداً أن علم المواد يتطلب الاستفادة من جميع العلوم الأخرى، مثل أساليب استخدام مواد كيماوية لتقوية أو تنظيف الآثار، شريطة توافقها مع المواد الأصلية للأثر كضمانة للحفاظ على سلامته.

ويلفت مهران إلى أحدث الوسائل التكنولوجية في أعمال الترميم، التي تتطلب دراية من الأثريين مثل علوم الليزر والنانو تكنولوجي من أجل تحسين الجودة، موضحاً "العملية تخضع لقوانين ومبادئ محددة، تعتمد في المقام الأول على مهارة القائم بأعمال الترميم، ومدى استيعابه وفهمه للقيمة التي تحظى بها القطع الأثرية".

ويضيف، "علم المواد مجال متجدد، يلعب دوراً حيوياً في الترميم، سواء عبر استخدام مواد عضوية، أو تلك التي يجري تصنيعها، والترميم ليس عملية تقنية فحسب، بل مزيج من العلوم والتكنولوجيا والمهارة الفنية، تبدأ بدراسة دقيقة في المعمل، الذي يقرر صلاحية المواد المستخدمة. وفي حالة حدوث خطأ، يكون المعمل هو المسؤول عن الخامة المعتمدة، وليس المسؤول عن الترميم".

أما هواش فعاد ليؤكد أهمية إبرام عقود صيانة ترافق عقود المقاولة الخاصة بأعمال الترميم، موضحاً أن موازنة وزارة الآثار "لا تسمح بتطبيقها" على جميع المشروعات، بسبب كلفة هذه العقود. متطرقاً إلى أهمية تلك العقود التي تضمن إجبار شركات المقاولات على إعادة الترميم في حالة حدوث أي تلف.

وأوضح هواش أن الاتحاد المصري للتشييد والبناء يضم تصنيفات، منها مقاولات ترميم وصيانة الآثار، مما "يستدعي إجبار شركات المقاولات على تعيين ما لا يقل عن ثلاثة مرممي آثار ومهندسين سبق لهم العمل في مشروعات أثرية، لتجنب الأخطاء"، واضعاً يده على مشكلة متمثلة في "اعتماد شركات المقاولة العاملة في مجال الآثار على تحقيق الأرباح، وبعض المواد المستخدمة في الترميم بحاجة إلى وقت انتظار طويل تفادياً للأخطاء".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ضعف التدريب والبعثات

وأبدى مدير المتحف المصري سابقاً سيد حسن لـ"اندبندنت عربية"، قلقه إزاء "تكليف مقاولات غير متخصصة" في هذا المجال، مما يؤدي إلى استخدام أساليب غير ملائمة وغير متناسبة مع القطع الأثرية. مشيراً إلى أن هذه المقاولات "قد تلتزم بالتكاليف الأقل من دون النظر إلى جودة العمل".

 

وأشار حسن إلى أخطاء في أعمال الترميم، تشمل استخدام مواد غير ملائمة، "اكتشفنا في قسم البردي الذي كان يحتوي على 30 ألف ورقة بردي، تلف وتغيير ألوان العديد منها، استخدام مواد مثل الصمغ والغراء أدّى إلى تشوه بعض أوراق البردي وتغير ألوانها وتفحمها، كما استخدمت مواد مثل الجبس مع الحجر الجيري ما كان له تأثير سلبي على المدى البعيد، حيث تسبب في تشقق الآثار بعد فترة من الزمن".

أمّا الباحث الأثري عماد المهدي فأشار إلى وجود تحديات متزايدة تواجه عمليات ترميم المعالم الأثرية في مصر، منها استخدام مواد غير مناسبة ما قد يؤدي إلى "تدهور الآثار" بدلاً من "ترميمها بشكل صحيح"، موضحاً "على سبيل المثال، استخدام مادة الإيبوكسي في ترميم قطعة أثرية فريدة مثل قناع توت عنخ آمون الذهبي، واستقدام فريق ألماني نجح في إزالتها بواسطة العزل الميكانيكي للمادة القديمة الملتصقة بشكل خاطئ، واستخدام الإسمنت في ترميم تمثال رمسيس الثاني بمعبد الكرنك".

ويعزو المهدي هذه الأخطاء إلى "عدم الاهتمام بالبحث العلمي والتطور في مجال ترميم المعالم الأثرية، إضافة إلى ضعف التدريب والبعثات التي تُقدم للمرممين لتطوير مهاراتهم. والعوائق البيروقراطية وتدني الأجور".

أين الدراسات الاستشارية؟

وسلط العميد السابق لكلية الآثار بجامعة القاهرة، محمد حمزة الحداد، الضوء على أهمية مراعاة المواثيق الدولية التي تضع شروط وقواعد محددة لأعمال الصيانة والترميم، مثل ميثاق البندقية (1964)، الذي ينص على الاستعانة بكل العلوم والتقنيات، التي يمكن أن تساعد في دراسة التراث المعماري وحمايته، واستكمال الأجزاء الناقصة يتطلب أن تندمج المواد البديلة بتناغم مع الكل، على أن يسهل تمييزها عن المواد الأصلية لمنع تزييف الأدلة التاريخية والفنية.

 

وفي رأي الحداد، فإن "المشكلة تكمن في عدم الاهتمام بالدراسات الاستشارية، التي يضعها المتخصصون في الآثار قبل بدء أعمال الترميم. إذ يتم غالباً الاعتماد على شركات مقاولات غير متخصصة، وحال وجود دراسات تكون شكلية، لتجنب تكبد مبالغ إضافية من قيمة المشروع". مستشهداً بواقعة ترميم سور القاهرة الشرقي، حيث كان ممثل الوزارة هو نفسه ممثل الشركة المنفذة، ما عكس تضارب المصالح وأثر سلباً في جودة الترميم.

وقضت المحكمة الإدارية العليا في حكمها الصادر مطلع العام الماضي بمجازاة 10 مسؤولين في وزارة الآثار بعقوبات تأديبية، مشددة في واقعة الإهمال الجسيم الذي شاب أعمال ترميم سور القاهرة التاريخي، بعدما تبين لها نزع الأحجار الأثرية من السور من دون ضرورة واستبدالها بأحجار جديدة غير مطابقة للمواصفات، وعدم الإشراف الجيد على الترميم، وإقامة كرفانات خاصة بالمكاتب الإدارية ودورات المياه في المشروع رغم وقوعها داخل الموقع الأثري، مما يعرّض الحفريات الأثرية للتلف.

ويختم العميد السابق لكلية الآثار بجامعة القاهرة، "في شارع المعز غالبية الزخارف والنقوش والكتابات والواجهات تكاد تكون مطموسة، على رغم أنها شهدت ترميماً مرتين خلال فترة وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني"، مشدداً على ضرورة أن تكون عملية الترميم "متوافقة مع طبيعة المواد الأصلية، مثل استخدام نفس نوع الحجر والألوان، وأن تكون المواد اللاصقة والألوان مناسبة".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات