Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الماحيا"... خمر فقراء المغرب طريق سريع للموت

توفي 16 شخصاً في قرية بعد تناولهم كميات فاسدة من المشروب ذي الجذور اليهودية

يحظى مشروب "الماحيا" بشعبية بسبب رخص سعرها (مواقع التواصل)

ملخص

تقول مصادر تاريخية متطابقة إن "الماحيا" يستخرج من التين بعد عصره وتخميره ويعود تاريخياً إلى يهود المغرب في القرن الماضي وسط أسوار أحياء "الملاح" المعروفة بمأوى اليهود المغاربة داخل المدن العتيقة في المغرب.

أعادت الفاجعة التي شهدتها بلدة سدي علال التازي القروية في المغرب قبل أيام قليلة بوفاة 16 شخصاً وتسمم العشرات من جراء استهلاك خمور فاسدة تسمى "الماحيا" (ماء الحياة)، إلى الواجهة موضوع "خمور الفقراء" التي يستهلكها العاطلون والمعوزون وذوو الدخل الضعيف خصوصاً في القرى وهوامش المدن.

وإذا كان لمسكر "الماحيا" قصة تاريخية مع يهود المغرب قبل وخلال الاستعمار الفرنسي وبعد استقلال البلاد في القرن الماضي، فإن هذا المشروب الذي بات يعرف بكونه "خمر الفقراء" صار تهديداً كارثياً محدقاً بصحة وحياة هذه الشريحة من المجتمع، بسبب أخطارها المرتبطة بطريقة تصنيعها والمواد التي تضاف إليها.

نبذة تاريخية

تفيد مصادر عدة تاريخية متطابقة بأن "الماحيا" الذي يستخرج من التين بعد عصره وتخميره كان منتشراً لدى يهود المغرب في القرن الماضي، وسط أسوار أحياء "الملاح" المعروفة بكونها كنات تأوي اليهود المغاربة داخل المدن العتيقة بالمملكة.

وكان يهود الملاح يحتفون بـ"ماء الحياة" باعتباره المشروب المحبب والمقرب إلى جميع فئات المجتمع اليهودي بالمغرب، نساءً ورجالاً وحتى أطفالاً وحاخامات، وفق الباحث جوزيف طوليدانو المتخصص في تاريخ الملاحات (جمع ملاح) كما ورد في الكتاب المعنون "لغة وفلكلور اليهود المغاربة" للباحث والجامعي اليهودي بينحاس بيير كوهن.

وبحسب طوليدانو فإن مسكر "الماحيا" كان مشروب العائلة اليهودية في المجتمع المغربي بامتياز مثل الشاي بالنعناع لدى المسلمين المغاربة، إذ كانت تكفي رشفات منه لتعم البهجة داخل الأسرة بمختلف فئاتها وأعمارها.

وتبعاً للمصدر فإن "الماحيا" أيضاً كان يرافق اليهودي المغربي في جميع المناسبات الشخصية والأسرية، سواء كانت مناسبات سعيدة مثل زفاف أو غيره، أو حتى في المناسبات الأليمة مثل وفاة أو ما شابه ذلك.

 

 

مصدر تاريخي آخر يتمثل في كتاب "ساعات يهودية" لمؤلفته الباحثة الفرنسية باسكال سيسيت، في الثلاثينيات من القرن الـ20، أورد بأن مكوث اليهودي المغربي بين أسوار الملاح بصورة شبه منغلقة دفعه إلى استنشاق "التحرر" في ارتشاف كؤوس "ماء الحياة".

وفق باسكال يضع اليهود المغاربة "ماء الحياة" على موائدهم علانية في المناسبات، ولكنهم يحتفون بالشرب خصوصاً لمناسبة "الشبات"، أي يوم السبت، وهو يوم الراحة في الديانة اليهودية.

وليس الابتهاج والشعور بالنشوة ومحاولة الخروج من "الانغلاق المجتمعي" وحده الذي كان يجعل اليهودي المغربي محتفياً بـ"الماحيا"، بل أيضاً كانت لها دواع طبية، فقد كانت تداوي ـ وفقهم ـ أوجاع البطن وآلام الأسنان والجروح الجسدية.

مراحل التصنيع

وجمعت كؤوس الخمر "الماحيا" بين اليهود المغاربة وجيرانهم المسلمين في أرجاء البلاد، وبمرور السنوات بعد أن غادر اليهود المغاربة أحياء الملاح، استمرت هذه الخمر في الرواج والتداول، والتصقت أكثر بطبقة الفقراء لرخص ثمنها مقارنة مع باقي الخمور.

وبخصوص طريقة إعداد "الماحيا" أفاد السيمو، أحد المشتغلين السابقين السريين في صناعة هذا المسكر، بأن الأمر يتعلق بالتين المجفف الذي يسمى "الشريحة" بالمغرب، على أن تكون من النوع الرديء لا الجيد.

