Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الألماني فولفغانغ لايب يرسم نشيد الحياة بمواد الطبيعة

معرضه الباريسي الحالي يستكشف منهج عمله الفني الفريد ودلالاته

لوحة من معرض الرسام الألماني لايب (خدمة المعرض)

ملخص

يقيم متحف "لورانجري" الباريسي المخصص للفن العالمي الحديث معرضاً للرسام الألماني فولفغانغ لايب الذي كان هجر عالم الطب لينصرف إلى الفن، مستقياً مادته التشكيلية من عمق الطبيعة ولا سيما طبيعة الشرق الأقصى وتحديداً الهند.

يقف الرسام الألماني فولفغانغ لايب، منذ أن هجر مهنة الطب لمعانقة الفن في السبعينيات، على نقيض ثقافة وطنه المثقلة بالمفاهيم الفلسفية والفكر الجدلي. هجران يفسره افتتانه بثقافات الشرق الأقصى وفلسفاته، والهند تحديداً، حيث حط والده به مراراً وهو طفل، وحيث تعلم أن "الحياة ليست مسألة تطور، بل مسألة كنه وجوهر"، على حد قوله. قول يشكل خير مفتاح لفهم المحركات والدلالات في عمله الفني الذي لا يشبه أي عمل فني آخر، ويتميز ببساطة كبيرة، وتكرار شبه استحواذي للعناصر الشكلية نفسها، ومواد حية يستقيها الفنان مباشرة من الطبيعة، كما يمكن أن نرى ذلك في معرضه الحالي في متحف "لورانجوري"، في باريس.

وفعلاً، يملك لايب حكمة ترك الطبيعة تتكلم داخل أعماله، متأثراً في ذلك بعمل مواطنه جوزيف بويس، والإيطالي ماريو ميرز، اللذين استثمرا قبله المواد الفقيرة وتأرجحا بين ثقافات الغرب وثقافات الشرق. لكن لايب يتمايز عن هذين الفنانين باستلهامه طقوس الـ"سوترا" الدينية والقصائد الصوفية لاستحضار الكون في أكثر تفاصيله تواضعاً، ضمن بحث محموم عن جوهر اللحظة الآنية، بعيداً من الخطب الفلسفية الكبرى. ولعل هذا ما يفسر وقع أعماله التي عرضت في أهم متاحف العالم وفتنت المتأملين فيها بعلاقتها الخاصة بالطبيعة، وبذلك اللقاء الفريد فيها بين المعدني والعضوي، بين الجامد والحي، وبين الصغير جداً والكبير جداً، وفقاً لجدلية تسائل بنجاعة مكاننا في الكون.

في أعمال لايب، لا تغزو الطبيعة الفن فحسب، بل هي التي تمنح، بالمواد التي يستقيها منها (غبار اللقاح، الحليب، الرز، شمع العسل، الرخام...)، المظهر النهائي لهذه الـ"منحوتات" التي تتميز بأشكال هندسية أولية ناتجة من حركات بسيطة ومقتصدة تحدد علاقته بالطبيعة. هكذا انبثقت منحوتته الأولى، "حجر من حليب"، وهي عبارة عن لوح من رخام أبيض، مجوف قليلاً ومغطى بالحليب، وأنجزها عام 1975 إثر اكتشافه عمل جوزيف بويس الذي يتحكم به بحث عن فيض طاقة الحياة من خلال الأداءات الجسدية والأشياء التي تحيط بنا والمواد الحيوية، كالدهون.

وهذا الاكتشاف هو الذي جعل لايب يوقف ممارسة الطب لتكريس نفسه للفن. وبعد عامين، بدأ بجمع غبار اللقاح في الحقول المحيطة بمحترفه، من دون أن يدري أن هذه الممارسة ستتحول إلى حجر الزاوية في عمله. ففي السنوات اللاحقة، سيكتفي بتقديم مربعات من غبار اللقاح في معارضه داخل وطنه، ولكن أيضاً في إيطاليا وسويسرا والولايات المتحدة، قبل أن يدعى للمشاركة في النسخة السابعة من معرض "دوكومنتا" العريق للفن الحديث، وفي "بينالي" البندقية. مذاك، تتهافت أهم المؤسسات الفنية في العالم على عرض أعماله واقتنائها.

على حدود الفن المينيمالي و"فن الأرض" (Land art)، لا ينتمي لايب إلى أية مجموعة أو حركة فنية، ولا يلتزم بأية جمالية أو ميل تشكيلي معروف، بل لطالما أكد أن هدفه يقتصر على تسليط الضوء على مادة عمله نفسها: "لا تمكن مقارنة عملي بعمل رسام أو نحات. معي، لا يتعلق الأمر بابتكار شيء ما، بقدر ما يتعلق بتقاسم شيء موجود سلفاً. الرسام يرسم لوحة، وبالتالي يبتكرها، بينما أنا لا أبتكر اللقاح، بل أجمعه فقط. لقد انطلقت في ذلك بطريقة عفوية، لكن ما يحدث أثناء هذا الفعل، وتداعياته، سيرورة لا حدود لها".

الطبيعة تتكلم

وفعلاً، في أعمال لايب، الطبيعة هي التي تتكلم مكان الفنان، من خلال موادها المستثمرة. ومع أن التشكيلات والتصميمات تنبثق من خياراته ويديه (مربعات، مخروطات، خطوط رصف...)، لكن ما يحددها خصوصاً هو خصوصية كل مادة (الجانب المسحوق للقاح، الطبيعة السائلة للحليب، صلابة الرخام، الطابع الحبيبي للرز أو العضوي للشمع...)، وأيضاً مفاعيل وألق ألوانها. أما أفعاله البسيطة والمقتصدة لتجهيز وإنجاز كل عمل، فتمليها المتطلبات نفسها: القطاف، الغربلة، السكب، الصقل...

هكذا، من معرض إلى آخر، يبتكر لايب القطع نفسها، مستحضراً المواد ذاتها، وممارساً الأفعال نفسها. عمل، مثل تجدد الفصول، يقترح إعادة صياغة الكنه السرمدي للطبيعة الحية، التي لا تحضر أبداً بالطريقة نفسها تماماً، وبذلك تمكن مقارنته بما حاول الرسام كلود مونيه إنجازه، ووصفه في رسالة وجهها لغوستاف جيفروا عام 1907: "أصبحت هذه المناظر الطبيعية، بمائها وانعكاساتها، هاجساً. إنه أمر يفوق قواي كعجوز، ومع ذلك أريد أن أتوصل إلى التعبير عما أشعر به أمامها. لقد أتلفت محاولات كثيرة. وبدأت أخرى. وكلي أمل في انبثاق شيء ما من كل هذه الجهود". وفي سياق وصفه هذا الهدف، الذي يسعى عمله الطقوسي إلى تحقيقه، كتب لايب من جانبه: "الطبيعة والجمال هما الشيء نفسه. لا أستطيع خلق أي شيء يضارع الطبيعة في جمالها. الجمال موجود سلفاً، وفني يمنحني فرصة المشاركة فيه".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في عام 2019، وإثر المعرض الذي نظم له في فلورنسا تحت عنوان "فولفغانغ لايب، بلا زمان ولا مكان ولا جسد"، بدأ الفنان حواراً مع أعمال فنية كبرى من الماضي (جداريات فرا أنجيليكو في دير سان ماركو، والرسوم التي نقشها بانيو دي لابو على سقف كنيسة المجوس في قصر ريكاري ميديشي، وتلك التي زين بها مواطنه بينوزو غوزولي جدران هذه الكنيسة)، وفقاً لعلاقة مبنية على حساسية تجاه هذه الأعمال وما تعكسه من انكسارات وروابط بين الفن المرئي والروح غير المرئية.

وضمن هذا الحوار يندرج أيضاً معرضه الراهن في متحف "لورانجوري" الباريسي، نظراً إلى تكونه من أعمال أنجزها لايب خصيصاً كي تأخذ مكانها داخل هندسة هذا المتحف الخاصة، وتتحاور عن قرب مع "زنابق الماء" لمونيه التي تشكل خير احتفاء بالطبيعة. أعمال تحدد قيمتها التشكيلية خصائص كل واحدة من موادها التي طور الفنان معرفة حميمة بها على مر العقود، بينما تكمن قيمتها المجازية في كون هذه المواد رموزاً لخصوبة الطبيعة، وعناصر مشاركة في سيرورة الحياة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة