Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اللبنانيون والهجرة المعاكسة... الوطن أهون الشرين

خلال الأعوام الماضية عاد كثير من اللبنانيين إلى بلادهم من أجل تخفيف الأعباء الاقتصادية وخوفاً على الهوية والعائلة

تتعدد الأسباب التي تدفع لبنانيين بالعودة من الخارج بين اقتصادية وثقافية واجتماعية (اندبندنت عربية)

ملخص

يتجه مزيد من العائلات للعودة إلى لبنان في ظل التضخم الذي تعيشه بلاد الاغتراب، ناهيك بمواجهتهم الصدمة الحضارية بسبب الفروق الثقافية، والسعي إلى الحفاظ على المنظومة القيمية المحافظة، في ظاهرة تعرف في لبنان اليوم بـ"الهجرة المعاكسة".

يعيش اللبناني في "دوامة الهجرة والعودة"، فمن جهة تراجعت نوعية الحياة والخدمات إلى أسوأ أحوالها داخل لبنان مما دفع بعشرات الآلاف إلى الانضمام إلى ركب الهجرة القائم منذ عقود، ومن جهة أخرى سجلت في الأشهر والأعوام الماضية حركة "هجرة معاكسة" بدأت تلفت الأنظار، فيما تتعدد أسبابها وخلفياتها.

وعلى رغم أنها لا تزال محدودة من ناحية الأعداد، وبخاصة أن من يغادرون لا يزالون أكثر بكثير ممن يعودون، ولكن أن يقرر لبناني العودة إلى بلد الأزمات المتعددة ليس خبراً عادياً، وهو الذي سعى جاهداً وبكل ما يملك إلى مغادرته.

فما الأسباب التي تدفع لبنانيين وربما عائلات بأسرها إلى العودة بعد الهجرة؟

بين أسباب ثقافية واقتصادية

تتنوع الأسباب التي دفعت هؤلاء إلى العودة، والتي تراوح ما بين "الطابع الأخلاقي للعودة" ورفض التوجه الغربي لفرض الثقافة الجنسية المخالفة لقيم المجتمع المحافظ، والأعباء الكبيرة للعيش في الخارج بوصفها "كلفة غير متناسبة مع الدخل"، وصولاً إلى "الاستفادة من الدولرة" ونوعية الخدمات التي ما زالت جيدة نسبياً في لبنان.

لبنان أهون الشرين اقتصادياً

لا يغيب العامل الاقتصادي عن أجندة المهاجرين وكلف الإقامات في بلاد الاغتراب بين البحث عن عمل وكلف التعليم والمعيشة والطبابة ودفع الضرائب وغيرها، فيجدون أنفسهم أمام عملية حسابية مالية وفي رحلة البحث عن أهون الشرين.

وتتحدث جيهان عن أسباب عودتها من الخارج وتقول إنها "عادت إلى لبنان بصحبة أبنائها الأربعة، لأن كلف الحياة هنا أقل من تلك في بلاد الهجرة"، مشيرة إلى "بقاء الزوج في الخارج من أجل تأمين معيشة أبنائه". وتضيف "الوضع هنا ليس في أحسن حالاته، ولكن ما زال التعليم هنا أرخص بأضعاف من الخارج، وتعليم الأطفال الأربعة هنا يوازي كلفة الواحد في الدولة التي كانت فيها، إذ لا تجد نوعية تعليم جيدة إلا في المدارس الأجنبية الغالية".

وتؤكد أن "تشتت العائلة بين دولتين أمر في غاية الصعوبة، ولكن لا تتوافر حلول أخرى". وفي المقابل، لا تجزم السيدة الأربعينية حول المخططات المستقبلية، فهي تقرنها بإنهاء ابنها الكبير المرحلة الثانوية في لبنان، وعندها قد تفكر في الالتحاق بزوجها في المهجر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويؤكد الشاب ديب أن "عودة العائلة جاءت بسبب عدم القدرة على تحمل غلاء المعيشة"، إذ "تعاني موازنة العائلة من العجز المستمر".

ويقول "العائلة مؤلفة من خمسة أفراد، وتبلغ كلفة تجديد الإقامة السنوية نحو 230 دولاراً أميركياً، ولم تعد هناك إمكانية لتغطية نفقات التعليم الخاص والسكن والمعيشة، فيما يمكن للعائلة الإقامة في منزلها الخالي في لبنان، وتحويل مبلغ كاف في نهاية كل شهر".

 وتبقى هذه الأسباب وغيرها نتيجة فعلية لحالة "التناقض" التي يعيشها اللبناني، فهو مضطر إلى العودة إلى لبنان المنهك اقتصادياً وأمنياً وسياسياً بسبب "قائمة الأولويات" لديه، وتقديم مسألة الهوية على ما سواها من العوامل التي دفعتهم إلى الهجرة والاغتراب.    

