Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محنة "لبنان السياسي" ودور "لبنان الجغرافي"

ليس أخطر من الأزمة سوى رهان طرف عليها للوصول إلى السلطة وخدمة المحور الإقليمي الذي ينتمي إليه

قصف إسرائيلي يجتاح الحقول القريبة من قرية شبعا على الحدود الجنوبية اللبنانية مع إسرائيل، 14 يونيو 2024 (أ ف ب)

ملخص

فرنسا، إلى جانب الفاتيكان، الدولتان الوحيدتان اللتان تنظران إلى لبنان في ذاته ضمن شبكة المصالح المعقدة في الشرق الأوسط.

ليس أخطر من المحنة التي تضرب لبنان سوى رهان طرف قوي على الأزمة لتوظيفها في أمرين: أولهما خدمة هذا الطرف في القبض على السلطة والمال، وثانيهما خدمة المحور الإقليمي الذي ينتمي إليه في ضمان النصر الجيوسياسي والاستراتيجي في صراعات المنطقة ومستقبلها.

وليس أسوأ من الفشل وتفشيل الآخرين في مساعيهم لمساعدة لبنان على الخروج من المحنة سوى المفاخرة بالفشل كأنه قمة إثبات الذات، والاعتداد بتفشيل الآخرين كأنه انتصار في معركة العناد "الوطني".

لكن من يدفع الثمن هو لبنان واللبنانيون. فالفاشل في المساعي لملء الشغور الرئاسي بانتخاب رئيس يجمع اللبنانيين ويستعيد الجمهورية المخطوفة ليس الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان، ولا "الخماسية" العربية والدولية، بل التركيبة السياسية التي تدمن الدوران في الفراغ.

والخاسر ليس وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه، ولا المستشار الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتاين في تقديم خريطة طريق لتهدئة على جبهة الجنوب، وتجنيب البلد دمار حرب واسعة، وإيجاد تسوية تكرس حدود لبنان الدولية، بل الشعب اللبناني الذي يعاني التدمير والتهجير في الجنوب، ومن مناخ الحرب الذي ضاعت فيه على كل لبنان فرصة موسم الصيف السياحي.

جان إيف لودريان ليس مجرد موفد للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. ولا هو فقط وزير سابق للدفاع ثم للخارجية. إنه شخصية بارزة في الحياة السياسية والثقافية الفرنسية. وهو يحمل هموم فرنسا "اللبنانية" واهتماماتها في عالم قاس متغير يراه حتى رئيس الصين شي جينبينغ عالم "اللايقين".

فرنسا، إلى جانب الفاتيكان، الدولتان الوحيدتان اللتان تنظران إلى لبنان في ذاته ضمن شبكة المصالح المعقدة في الشرق الأوسط. الفاتيكان يراهن على ما سماه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني "البلد-الرسالة" كنموذج حي للعيش المشترك بالمعنى السياسي في الإطار الديمقراطي. والبابا فرنسيس يأمل في أن يواصل لبنان بمساعدة المجتمع الدولي السير على طريق "الولادة الجديدة".

والمونسنيور بول ريتشارد غالاغر وزير خارجية الفاتيكان يدعو إلى التوقف عن استخدام لبنان من أجل "المصالح الخارجية". ويرى الحاجة إلى العمل لتصبح الرسالة حقيقة واقعة". أما الكاردينال ليوناردو ساندي، فإن الوصية بالنسبة إليه هي "أن يبقى لبنان أميناً لهويته بين مختلف دول الشرق الأوسط". وهذه الهوية هي الشرط لازدهار الاعتراف بالآخر في المنطقة.

فرنسا لا تزال حريصة على دعم لبنان، الذي بدأت علاقاتها بالمسيحيين فيه قبل الإمارة والمتصرفية في القرن الـ14، من الملك فرنسوا الأول إلى ماكرون مروراً بالإمبراطور نابوليون الثالث الذي تدخل عسكرياً عام 1860 والجنرال غورو الذي أعلن "لبنان الكبير" والجنرال ديغول الذي عاش في بيروت بين 1929-1931 وسواهم. هي ترى العلاقة مع الوطن الصغير مركز العلاقات مع المنطقة وليست على هامشها. وهي صاحبة الدور المهم في القوات الدولية المنتشرة في الجنوب، والدولة الوحيدة التي جاء رئيسها ماكرون إلى بيروت مرتين بعد تفجير المرفأ، وحاول ترتيب حل ينقذ لبنان.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في كل محادثات في الإقليم والعالم يضع ماكرون لبنان على أجندة المحادثات. ولا يبدل في الأمر أن قدرتها محدودة. الآخرون ينظرون إلى لبنان فقط من منظار مصالحهم الواسعة والمعقدة في المنطقة والعالم. وفي مقدمة هؤلاء أميركا الدولة العظمى وصاحبة الدور الأول في الشرق الأوسط. والأمثلة لا تحصى على تقلبات السياسة الأميركية حيال لبنان والمنطقة.

في كتاب "الدبلوماسية الأميركية تجاه لبنان" الذي صدر حديثاً للسفير الأميركي السابق في بيروت ديفيد هيل يسجل المؤلف الخبير أن "التنافس في الشرق الأوسط على السلطة والأفكار والعقيدة والثروة يجري على أرض لبنان، وبالنظر إلى هذا الخليط تجد قوة عظمى مثل الولايات المتحدة نفسها ملزمة في بعض الأحيان بدور فاعل في لبنان بسبب صراعات النفوذ الإقليمية، وليس بسبب لبنان نفسه". والكل يعرف أنها تركز في النظر إلى لبنان على ما يهم إسرائيل بالدرجة الأولى، سواء أيام السلاح الفلسطيني أو أيام السلاح الإيراني.

ويروي في مذكراته وزير الخارجية الأميركي الراحل جورج شولتز أيام الرئيس ريغان أن سلفه الدكتور كيسنجر طلب منه "عدم التركيز على لبنان، والتركيز على أزمة الشرق الأوسط"، لكن شولتز رفض وقال له: "أنا لا أشتري هذا المنطق". وما حدث هو أن إسرائيل أفشلت جهود شولتز، وفرض منطق كيسنجر نفسه.

غير أن جان إيف لودريان كان شديد الرأفة بلبنان، حين حذر خلال جولته السادسة في بيروت من أن "لبنان السياسي" مرشح لأن ينتهي إذا استمر الفراغ، ويبقى "لبنان الجغرافي"، فالواقع أن لبنان السياسي انتهى فعلاً، وإن بقي لبنان الثرثرة السياسية. انتهى حين جرى تعليق الدستور وتعطيل اللعبة الديمقراطية السياسية في انتخاب رئيس الجمهورية لأن "الثنائي الشيعي" عاجز عن إيصال المرشح الذي كان ولا يزال يتمسك به.

انتهى لبنان السياسي وتكرس "لبنان الجغرافي" حين قرر "حزب الله" فتح الجبهة الجنوبية في حرب مع إسرائيل لإسناد "حماس" في حرب غزة من دون قرار رسمي ولا تشاور مع أحد، وسط معرفته بأن أكثرية اللبنانيين ضد فتح الجبهة. أليس لبنان حالياً مجرد "مساحة جغرافية" يلعب فوقها "حزب الله" و"حماس" و"الجهاد الإسلامي" بكل أنواع الأسلحة ضمن "محور المقاومة" واستراتيجية "وحدة الساحات" بقيادة إيران؟ أليس ملعباً لمليوني نازح سوري، بينهم مدربون عسكرياً قام أحدهم أخيراً بإطلاق مئة طلقة من كلاشينكوف على السفارة الأميركية باسم "داعش"؟

حين تموت الحياة السياسية، فإن الجغرافيا تبطل أن تشكل واحدة من مقومات البلد والدولة وتصبح مجرد "ساحة".

المزيد من آراء