ملخص
الملالي تأكدوا من أمرين: أولهما أن أي صدام مباشر مع إسرائيل هو صدام مع أميركا، وهذا لا يريدونه، وثانيهما أن أجواء إيران مكشوفة أمام الطائرات والصواريخ والمسيرات الإسرائيلية، وهذا ما يحول دون المغامرة
عودة الطموح الإمبريالي ليست مجرد نزوة قائد سلطوي يحلم بالمجد لنفسه وبلده بمقدار ما هي استعادة لرؤية قديمة في أوضاع جديدة للمصلحة القومية الحيوية، ولا هي مقتصرة على قوى دولية كبرى، لأن الزحام شديد على الطموح الإمبريالي بين القوى الإقليمية الكبرى، لكن كلفة المشاريع الإمبراطورية هائلة، وإذا كان "الحكم الانتحاري" بحسب نظرية المؤرخ أرنولد توينبي من أسباب سقوط الإمبراطوريات، فإن السبب المهم الآخر هو "العجز عن التمويل بعد التمدد الواسع" كما يرى المؤرخ بول كينيدي. والفارق كبير بين ظروف الإمبرياليات القديمة وظروف الإمبرياليات الجديدة أو المتجددة، القديمة كانت تسطو على ثروات الأطراف، والجديدة محكومة بالإنفاق على الأطراف.
في كتاب "سقوط الإمبراطوريات: روما أميركا ومستقبل الغرب"، يقول المؤلفان بيتر هيذر وجون رابلاي "إن روما والغرب الصناعي أثرياء من الملحقات، لكن الإنفاق على الأطراف أضعف المركز الإمبراطوري وخلق هجرة وصراعات إقليمية وانحدار الموازنة الرومانية". ودرس روما لقادة الغرب، كما يقول المؤلفان هو أنه "لا يمكن إعادة تأسيس النفوذ، والممكن هو خلق نظام عالمي يكيف القوى الصاعدة ويحمي المصالح الأساسية للغرب". ويرى البروفسور جون ميرشايمر في كتاب "تراجيديا سياسات القوى الكبرى" أن الدول "تبالغ دائماً في قوتها لضمان بقائها"، وهذا بالطبع ما تفعله القوى الإقليمية حالياً، لكن الدروس الصعبة معلقة فوق رؤوس الجميع.
أميركا تعبت من الإنفاق على مشروعها الإمبريالي الواسع عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، والاتحاد السوفياتي سقط اقتصادياً من الداخل، حيث مسؤولية المركز عن الأطراف. روسيا متعبة من الإنفاق على حرب أوكرانيا التي هي جزء حيوي من طموحها الإمبريالي الأوراسي. أوروبا التي أثرت في حساب مستعمراتها أيام الإمبراطوريات تجد صعوبة اليوم في العودة للإنفاق العسكري لحماية نفسها بعد عقود من الاتكال على الإنفاق الأميركي والقوة الأميركية. الصين التي توحي أنها ضد المشاريع الإمبريالية تنفق نحو تريليون دولار على مشروع لوجستي اقتصادي عنوانه "الحزام والطريق"، كما تنفق مئات المليارات على التسلح بما حد من صعود النمو الاقتصادي في الداخل مع زيادة الالتزامات حيال الخارج.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والمفارقة أن القوى الإقليمية تتصرف، إلا ضمن استثناءات محددة كما حال الهند وجنوب أفريقيا والبرازيل، كأنها قادرة على تمويل طموحاتها الإمبريالية بلا حدود. إيران مثلاً تنفق كثيراً على برنامجها النووي وإنتاج الصواريخ والمسيرات، وتمول فصائل مسلحة مرتبطة بها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وغزة، بحيث يتمدد مشروعها الإمبريالي الإقليمي ويزداد ضعف اقتصادها الداخلي لأسباب تتجاوز العقوبات الأميركية المفروضة عليها. تركيا تجاهر بالعودة لجذورها السلجوقية والعثمانية وتبحث عن نفوذ إقليمي وتقيم قواعد عسكرية في أجزاء من سوريا والعراق وليبيا وتلعب أدواراً في القوقاز إلى جانب الدور المساند لأذربيجان ضد أرمينيا، لكنها لا تجد حلاً لمشكلاتها الاقتصادية والمالية وانهيار الليرة السريع في مقابل الدولار. وإسرائيل لا تزال تحلم بمشروع "إسرائيل الكبرى" أقله ضمن فلسطين من البحر إلى النهر، وهي لم تعد قادرة على كلفة حربها في غزة وتهجير مستوطنيها من غلاف غزة والجليل الأعلى، وتحتاج إلى دعم مالي وعسكري وسياسي أميركي دائم وغير مسبوق، وأحدث مساعدة أمر بها الكونغرس هي 24 مليار دولار، ولا شيء يوحي أن المتاعب والمصاعب تحول دون الاستمرار في الطموح الإمبريالي، وليس من السهل توصيف هذه السياسات بأنها واقعية وعقلانية.