ظاهرة لافتة للباحثين

ويلاحظ الباحثون في علم الاجتماع ارتفاع ظاهرة الهجرة المعاكسة، ويشير الدكتور شوقي عطية إلى عودة أعداد كبيرة من العائلات إلى لبنان على رغم الأزمة، ولأسباب شتى، "في موازاة عودة أطباء كانوا قد غادروا البلاد بسبب دولرة بدلات خدماتهم هنا". ويعزو عطية هذه الظاهرة إلى عوامل مختلفة، فمن ناحية هناك "قيمة الأجور والخدمات، فهو مضطر لدفع نسبة كبيرة من أجوره في الخارج لقاء مصاريف إقامة وسكن وتأمينات ومعيشة غالية، ناهيك بنفقات السفر لأن اللبناني يعود إلى بلاده بصورة دورية لا تقل أحياناً عن مرتين في العام الواحد ليلتقي عائلته، ولهذا كلفته المرتفعة". ولذلك "من يجد وظيفة في لبنان لقاء أجر يوازي نصف ما يتقاضاه في الخارج، يفضل العودة إلى العيش في وطنه وبين عائلته". إضافة إلى أنه توجد عائلات تعود إلى لبنان من أجل الحصول على الخدمات الطبية".

هوية ثقافية واجتماعية مختلفة

وجدت شريحة كبيرة من الأهل في الاغتراب نفسها "مضطرة للعودة إلى لبنان، لأنه لا خيار آخر لديهم للحفاظ على الهوية الثقافية للأبناء"، بهذه الجملة يختصر أحد الآباء اللبنانيين ممن خاضوا تحدي "الهجرة المعاكسة". ويدعم الأهالي صوابية قراراتهم بجملة من الأسباب يأتي في مقدمها العائلة وتربية أطفالهم في مجتمع يشبههم، ويرجعون ذلك إلى "الدور الحسن الذي يلعبه الجد والجدة في رعاية الأطفال"، و"عدم مواجهة أزمة اضطراب الهوية".

ويكشف بلال أن قرار العودة أخذ مرحلة بحث وتفكير مطول، قائلاً "قد تكون مرحلة موقتة إلى حين إتمام الأبناء تعليمهم، وتكوين شخصيتهم"، ولافتاً "يربى هؤلاء في لبنان في كنف العائلة، ويكتسبون القيم الخاصة بالعائلة، وبالتالي ستكون لديهم مناعة لاحقاً في حال قرروا الهجرة إلى الخارج، إن لناحية تأسيس العائلة، أو مواجهة الأفكار الوافدة التي تمس قيمهم الأخلاقية وخصوصاً من ناحية التربية الجنسية".

ومن جهة أخرى، يتطرق عطية إلى عودة عائلات لبنانية من كندا تحديداً، وبعض دول أوروبا مثل ألمانيا لأسباب ثقافية، وفرض "الأجندة الجندرية والميول الجنسية المختلفة"، خصوصاً في المدارس العامة والصفوف الابتدائية.

ويتحدث عن إرسال بعض الآباء أولادهم إلى لبنان، فيما يبقى هو على رأس عمله في الاغتراب من أجل الحفاظ على الدخل. وهنا، يبرز وقع "الاختلافات الثقافية والصدمة الحضارية".

ويضيف عطية "بعض الأهالي يرسلون أولادهم إلى لبنان حتى لا يخسرونهم، لأنه لا يمكن للأهل التدخل في المناهج، أو الثقافة الجنسية بدءاً من الثماني سنوات"، متحدثاً عن "إشكالية إدماج واندماج المهاجرين في البلاد الأجنبية، لكي لا يتصاعد الصراع الثقافي، ونشوء الجماعات المنعزلة عن الثقافة السائدة في المهجر".

أصناف المهاجرين

ويصنف عطية المهاجرين إلى ثلاثة أصناف، جزء يتماهى مع قواعد اللعبة ويبدو وكأنه ملكي أكثر من الملك، ويتبنى القيم هناك إلى أقصى حد ويندمج في المجتمع ويتماهى معه. وفي المقابل، هناك الجماعات المنغلقة التي تتقوقع على ذاتها وتنشئ الأحياء الخاصة بها وتنعزل عن المحيط، مما يحفز التعصب. ولذلك "نجد اللبناني متعصباً في الخارج، أكثر من ذاك الذي يعيش في لبنان"، ففي أستراليا مثلاً نجد الحي الصيني والحي اللبناني وهكذا دواليك، إذ يجهل بعض المقيمين هناك اللغة الإنجليزية.

