Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فيلم إيطالي عن ليوباردي يؤكد أن أفلمة حياة الشعراء ليست سهلة

الشاشة الكبيرة حين تقترب من حياة مبدعي الشعر في ابتعاد مقصود من الذاتية المفرطة

ليوباردي في مشهد من فيلم ماريو ماتروني (موقع الفيلم)

ملخص

يعد "ليوباردي" الآن واحداً من أقوى الأفلام التي وصلت من إيطاليا إلى العالم موصلة معها جزءاً أساسياً ونهائياً من سيرة مزدوجة، سيرة الشاعر تحت ملامح مناضل "على رغم أنفه" لا مفر له من خوض مستويات عدة من النضال في آن معاً، وسيرة السينمائي نفسه، الذاتية، كمبدع يستخدم الشاعر مطية لأفكاره لكن من خلال لعبة إبداعية متقنة.

للوهلة الأولى، سيبدو اقتباس الفن السينمائي حياة الشعراء، وكأنه من أسهل ما يكون كما تقتبس حياة غيرهم من المبدعين. وتبدو تلك السهولة على أية حال واضحة منذ بدايات السينما وارتباطها "القسري" بالتحليل النفسي، التي ولدت متزامنة معه لكنه تزامن المتنافرين وعلى الأقل بالنسبة إلى ذلك العلم الجديد الذي لم يتوقف عن رفض ارتباطه بالسينما منذ نفور فرويد نفسه منها. وهو نفور سبق أن تحدثنا عنه في هذه الزاوية مرات ومرات. فالسينما كالشعر يدينان بكثير للتحليل النفسي على رغم فرويد ومواقفه التي يصعب تبريرها. غير أن هذا يعيدنا إلى الموضوع الأساس الذي نتطرق إليه هنا، وهو تقديم الشعر والشعراء على الشاشة الكبيرة، متسائلين عما يبقى من الشاعر وإبداعاته على تلك الشاشة.

ولعل في مقدورنا أن نطرح حول ذلك واحداً أساسياً من بين ثلاثة نماذج يبدو لنا الأكثر دلالة. فلدينا في هذا السياق ثلاثة أفلام عن ثلاثة شعراء يمكن اختيارها لتبيان واقع أن أفلام الشعراء تكاد تأتي بموضوعاتها، ليس من قلب حياتهم، بل من شؤون تتعلق بهم آتية من خارج تلك الحياة بالتحديد. ونتحدث هنا عن فيلم "نيرودا" الذي حققه التشيلي جودورسكي قبل أعوام، وفيلم "نجم ساطع" للمخرجة النيوزيلندية جين كامبيون، عن فصل من حياة الشاعر الإنجليزي جون كيتس، ثم أخيراً فيلم "ليوباردي" للمخرج الإيطالي ماريو مارتوني، وهو أكثر تلك الأفلام جدة على أية حال.

وصولاً إلى "النسوية"

في الواقع أن القاسم المشترك بين هذه الأفلام، بالإضافة إلى تناولها حياة ثلاثة من كبار شعراء الحداثة بالمعنى المطلق للكلمة، يكمن في كونها تطل على الشعراء ليس من خلال شعرهم، بل من خلال ما قد يدور حول ذلك الشعر، كمثال ساطع على "صعوبة نقل الشعر نفسه إلى شاشة السينما"، مما يشكل بالنسبة إلينا هنا، دليلاً على أن الشرط الأول لنجاح ذلك النقل، يأتي من خلال اهتمامات أخرى، بالنسبة إلى نيرودا –وكما كانت الحال في فيلم آخر يتناول حياته وشعره هو "ساعي البريد"– من خلال أحداث لا تتناول شعره بصورة مباشرة ويغلب عليها طابع سياسي نضالي، كما ستكون الحال في الفيلم الذي نتوقف عنده والمتعلق بليوباردي، لكن بالنسبة إلى كيتس، الشاعر الرومانطيقي الإنجليزي، من خلال ما تعيشه معه وتستشعره تجاهه حبيبته، التي يقدم الفيلم كله من منظورها بحيث لا يعود الشاعر سوى مرآة لحياتها ومراراتها وصولاً إلى بعد الفيلم النسوي كصرخة من المخرجة/ الكاتبة لمصلحة المرأة.

الثاني بعد دانتي

إذاً تأتي الأفلام الثلاثة لتكرس من جديد تلك الصعوبة في تناول الشاشة للشاعر وحياته وشعره بالمعنى المباشر للكلمة، وتلك الضرورة التي تحتم الدنو منه من خلال ما قد يقف خارج العملية الشعرية نفسها. ولئن كنا قد حصرنا إشارتنا الأولى هنا بهذه الأفلام الثلاثة، يمكننا الآن أن ننتقل إلى الفيلم الأخير في سلسلة أفلام أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها تستخدم الشعراء كمجرد مدخل لقول أشياء أخرى (وهي سلسلة تضم أعداداً متزايدة من أفلام ربما يبرز من بينها فيلم عن حياة جوزيف برودسكي كان موضوعه الأساس الموقف الستاليني الذي يقول لنا الفيلم كم أنه بقي مستشرياً آخر أيام الاتحاد السوفياتي، من الشعراء المنشقين، وكذلك فيلم جان ماري شتروب عن هولدرلين وإمبادوقليس... وما إلى ذلك).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولا شك أن الفيلم عن ليوباردي الذي نحن في صدده هنا، يمكن اعتباره المثال الأكثر سطوعاً على ما نرمي إليه. فهو في المقام الأول عمل سينمائي عن ذاك الذي يعد ثاني أكبر الشعراء الإيطاليين بعد صاحب "الكوميديا الإلهية" دانتي، كما أنه يعد في إيطاليا مفتتح حداثتها الفكرية والشعرية، لكنه في الوقت نفسه يعتبر المثال الذي قامت عليه في بلده منظومة العلاقة بين الإبداع، الشعري هنا، والسياسة. ومن هنا لم يكن غريباً أن يعنون مخرج الفيلم وكاتبه ماريو ماتروني عمله بما معناه في العربية "جاكومو ليوباردي: الشباب الخرافي" والخرافي هنا ليست توصيفاً لشعر ليوباردي بل لحياته، بل تحديداً للسنوات العشر الأخيرة من حياة ذاك الذي يعتبره الإيطاليون "موزارت الشعر الإيطالي". وهي تحديداً الأعوام التي اشتدت عليه فيها الأمراض لتزداد في المقابل حميته السياسية والنضالية وتبدأ قريحته الشعرية التي كانت متقدة في سنوات شبابه الأولى بالتضاؤل، لمصلحة تورط نضالي سياسي شكل في ذلك الحين موضوع اهتماماته الأكثر إلحاحاً.

سينما من خارج الشعر

لم يعد الشعر أساس الحديث عن ليوباردي، بل بات الشعر عبئاً على الشاعر على رغم أن جزءاً من زمن الفيلم قد كرس للتعريف به كشاعر، وذلك في وقت بات فيه السينمائي ماتروني نفسه من الشهرة في العالم ومن خلال المهرجانات السينمائية، بحيث في إمكانه أن يعيد إلى الحياة من طريق "معجزة الفن"، شاعر إيطاليا الكبير الذي يتفاوت حجم شهرته كثيراً داخل إيطاليا، حيث له مكانته الكبرى المطلقة، وخارجها حيث بالكاد يعرفه أحد حتى في فرنسا القريبة، التي اعتادت أن تقدم مبدعي الأمم الكبرى على قدم المساواة مع مبدعيها، ومع ذلك "جرب أن تطرح اسمه أو تتحدث عن شعره أمام الفرنسيين فيقابلونك بنظرة متسائلة" كما يقول ماتروني الذي يشير هنا إلى أن العودة إلى ليوباردي في فيلمه إنما أتت لتسد هذا النقص الإبداعي لدى أهل الخارج، ولكن "أكثر من ذلك لتستعيد في الداخل كما في الخارج صورة ما لذلك الدور الذي لعبه شاعر عرف بفرديته ورومانطيقيته، لكن ذلك لم يمنعه من أن يخوض المعترك النضالي في سبيل وحدة وطنه الإيطالي وتقدمه". وهو معترك يبدو واضحاً أنه شكل الهم الأساس للسينمائي الذي عرف بأفلامه الاجتماعية، خصوصاً منها تلك الفاضحة لسيطرة المافيا على السلطة والتجارة والحياة الاجتماعية في إيطاليا كجزء من إرث ستينيات وسبعينيات القرن العشرين.

 

سيرة ذاتية مواربة

ومن هنا وحتى نقول إن "ليوباردي" ليس في نهاية المطاف سوى نوع من سيرة ذاتية مواربة لماتروني نفسه، خطوة لا بد من قطعها لوضع الأمور في نصابها. فماتروني الذي اختار هنا الغوص في سنوات صاخبة ومريرة من حياة بطله "الخرافي" ومن حياة القرن التاسع عشر، خاض في الحقيقة نوعاً من سينما ذاتية يستكمل فيها مجموع أفلامه التي "ما تحدث من خلالها في نهاية المطاف إلا عن ذاته كمناضل يستخدم السينما، والسينما الكبيرة التي تقدم نفسها عملاً إبداعياً حقيقياً وليس فقط كنوع من الفن ذي القبضات المرفوعة والمواضيع الجاهزة المملة، ونعرف طبعاً أن أفلاماً لماتروني مثل "موت عالم رياضيات من نابولي" و"الحب الفتاك" و"مسرح الحرب" و"رائحة الدم" وفيلميه عن "كارافاغيو" و"بازوليني" و"هناك في الأعالي من يحبني" و"نوستالجيا" (وهي أشهر أفلامه بين بداياته عام 1992 و"ليوباردي" الذي اقتبسه بنفسه على أية حال من عرض مسرحي قدمه بعنوان "أعمال ليوباردي الأخلاقية الصغيرة")، هذه الأفلام استقبلت وحققت نجاحات عالمية – محدودة الانتشار، على أية حال – لقوتها الإبداعية وليس لمضامينها السياسية، مما أحدث تجديداً لافتاً في السينما الإيطالية خلال الأعوام الأخيرة.

ولعل في مقدورنا هنا أن نشير إلى أن "ليوباردي" يعد الآن واحداً من أقوى الأفلام التي وصلت من إيطاليا إلى العالم، موصلة معها جزءاً أساسياً ونهائياً من سيرة مزدوجة، سيرة الشاعر تحت ملامح مناضل "على رغم أنفه" لا مفر له من خوض مستويات عدة من النضال في آن معاً، وسيرة السينمائي نفسه، الذاتية، كمبدع يستخدم الشاعر مطية لأفكاره لكن من خلال لعبة إبداعية متقنة.

المزيد من ثقافة