أول مرحلة بعد جمع حبات "الشريحة"، وفق المتحدث، تتمثل في تخزينها وتخميرها في مكان رطب مثل برميل أو تحت الأرض، إلى أن تصل إلى درجة التحلل، وذلك بهدف أن تكون عملية العصر يسيرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بعد عملية التخمير - يكمل العامل - تأتي عملية طبخ كميات التين المجفف في آنية من الألمنيوم مربوطة بأنبوب نحاسي يستعمل في استخراج عصير "الشريحة"، مورداً أن عملية التعصير تظل أهم عملية في صناعة "الماحيا"، قبل أن يتم تعبئة ليترات الخمر في قنينات أو براميل بحسب الكميات المستخرجة، من أجل بيعها للزبائن.

واسترسل بأن هذه الصناعة العشوائية تتم خلسة بعيداً من أعين السلطات الأمنية، وذلك في قبو أو مستودع أو ورشة سرية، إذ يكون ظاهر المكان لا يوحي بما يحصل داخله للتمويه والابتعاد عن المساءلة والملاحقة الأمنية.

واستدرك المتحدث عينه بأن "المشكلة أن بعض المشتغلين في تصنيع (خمر الفقراء) لم يعودوا يكتفون بما سبق من عمليات التخمير والطبخ والتعصير، بل صاروا يضيفون مواد خطرة في مرحلة طبخ التين المجفف الرديء، بهدف الرفع من الجرعة المسكرة لـ(الماحيا)".

خمر المهمشين

واشتهرت "الماحيا" بكونها خمر الفقراء في المغرب، بسبب طريقة تصنيعها البسيطة والبدائية أحياناً، ولكن خصوصاً بسبب رخص سعرها في الأسواق الشعبية ولدى الباعة الذين يسمون في المغرب "الكرابة".

تقول في هذا السياق الباحثة السوسيولوجية ابتسام العوفير إن سعر الليتر الواحد من "الماحيا" يراوح ـ بحسب ما يروج ـ ما بين 20 درهماً (دولارين) للأنواع الرديئة و100 درهم (10 دولارات) للنوع المتوسط، وهو ثمن بسيط مقارنة مع أنواع الخمور الأخرى، الشيء الذي يفسر ارتباط الزبائن المدمنين من الطبقات المعوزة بهذا الصنف.

واسترسلت الباحثة عينها بأن اللافت في رواج هذا النوع من الخمور، كونه ينتشر بكثرة في المناطق المهمشة، خصوصاً في البوادي والأرياف، أو في هوامش وضواحي المدن والحواضر الكبرى.

 

 

وأكملت بأن الفاجعة الأخيرة كانت بلدة سيدي علال التازي مسرحاً لها بسقوط عشرات الضحايا، حتى إنه قيل إن "القرية كلها كانت مخمورة بـ(الماحيا) في ذلك اليوم، وقبل أشهر خلت كانت فاجعة أخرى في مدينة القصر الكبير المهمشة تنموياً، بسبب مزج هذا المسكر بمادة (الميثانول) السامة".

ولفتت العوفير إلى أن "المواطن المهمش البسيط تحت ضغوط الحياة، يحاول البحث عن طرق ينسى بها همومه، كما يعتقد، فيلجأ إلى (الماحيا) لأنها رخيصة، ولأنها تنتمي إلى محيطه الاجتماعي البسيط".

حرب أمنية

هذا البحث عن "النشوة التي تنسي الهموم وترمم أعطاب الحياة" أدت غير مرة إلى كوارث اجتماعية وإنسانية اهتز لها المغرب، وهو ما حصل قبل أيام في بلدة سيد علال التازي بوفاة 16 شخصاً وتسمم العشرات، جراء تناول "الماحيا" مخلوطاً بمواد يبدو أنها سامة.

وفي سبتمبر (أيلول) 2022 توفي 21 شخصاً بسبب تناول "الماحيا" في مدينة القصر الكبير، وشكلت موضوعاً إعلامياً دسماً في كبريات المنابر الصحافية والإعلامية العالمية، فيما حكم على مروج هذه الخمر القاتلة بـ15 سنة سجناً.

وتبذل المصالح الأمنية المغربية مجهودات مضنية في سبيل اجتثاث ورشات صناعة "الماحيا" ومحاصرة مروجي "خمر الفقراء" في الأقبية والمستودعات السرية، إذ تلقي القبض بصورة مطردة على مروجي وصانعي المشروب في مختلف مناطق البلاد، وحجز وإتلاف معدات صناعة هذه الخمر الرديئة.

وأمام صمود رواج "الماحيا" على رغم حملات التوقيفات والمطاردات الأمنية، ارتأت الجمعية المغربية لحقوق المستهلك أن يكون الحل عبارة عن الاستثمار في هذه الخمر وتقنينها، مثلما حصل مع القنب الهندي، باعتبار "الماحيا منتجاً وتراثاً محلياً خاصاً بالمغرب"، وفق تعبير رئيس الجمعية بوعزة الخراطي.

من جانبه سبق للوزير المنتدب المكلف الموازنة فوزي لقجع أن عبر عن رأيه بخصوص ترويج "الماحيا" بقوله إن "السعر يجب أن يكون في المستوى حتى لا نشجع المنتجات المهربة، وصناعة المواد الكحولية بطريقة غير قانونية، والتي فيها خطر حقيقي على صحة المواطن كما هي الحال بالنسبة إلى الماحيا".

المزيد من منوعات