في كتاب "كيف تفكر الدول: عقلانية السياسية الخارجية" يقول جون ميرشايمر وسيباستيان روزاتو:"هناك فارق بين ما هو عقلاني للبلد وما هو عقلاني للقادة". فلاديمير بوتين مثلاً "اتخذ القرار في مارس (آذار) 2021 بغزو أوكرانيا لكنه لم يخبر مستشاريه إلا قبل أيام من بدء الغزو في فبراير (شباط) 2022".
والانطباع السائد لدى المفكرين السياسيين في الغرب هو أن ملالي إيران متطرفون لكنهم ليسوا انتحاريين، والمثال الأخير بالغ التعبير، إسرائيل قصفت القنصلية الإيرانية في دمشق وقتلت عدداً من قادة الحرس الثوري، ولا مهرب أمام طهران من الرد على إسرائيل، لا من خلال أذرعها كما هي العادة بل مباشرة من داخل إيران، وهي ردت بطوفان مسيرات وصواريخ جرى صدها بمساهمة أميركية وبريطانية وفرنسية، وحين ردت إسرائيل على الرد بقصف على مواقع عسكرية في أصفهان قريبة من المراكز النووية، حاولت إيران التخفيف من الأمر والإيحاء أن ما حدث كان "لعبة أطفال"، ومعنى ذلك أن الملالي تأكدوا من أمرين: أولهما أن أي صدام مباشر مع إسرائيل هو صدام مع أميركا، وهذا لا يريدونه، وثانيهما أن أجواء إيران مكشوفة أمام الطائرات والصواريخ والمسيرات الإسرائيلية، وهذا ما يحول دون المغامرة. كذلك الأمر بالنسبة إلى تركيا التي تمارس سياسة "رقاص الساعة"، بحيث تنتقل من "صفر أزمات" مع الجيران إلى 100 في المئة أزمات، ثم إلى صفر أزمات من جديد، وهكذا دواليك. روبرت كاغان من مؤسسة "بروكينغز" يميز بين "الإمبريالية والهيمنة"، الإمبريالية هي "إجبار الآخرين على الخضوع للنفوذ"، والهيمنة هي "حال أكثر منها غاية"، وثمن الأولى أكبر.
عام 1940 في اجتماع لكبار المسؤولين اليابانيين قال وزير الخارجية يوسوكي ماتسوكا "اليابان تستطيع أن تبحث عن عودة للتعاون مع أميركا وبريطانيا، ولكن فقط بشروط هذين البلدين"، وهذا يعني العودة لـ"يابان صغيرة" كما قال وزير الحرب ثم رئيس الوزراء هيديكي توجو. ولم يكن ذلك مقبولاً من قادة اليابان، فشنوا حرباً كان معظمهم يؤمن بأنهم سيخسرونها، بعد الهزيمة في الحرب قبلوا التسوية بشروط الجنرال دوغلاس ماك آرثر القاسية.
والظاهر أن العقلانية نفسها نسبية.