أما الفئة الثالثة فتعيش حالة الصراع بين هويتهم الخاصة وتلك المنتشرة في بلاد المهجر، بين الاختلاف الثقافي والديني والمجتمعي، وهنا يفضل جزء كبير منهم العودة إلى مربعهم الأول.

دينامية الهجرة

ويضع علماء الاجتماع ظاهرة الهجرة في إطار "دينامي" متحرك باستمرار، فهي تخضع إلى عوامل الجذب والطرد، وبالتالي فإن الظاهرة التي يشهدها لبنان قد تكون موقتة ولا تدوم على المستوى البعيد، إذ تتزايد "الهجرة الارتدادية" لأن البلاد تعيش في حالة من عدم الاستقرار التي ترجح كفة عوامل الطرد.

ويؤكد الباحث الاجتماعي شوقي عطية أن "لبنان يعيش حالياً الهجرة التي تتخذ صورة عودة السكان وليس الكفاءات، وينبه إلى "عودة بعض المهاجرين بعد الحصول على جواز السفر الأجنبي الذي يشكل ضمانة لهم في الأزمات، وللمغادرة والإجلاء حال حدوث أية أزمة". ويشدد عطية على الرابط الوجداني في قرار الهجرة المعاكسة، لأن لبنان شهد موجات هجرة منذ أواسط القرن التاسع عشر، إذ اتجه هؤلاء إلى الأميركتين، ومن ثم إبان الحرب العالمية الأولى إلى أوروبا ومصر، وخلال أواسط القرن العشرين إلى أستراليا، ومع ثورة النفط اتجه اللبناني إلى الخليج، وصولاً إلى أفريقيا في العقدين الأخيرين من القرن العشرين. ويتحدث عن "اقتصاد الصدقة والإحسان القائم على ضخ المغتربين الأموال في شريان الحياة اللبنانية".

مستقبل الهجرة الارتدادية

وفي ظل أزمة الانهيار في لبنان ورجحان عوامل الطرد، تسير حركة الهجرة في اتجاهين متعارضين. وتبرز "الهجرة الارتدادية" إذ يحث الأهل أولادهم على الهجرة إلى البلاد التي عادوا منها، وهو ما يعكس "الاضطراب" الذي يعيشه اللبناني.

وتشير الباحثة في علم الاجتماع الدكتورة جانيت جبور إلى "قيام مجموعة من الباحثين الاجتماعيين بدراسة الهجرة الارتدادية التي تقوم على قيام الأهل الذين جمعوا ثروة في الخارج، ومن ثم العودة إلى لبنان للعيش والاستثمار، بحض أبنائهم على مغادرة لبنان إلى بلد الاغتراب التي جاؤوا منها سابقاً قبل عقود من الزمن، إذ يستغل الأهل علاقاتهم السابقة لفتح الأبواب أمام الجيل الجديد من المهاجرين الشباب".

ولاحظت جبور الأثر الشديد لحالة اللا استقرار الأمني والسياسي والاقتصادي على قرار الهجرة مجدداً، والارتداد من حيث جاء، قائلة "على سبيل المثال، من عاش في دولة ما لمدة 25 عاماً، وعاد إلى لبنان منذ 25 عامًا عقب نهاية الحرب الأهلية، يسعى إلى الاستفادة من شبكة علاقاته من أجل إرسال أولاده بسبب تقدمه في السن إلى تلك البلاد التي احتضنته وفتحت له الأبواب ومنحته الفرص، قبل أن يأتي إلى لبنان، وخسارة الأموال والودائع التي وضعها في المصارف وشعور الإحباط وفقدان الأمل بالنهوض".

وتلفت جبور "خلال الدراسة صدمتنا بعض الوقائع، ووجدنا أهالي يحثون الابن الوحيد على السفر وتركهم من أجل إكمال حياته في رفاهية، وتأسيس مستقبله"، وتشير إلى "تأثير عدم التكيف مع البيئة المحيطة وقلة الفرص، وعدم القدرة على الزواج في قرار الهجرة الارتدادية"، وتضيف "صادفنا خلال الدراسة أن الولد البكر غادر لبنان، ومن ثم أرسلت العائلة البنت الوحيدة قبل أن يقفل الأم والأب متجرهم، وينضمان مجدداً إلى العائلة في أستراليا، حيث كانوا في السابق قبل عشرات السنين"، إضافة إلى "ملاحظة انسلاخ عائلات عن بعضها بعضاً، وعيش حال من الصراع النفسي بين البقاء والرحيل نحو الخارج للعيش بكرامة، ومن ثم ترك الممتلكات والعائلة".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات