ملخص
مع انسحابها من أذربيجان قد تبدو روسيا أضعف في المنطقة لكن الغرب هو الآخر لا يبدو أقوى، إذ ثمة ديناميكيات اجتماعية كبيرة مؤيدة لأوروبا تلعب دورها هنا لكنها تواجه منافسة قوية من القوى السياسية والاقتصادية التي تجذب جنوب القوقاز في اتجاهات مختلفة للغاية.
في 17 أبريل (نيسان)، مرّ رتل من الدبابات والشاحنات الروسية عبر سلسلة من البلدات الأذربيجانية التي كساها الغبار أثناء ابتعادها عن ناغورنو قره باغ، وهي مرتفعات في قلب جنوب القوقاز، التي كانت أذربيجان وأرمينيا تتقاتلان عليها لأكثر من ثلاثة عقود. ومنذ عام 2020، حافظت قوات حفظ السلام الروسية على وجودها هناك. والآن، أُنزِل العلم الروسي الذي كان يرفرف فوق القاعدة العسكرية في المنطقة.
وعلى رغم أن هذا الأمر فاجأ الكثيرين، إلا أن الرحيل الروسي عزز التحول في النفوذ الذي بدأ في أواخر سبتمبر (أيلول) 2023، عندما استولت أذربيجان على الإقليم، وأجبرت بين عشية وضحاها تقريباً على الإخلاء الجماعي لنحو 100 ألف أرميني من قره باغ - بينما كانت القوات الروسية تقف متفرجة.
ومعها برزت أذربيجان، وهي دولة استبدادية تشترك في حدودها مع روسيا على بحر قزوين، كلاعب قوي، إذ تمتلك موارد كبيرة من النفط والغاز، وجيشاً قوياً، وعلاقات مثمرة مع كل من روسيا والغرب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي الوقت عينه، تشهد الدولتان الأخريان في المنطقة، أرمينيا وجورجيا، تحولات مزلزلةٍ. ففي الأشهر التي تلت استيلاء أذربيجان على ناغورنو قره باغ، جنحت أرمينيا، الحليف التقليدي لروسيا، أكثر من أي وقت مضى نحو الغرب. أما الحزب الحاكم في جورجيا فقد قطع علاقاته الوثيقة مع أوروبا والولايات المتحدة منذ عقود، ويبدو أنه عازم على أن يحذو حذو جيرانه المستبدين. وفي مايو (أيار)، أقر البرلمان الجورجي قانوناً مثيراً للجدل لقمع "النفوذ الأجنبي" على المنظمات غير الحكومية - وهو قانون مستوحى من التشريع الروسي ويبعث بإشارة إلى موسكو بأن لديها شريكاً يمكن الاعتماد عليه على حدودها الجنوبية.
وما يبدو خفياً في عملية إعادة ترتيب جنوب القوقاز هذه، الدوافعُ المعقدة لروسيا نفسها. فقد تقلبت الأهمية الإستراتيجية للمنطقة - المعروفة لدى الروس باسم ما وراء القوقاز Transcaucasus - على مر القرون. إذ لم تكن اللمسة الإمبريالية ثقيلة هناك كما هي الحال في أجزاء أخرى من الإمبراطورية الروسية أو الاتحاد السوفياتي. وبعد نهاية الاتحاد السوفياتي، حاولت موسكو الحفاظ على نفوذها من خلال استغلال النزاعات العرقية المحلية هناك، مع الاحتفاظ بأكبر عدد ممكن من القوات على الأرض.
ولكن الحرب في أوكرانيا ونظام العقوبات الغربي غيرا هذه الحسابات. وبقراره سحب قواته من أذربيجان، يُقِر الكرملين بأن الأمن الاقتصادي في جنوب القوقاز - الآن على الأقل - أكثر أهمية من القبضة الصلبة. فروسيا في أمس الحاجة إلى شركاء تجاريين وطرق لانتهاك العقوبات في الجنوب. وفي الوقت الذي تتعرض فيه لضغوط متزايدة من قِبل الغرب، فإنها ترى أيضاً أن المنطقة تقدم محوراً برياً جديداً مرغوباً لأطماع إيران.
مراوغة باكو الكبرى
للوهلة الأولى، بدا الانسحاب الروسي الأحادي الجانب من ناغورنو قره باغ هذا الربيع محيراً. فعلى مدى معظم العقود الثلاثة الماضية، تقاتل الأذربيجانيون والأرمن على الإقليم الذي يقع داخل أذربيجان ولكن غالبية سكانه من العرقية الأرمنية. وفي عام 2020، قلبت أذربيجان الخسائر الإقليمية التي تكبدتها في التسعينيات من القرن الماضي، وكانت على وشك أن تستعيد ناغورنو قره باغ أيضاً لولا أن روسيا أرسلت في اللحظة الأخيرة قوة لحفظ السلام مكلفة بحماية السكان الأرمن المحليين. ومع ذلك، وقفت قوات حفظ السلام تلك في موقف المتفرج، بينما كانت أذربيجان تزحف إلى قره باغ في سبتمبر (أيلول) الماضي، على رغم أن لديه تفويضاً بالبقاء حتى عام 2025. وإضافة إلى إبراز القوة الروسية في المنطقة، كان في وسع تلك القوات أيضاً تيسير عودة بعض الأرمن إلى ناغورنو قره باغ.
وبطبيعة الحال، بالنسبة إلى روسيا، فإن المقاتلين الذين يبلغ عددهم 2000 رجلٍ و400 عربة مدرعة الذين نُقِلوا من الإقليم يوفرون تعزيزات موضع ترحيب لحربها في أوكرانيا لكن هذه ليست كامل القصة. فمن خلال قرارها بمغادرة المنطقة، أهدت روسيا انتصاراً لأذربيجان، وسمحت لجيشها بالسيطرة غير المقيدة على الإقليم المتنازع عليه منذ فترة طويلة. بالنسبة إلى معظم الأرمن، كان ذلك تأكيداً جديداً على تخلي روسيا عنهم. وعلى الفور تقريباً، تكهن المراقبون بأن صفقةً ما قد أُبرمتِ بين روسيا وأذربيجان.
ولكونها أكبر دول جنوب القوقاز الثلاث وأغناها، فقد استفادت أذربيجان أكثر من غيرها من التحول الروسي. فهي لاعب في سياسات الطاقة بين الشرق والغرب، إذ تُوفر النفط والغاز الذي ينقله خطا أنابيب عبر جورجيا وحليفتها المقربة تركيا إلى الأسواق الأوروبية والدولية. كما أنها تشترك في الحدود مع إيران، وهي بمثابة بوابة بين الشمال والجنوب بين موسكو والشرق الأوسط. ويساعد على ذلك أن النظام الأذربيجاني - على النقيض من الحكومة الديمقراطية في أرمينيا - مبني على القالب الاستبدادي ذاته الذي بُنِي عليه النظام الروسي. فـإلهام علييف، الرئيس القوي الذي يحكم أذربيجان منذ فترة طويلة، لديه جذور أعمق ترجع إلى الطبقة الحاكمة السوفياتية مما لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فوالده هو حيدر علييف، وهو كان رجلاً نافذاً مخضرماً في أروقة السلطة السوفياتية وأصبح زعيماً لأذربيجان ما بعد الاستقلال، إذ أدار البلاد من عام 1993 إلى عام 2003. ويعرف علييف الابن وبوتين أيضاً كيفية العمل معاً لإنجاز الصفقات، في علاقة مبنية على التواصل الشخصي وأسلوب القيادة، أكثر من استنادها إلى العلاقات المؤسسية.
لم تكن العلاقات دائماً على ما يرام. ففي العهدين القيصري والسوفياتي، اتبعت موسكو نهجاً استعمارياً علنياً تجاه السكان المسلمين في أذربيجان، إذ وضعت نهاياتٍ روسية لأسماء اللقب وفرضت الأبجدية الكيريلية (أو السيريلية) على اللغة الأذرية. ولا يزال الأذربيجانيون مستاءين من حملة القمع الدموية التي وقعت عام 1990، عندما أرسل الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف خلال الأيام الأخيرة للاتحاد السوفياتي قواته إلى باكو لقمع حراك حزب الجبهة الشعبية الأذربيجانية، ما أسفر عن مقتل العشرات من المدنيين. وخلال معظم فترة الصراع الطويل الأمد في ناغورنو قره باغ، قدمت موسكو دعماً أكبر للأرمن.
ولكن بعد حرب ناغورنو قره باغ عام 2020، بدأت روسيا في انعطاف استراتيجي نحو أذربيجان. ويبدو أن انسحاب قوات حفظ السلام في ربيع هذا العام هو العنصر الرئيس في تحالف باكو-موسكو الكامل. فبعد خمسة أيام فقط من مغادرة قوات حفظ السلام الروسية، سافر علييف إلى موسكو، حيث ناقش تعزيز روابط الشمال والجنوب بين البلدين. وفي أعقاب المحادثات، قال وزير النقل الروسي فيتالي سافيلييف إن أذربيجان تعمل على تحديث البنية التحتية للسكك الحديدية لزيادة قدرتها على نقل البضائع إلى أكثر من الضعف - وإتاحة بمزيد من التجارة مع روسيا.
وبالنسبة إلى موسكو، فإن هذا كله جزء من سباق مع الغرب لإنشاء طرق تجارية جديدة للتعويض عن التمزق الاقتصادي الناجم عن الحرب في أوكرانيا. فمنذ بدء الحرب، تحاول الحكومات والشركات الغربية تطوير ما يسمى بالممر الأوسط، وهو الطريق الذي ينقل البضائع من غرب الصين وآسيا الوسطى إلى أوروبا عبر بحر قزوين وجنوب القوقاز - بالتالي تجاوز روسيا. من جانبها، تحاول روسيا توسيع روابطها الخاصة بالشرق الأوسط والهند عبر كل من جورجيا وأذربيجان.
وقد تمكنت أذربيجان، بفضل موقعها الجغرافي المواتي وسياستها القائمة على عدم الانحياز، من اللعب على الحبلين. فهي دولة محورية في "الممر الأوسط" Middle Corridor [طريق تجاري دولي عبر قزوين من جنوب شرقي آسيا والصين إلى أوروبا عبر كازاخستان وبحر قزوين وأذربيجان وجورجيا وتركيا]. وهي تعمل على زيادة صادرات الغاز إلى الاتحاد الأوروبي، بعد اتفاق مع المفوضية الأوروبية عام 2022. ولكنها أيضاً في وضع مثالي للتجارة مع مُصدري الطاقة الروس أيضاً. وفي تقرير صدر في مارس (آذار)، أشار معهد أكسفورد لدراسات الطاقة إلى أن أذربيجان، بالتعاون مع حليفتها المقربة تركيا، يمكن أن تساعد في إنشاء مركز للغاز الروسي للوصول إلى الأسواق الخارجية من دون عقوبات. وبسبب المكانة المتنامية لأذربيجان كوسيط إقليمي قوي، في وسعها أن تمكّن روسيا أيضاً من تحقيق أهدافها المتمثلة في بناء روابط أقوى مع إيران.
القطارات إلى طهران
يتمثل جزء أساسي من طموحات روسيا المتغيرة في جنوب القوقاز في إعادة بناء طرق النقل البري إلى إيران. والطريق الأكثر جاذبية هو الطريق الذي تطلق عليه أذربيجان اسم "ممر زانغيزور"، وهو مخطط عبارة عن طريق بري وخط سكك حديدية عبر جنوب أرمينيا من شأنهما أن يربطا أذربيجان بــ"ناختشيفان"، وهو إقليم أذربيجانية مستحاط يقع على الحدود مع كل من إيران وتركيا. ومن خلال إعادة فتح هذا الطريق الذي يبلغ طوله 27 ميلاً (43 كلم)، ستحصل موسكو على خط سكك حديدية مباشر مع طهران، التي أصبحت مورداً مهماً للأسلحة للقوات الروسية التي تقاتل في أوكرانيا.
وفي الواقع، من شأن هذا المحور الشمالي-الجنوبي أن يحيي فعلياً ما كان يُعرف بالممر الفارسي خلال الحرب العالمية الثانية - وهو طريق بري وخط سكك حديدية يمتدان شمالاً من إيران عبر أذربيجان إلى روسيا، وقد كان هذا الممر يُزود ما لا يقل عن نصف المساعدات التي قدمتها الولايات المتحدة للاتحاد السوفياتي ضمن قانون الإعارة والتأجير خلال الصراع العالمي. ومن مفارقات الأقدار أن هذا الممر نفسه أصبح الآن حيوياً لموسكو في صراعها الحالي مع الولايات المتحدة والغرب.
حينها في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، اعتقد الروس أنهم توصلوا إلى اتفاق لفتح هذا الطريق عندما وقّع بوتين وعلييف ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان اتفاقاً ثلاثياً أوقف رسمياً النزاع في ناغورنو قره باغ في ذلك العام وأدخل قوة حفظ السلام الروسية. وتضمنت الاتفاقية بنداً يدعو إلى إلغاء حظر جميع الروابط الاقتصادية وروابط النقل في المنطقة، وذكر على وجه التحديد الطريق إلى إقليم ناختشيفان عبر أرمينيا. علاوة على ذلك، نصت الاتفاقية أيضاً على أن السيطرة على هذا الطريق ستكون في أيدي جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (وريث كي جي بي والمعروف اختصاراً بـ"أف أس بي").
لكن الممر ظلّ مغلقاً منذ ذلك الحين لأن أرمينيا وأذربيجان لم تتمكنا من الاتفاق على شروط تشغيله. ومع ذلك، أصرت روسيا على أن تكون قواتها الأمنية هي المسيطرة على الممر. ولدى عودته من موسكو في أبريل (نيسان)، ألمح علييف إلى هذا الأمر أيضاً، إذ قال أمام جمهور دولي إن اتفاقية عام 2020 (التي أصبحت جميع بنودها الأخرى زائدة عن الحاجة الآن) "يجب احترامها". إذاً، قد يكون فتح الممر هو جوهر الاتفاق الجديد بين أذربيجان وروسيا: فمقابل سحب روسيا لقواتها من قره باغ - وهي خطوة منحت القيادة الأذربيجانية انتصاراً محلياً كبيراً - قد ترضخ أذربيجان للسيطرة الأمنية الروسية على الطريق المخطط له عبر جنوب أرمينيا.
وفي حال نُفذت مثل هذه الخطة، فسيكون ذلك بمثابة استيلاء أذربيجاني-روسي مُنسق على الحدود الجنوبية لأرمينيا - وهو كابوس لكل من أرمينيا والغرب. وسيُفقِد الأرمن السيطرة على منطقة حدودية حيوية من الناحية الإستراتيجية. وسترى الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون أن روسيا ستخطو خطوة كبيرة إلى الأمام نحو إنشاء طريق بري وسكك حديدية مرغوبة مع إيران. وعلاوة على ذلك، تفتقر أرمينيا بمفردها إلى القدرة على منع روسيا وأذربيجان من التصرف.
الاغتراب الأرميني
لم يشهد أي حليف سابق لروسيا انهياراً دراماتيكياً في علاقاته مع موسكو مثل أرمينيا. فبين البلدين تحالف تاريخي طويل مبني على ديانتهما المسيحية المشتركة. كانت روسيا هي الحامي التقليدي للأرمن في الإمبراطورية العثمانية، وكان الأرمن الذين عاشوا في الإمبراطورية الروسية، ثم الاتحاد السوفياتي، يتمتعون بفرص صعود اجتماعي أكثر من غيرهم من غير السلافيين: فقد وصل بعضهم إلى أعلى مراتب النخبة السوفياتية.
لكن كل ذلك تغير خلال السنوات القليلة الماضية. فقد بدأت العلاقات الروسية مع أرمينيا تبرد عام 2018، عندما جاء باشينيان، وهو ديمقراطي شعبوي، إلى الحكم على أكتاف ثورة أرمينيا المخملية. وبالكاد تقبلت موسكو هذا الانتقال، إذ كانت تخشى من "ثورة ملونة" أخرى تجلب حكومة غير ودية إلى السلطة على حدودها. وبعد حرب ناغورنو قره باغ عام 2020، واصلت موسكو دعم الأرمن، لكن العلاقات بين البلدين كانت متوترة بشكل متزايد. وبالنسبة إلى يريفان، أصبح استيلاء أذربيجان على الإقليم في الخريف الماضي، بموافقة روسيا، بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير.
ومع إخفاق الكرملين في الوفاء بالتزاماته الأمنية تجاه أرمينيا، بدأ باشينيان في توجيه بلاده بشكل حاسم نحو الغرب. في الخريف الماضي، التقى بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ودفع أرمينيا للانضمام رسمياً إلى المحكمة الجنائية الدولية، ما يعني أن بوتين، الذي صدرت مذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية بحقه، يمكن نظرياً أن يُعتَقَل إذا وطأت قدماه أرمينيا. وفي فبراير (شباط) الماضي، علق باشينيان أيضاً مشاركة أرمينيا في التحالف العسكري الذي تقوده روسيا، منظمة معاهدة الأمن الجماعي. وقد طرح بعض السياسيين الأوروبيين الآن فكرة عضوية أرمينيا في الاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف.
ومع إزالة ناغورنو قره باغ من المعادلة، يضغط باشينيان أيضاً بقوة أكبر لتقليل اعتماد بلاده على روسيا. فقد طلبت أرمينيا من روسيا إزالة حرس الحدود الروس المتمركزين في مطار زفارتنوتس الأرميني منذ التسعينيات بحلول الأول من أغسطس (آب) المقبل، في حين سيبقى حرس الحدود الروس الآخرون المتمركزون على حدود أرمينيا مع إيران وتركيا في الوقت الحالي، ولكن نشر بعثة مراقبة مدنية تابعة للاتحاد الأوروبي في جنوب أرمينيا عام 2023 يُظهر أين تكمن الخيارات السياسية الإستراتيجية للحكومة الأرمينية.
غير أن تحول أرمينيا إلى الغرب يأتي في لحظة غير مواتية للغاية. فأذربيجان المنتشية بالنصر والمستفيدة من علاقاتها القوية مع كل من روسيا وتركيا، لا تُظهر أي علامات على التخلي عن ضغوطها على أرمينيا. وفي الوقت نفسه، تدرك القوى الإقليمية الكبرى الأخرى المحيطة بأرمينيا - إيران وروسيا وتركيا - أن الغرب قد تمادى. وعلى رغم اختلافاتهم العديدة، إلا أن لديهم أجندة مشتركة مع أذربيجان لتقليص مكانة الغرب الاستراتيجية في المنطقة ورفع مكانتهم. ففي أبريل (نيسان)، على سبيل المثال، أعلن كبار المسؤولين الأميركيين والأوروبيين في بروكسل عن حزمة مساعدات اقتصادية لأرمينيا. ورداً على ذلك، أصدرت كل من إيران وروسيا وتركيا بيانات متطابقة تقريباً تندد بسعي الغرب الخطير إلى "المواجهة الجيوسياسية" وهي بيانات قصدت الإشارة إلى التدخل الغربي في أرمينيا.
إن المواجهة الجديدة بشأن أرمينيا ليست مجرد مسألة مواقف. فمن الواضح أن حكومة باشينيان قد خلُصت إلى أن مستقبلها يكمن مع الغرب. وعلى رغم أن هذا التحول منطقي على المدى الطويل، إلا أنه ينطوي على العديد من الأخطار على المدى القصير. فأرمينيا تعتمد بشكل كبير على الطاقة والتجارة الروسيتين: فموسكو تزودها بـ 85 في المئة من الغاز، و90 في المئة من القمح، وجميع الوقود لمحطتها النووية الوحيدة لتوليد الكهرباء، التي توفر ثلث إنتاج الطاقة الكهربائية في أرمينيا. ولا يزال اقتصاد أرمينيا نفسه موجهاً بشكل كبير نحو السوق الروسية. وتمنح هذه الروابط موسكو نفوذاً اقتصادياً هائلاً؛ وقد تسعى إلى إخضاع البلاد لإرادتها من خلال رفع أسعار الطاقة بشكل حاد أو تقليص التجارة الأرمينية.
وفي الوقت نفسه، يخشى المسؤولون والخبراء الأرمن من تهديدات عسكرية أكثر مباشرة لسيادة البلاد. أحدها هو أن لدى أذربيجان، بالتنسيق مع روسيا، القدرة العسكرية على السيطرة على ممر زانغيزور بالقوة، إذا اختارا ذلك، في غضون ساعات قليلة. والثاني هو أن القوى المحلية المارقة في أرمينيا، بدعم أجنبي، يمكن أن تحاول إطاحة حكومة باشينيان عن طريق العنف أو الاحتجاجات المنظمة في الشوارع في محاولة لزعزعة استقرار البلاد والسماح لحكومة أكثر ولاءً لروسيا بتولي السلطة.
وتأتي هذه التهديدات بالتوازي مع الدبلوماسية. إذ تواصل أذربيجان متابعة المحادثات الثنائية مع أرمينيا للتوصل إلى اتفاق سلام لتطبيع العلاقات بين البلدين. وإلى حد كبير، تعتمد قدرة الخصمين التاريخيين على تجنب الانزلاق مرة أخرى إلى الحرب، على مدى استعداد القوى الغربية، على رغم التزاماتها في أوكرانيا، لاستثمار الموارد السياسية والمالية لضمان مثل هذه التسوية.
الغموض الجورجي
كما لو أن خطر أرمينيا الضعيفة بنحوٍ كبير، والممر البري الروسي الإيراني الجديد، لم يكونا كافيين، يواجه الغرب أيضاً تحدياً متزايداً من جورجيا المجاورة لأرمينيا. ففي الوقت الذي تحاول فيه أرمينيا التحرك غرباً، يبدو أن حكومة جورجيا، البلد الذي حظي بدعم كبير من أوروبا والولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة، تفعل العكس.
لدى روسيا تاريخ طويل من التدخل في جورجيا في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي، ويكن معظم الجورجيين كراهية عميقة لموسكو. وفي عام 2008، قطعت جورجيا علاقاتها الدبلوماسية بعد أن عبرت القوات الروسية الحدود واعترفت باستقلال إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية الانفصاليين. وأظهر استطلاع للرأي أجري في عام 2023 أن 11 في المئة فقط من الجورجيين المستطلعة آراؤهم أرادوا التخلي عن التكامل الأوروبي لمصلحة توثيق العلاقات مع روسيا.
ومع ذلك، فإن حزب "الحلم الجورجي" الحاكم - الذي أسسه وموله أغنى رجل أعمال في جورجيا، بيدزينا إيفانيشفيلي الذي يتولى السلطة منذ عام 2012 - يحرق الجسور مع شركائه الغربيين. والسمةُ الأكثر وضوحاً لهذا التحول، وإن لم تكن السمة الوحيدة، هي قانون "النفوذ الأجنبي" المثير للجدل، الذي يسعى إلى الحد من أنشطة أي منظمة غير حكومية تتلقى أكثر من 20 في المئة من تمويلها من الخارج - أي جميعها تقريباً - وربما تجريمها. وقد أثارت هذه الخطوة احتجاجات واسعة، بخاصة من الشباب الذين يطلقون على هذا القانون اسم "القانون الروسي" لأنه يحاكي قانون "العملاء الأجانب" الذي أقرته موسكو عام 2012، ويبدو أنه مصمم بشكل مماثل لخنق المجتمع المدني وإزالة الضوابط على الممارسة التعسفية للسلطة. ويشكل القانون أيضاً صفعة للاتحاد الأوروبي، إذ يأتي بعد أشهر فقط من عرض بروكسل رسمياً وضع جورجيا ضمن الدول المرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
يحتفظ معظم الجورجيين بكراهية عميقة لموسكو
يبدو أن الأولوية الأولى لحزب "الحلم الجورجي" هي الساحة الداخلية: تعزيز سلطته والقضاء على المعارضة. ويركز الحزب بشدة على محاولة الفوز - بأي وسيلة ممكنة - بولاية رابعة غير مسبوقة في الانتخابات البرلمانية في جورجيا في أكتوبر (تشرين الأول). ومع ذلك، فإن التحول الحاد المناهض للغرب يبعث برسائل ودية إلى روسيا. ومن المقولات الأخرى للحزب الحاكم أنه لن يسمح لجورجيا بأن تصبح "جبهة ثانية" في الحرب في أوكرانيا.
وكما تفعل القيادة الأذربيجانية، فإن الرجال الذين يديرون جورجيا يفهمون موسكو. فــإيفانيشفيلي بصفته مؤسس حزب "الحلم الجورجي" والحاكم الفعلي للبلاد، جمع ثروته في روسيا في التسعينيات وتعلم الظفَر في بيئة الأعمال القاسية في تلك الحقبة؛ وقد جنى زُمرة من الأشخاص المحيطين به الكثيرَ من المال من روسيا منذ بدء الحرب الأوكرانية. وعلاوة على ذلك، فتحت جورجيا أبوابها للأصول التجارية والمصرفية الروسية، واستؤنفت الرحلات الجوية المباشرة بين البلدين. ويبدو أن النخبة الجورجية مستعدة لدفع الثمن: فأحد المطلعين على بواطن الأمور، وهو المدعي العام السابق أوتار بارتسخالادزه، يخضع الآن لعقوبات أميركية.
إذا تمكنت المعارضة الجورجية من التغلب على انقساماتها التاريخية والفوز هذا الخريف - وهي مهمة ليست يسيرة - فإن مسار جورجيا المؤيد لأوروبا سوف يُستأنف. ولكن هناك الكثير من الأحداث المحتملة قبل ذلك. فالأزمة الدائمة في تبليسي تبدو الآن مضمونة للفترة المتبقية من هذا العام، إن لم يكن لما بعد ذلك. ولن يتراجع أي من الطرفين بسهولة. فقد خسرت الحكومة كل رصيدها لدى شركائها الغربيين، ومع ذلك فإن طلب المساعدة من روسيا سيكون خطيراً للغاية. وتضيف حالة عدم اليقين هذه ورقة رابحة أخرى لأي حسابات أكبر حول الاتجاه الاستراتيجي لجنوب القوقاز.
فقدان السيطرة
يدرك بوتين قيمة جنوب القوقاز بالنسبة لروسيا، ولكن منذ عام 2022، لم يكن لديه وقت كافٍ لذلك. ليس لدى موسكو سياسة مؤسسية واضحة تجاه المنطقة ككل - أو تجاه مناطق أخرى خارج أوكرانيا. وقد أبرزت الحرب عادة اتخاذ قرارات شخصية للغاية من قِبل زعيم في الكرملين الذي يبدو غير مهتم بالتشاور أو الاستماع إلى تحليل تفصيلي.
وقد ترك هذا الأمر دول المنطقة الثلاث بمقاربات مختلفة بشكلٍ لافت للنظر. فـعلييف الذي يقود أذربيجان، بعلاقته مع الرئيس الروسي التي استمرت عقدين من الزمن، يبدو أكثر ارتياحاً لطريقة بوتين في التعامل مع الأمور. ويمكنه أيضاً أن يستمد الثقة من الدعم الشخصي والمؤسسي القوي الذي يحصل عليه من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وفي حالة جورجيا، التي لا تربطها بروسيا علاقات دبلوماسية، لا توجد اجتماعات وجهاً لوجه أو محادثات منظمة. (إذا كان الزعيم الفعلي لجورجيا، إيفانيشفيلي، قد التقى بوتين في أي وقت مضى، فإن ذلك كان في التسعينيات قبل فترة طويلة من أن يصبح أي من الرجلين لاعباً سياسياً كبيراً). ومرة أخرى، كل شيء هنا غير رسمي إلى حد كبير ويجريه وسطاء. وهنا أيضاً، تكمُن الأعمال التجارية في قلب علاقة المنفعة المتبادلة. ومن المفارقات أن الدولة الوحيدة في المنطقة التي تربطها علاقات رسمية ومؤسسية طويلة الأمد مع روسيا - أرمينيا - هي أيضاً الأكثر حرصاً على قطع العلاقة.
كل هذه المتغيرات تجعل السلوك الروسي في المنطقة، كما في أماكن أخرى، غير قابل للاستقراء إلى حد كبير. فمنذ استيلاء أذربيجان على ناغورنو قره باغ، تصاعدت التكهنات حول ما يمكن أن يحدث في أبخازيا، وهي منطقة انفصالية متاخمة لروسيا في الركن الشمالي الغربي من جورجيا والتي كانت منطقة نزاع منذ التسعينيات. هل يمكن أن تتحرك روسيا لضمها بالكامل، وبالتالي تأمين قاعدة بحرية جديدة على البحر الأسود؟ أو - كما اقترحت بعض الإشاعات الأخيرة - هل يمكن أن تكون هناك صفقة مماثلة لتلك التي أُبرمت مع أذربيجان، حيث تسمح موسكو لجورجيا بالزحف إلى أبخازيا من دون معارضة، مقابل تخلي جورجيا عن طموحاتها الأوروبية الأطلسية؟ أي من هذين الأمرين ممكن نظرياً – على رغم أنه من المحتمل أيضاً أن بوتين يُفضل الوضع الراهن وسيواصل التركيز على أوكرانيا.
في الوقت نفسه، فإن الفائدة الأكثر وضوحاً التي استمدتها دول جنوب القوقاز من الوضع ما بعد عام 2022 - علاقة اقتصادية أقوى مع روسيا - غير مستقرة. فالعلاقات التجارية الوثيقة مع روسيا تعطي موسكو نفوذاً خطيراً، بخاصة في حالة أرمينيا وجورجيا اللتين لديهما موارد وخيارات بديلة أقل يمكن اللجوء إليها للحصول على الدعم. وإذا ما شُددت العقوبات الثانوية الغربية على الشركات التي تتاجر مع روسيا، فإن ذلك من شأنه أن يضغط على الوسطاء في جنوب القوقاز.
ولا يمكن القول إن كل شيء يسير في مصلحة بوتين. فالانسحاب العسكري الروسي من أذربيجان علامةُ ضعف. وكذلك انحياز أرمينيا إلى الغرب ومقاومة الشعب الجورجي الجماعية لما تسميه المعارضة "القانون الروسي". ولكن إذا كانت روسيا تبدو أضعف في المنطقة، فإن الغرب لا يبدو أقوى. ثمة ديناميكيات اجتماعية كبيرة مؤيدة لأوروبا تلعب دورها هنا، لكنها تواجه منافسة قوية من القوى السياسية والاقتصادية التي تجذب جنوب القوقاز في اتجاهات مختلفة للغاية.
في الشهر الماضي، أرست الحكومة الجورجية مناقصة تطوير ميناء جديد في المياه العميقة على البحر الأسود في أناكليا على شركة صينية مثيرة للجدل. وكان هذا المشروع يُدار من قِبل تحالف شركاتٍ تقوده الولايات المتحدة. وبعبارة أخرى، فإن أوروبا والولايات المتحدة تتنافسان على النفوذ ليس فقط مع روسيا، ولكن أيضاً مع قوى أخرى. ولا يمكن التسليم بأي شيء في منطقة متقلبة بنحوٍ غير مسبوق.
*توماس دي وال هو زميل بارز في مؤسسة كارنيغي-أوروبا ومؤلف كتاب "نهاية مصطلح الخارج القريب" The End of the Near Abroad
مترجم عن "فورين أفيرز"، 3 يونيو 2024