ملخص
يغوص المقال التالي في عالم أعمال مقدم البرنامج ريتشارد ميدلي الأدبية، ويسلط الضوء خصوصاً على روايته الجديدة "عيد الأب".
تتسلل أشعة الشمس فوق المدرج الروماني على مقربة من بلدة سيرنسيستر، في كوتسوولدز جنوب غربي إنجلترا، إذ استدعي ضابطا شرطة إلى المكان. وداخل هذا الموقع الأثري التاريخي مفاجأة مروعة حقاً: لقد تم تعليق رجل على صليب خشبي بوضعية جانبية. وهذه ليست كما قد تتصورون بصورة منطقية مقدمة لحلقة مقلقة من سلسلة "جرائم قتل ميدسامر"، أو نسخة حديثة من فيلم الرعب "الرجل الغصن" تجري أحداثها في قلب إنجلترا. مرحباً بكم في الفصل الافتتاحي لرواية ريتشارد ميدلي الجديدة "عيد الأب" Father’s Day.
كانت هذه المشهدية التي أعاد سردها المذيع البارع بكل تميز خلال ظهوره الأخير عبر إذاعة بي بي سي راديو 2. وأخبر مضيفه مايكل بول "هناك رجل تم صلبه... إنه ميت تماماً". لم يكن هناك مفر من ردود الفعل واسعة الانتشار على تويتر/إكس على الملخص الذي ألقاه ميدلي، بكل ما فيه من مبالغات غير عادية والتفصيلات العشوائية المتشعبة حول التاريخ الروماني (هل كنا حقاً في حاجة إلى معرفة سعة المدرج في القرن الأول الميلادي؟). كتب أحد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في رده "كنت أستمع إلى هذا المقطع يوم أمس وكدت أتسبب في حادثة سير".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واكتسب الكاتب البالغ من العمر 68 عاماً، والذي أصبح اسماً مألوفاً عندما كان يقدم برنامج "غود مورنينغ بريتن" على قناة "آي تي في" من أواخر الثمانينيات إلى بداية الألفية الجديدة إلى جانب زوجته جودي فينيغان، ولكنه يقدم البرنامج الآن بمفرده كونه شخصية واقعية تشبه آلان بارتريدج [شخصية كوميدية خيالية محورية في عدد من البرامج التلفزيونية والإذاعية في بريطانيا ابتكرها الممثل ستيف كوغان في أوائل التسعينيات]. ومن المؤكد أنه يتقاسم مع هذه الشخصية بعض الجوانب الغريبة والحكايات المعقدة إضافة إلى الأسلوب غير التقليدي في إجراء المقابلات، (من جانبه يقول ميدلي إنه "لا يكترث على الإطلاق" بالمقارنات، لأن "أخذ نفسك على محمل الجد أمر غير عقلاني").
والأسبوع الماضي فحسب كان بإمكانكم رؤيته خلال برنامج "غود مورنينغ بريتن" وهو يدقق في عملية تجميل الأنف التي خضعت لها كيري كاتونا من مسافة قريبة جداً. ومن بين مواقفه البارزة الأخرى لحظة تأمله فيما إذا كان يجب علينا أن نتعاطف مع الأمير آندرو، وتحقيقه الغريب مع الأمين العام للاتحاد الوطني للسكك الحديد ميك لينش (حين سأله "هل أنت ماركسي أم لا؟")، أو حضوره الذي لا ينسى إلى التصوير بوجه برتقالي زاه بعدما وضع كمية كبيرة من كريم التسمير الخاص بابنته معتقداً أنه مرطب للوجه. لكن هل يمكن لكتاب مقدم البرامج أن يكون أكثر مغامرته التي تسير على خطى آلان بارتريدج من دون قصد؟
ليست رواية "عيد الآب" أول محاولة أدبية لميدلي إذ إنه يكتب روايات منذ أكثر من عقد من الزمن (وصدر له قبل ذلك كتاب سيرة ذاتية بعنوان "آباء وأبناء"، يستعرض فيه علاقته المشحونة بوالده)، وقام هو وفينيغان بإدارة نادي "ريتشارد وجودي" للقراءة لفترة أطول من ذلك، إذ كانا يعطيان موافقتهما على الأعمال الأدبية التجارية التي ترضي الجمهور. وتمتلئ قائمة أعماله الأدبية السابقة بروايات الألغاز والجرائم التي تدور أحداثها في مواقع ذات طبيعة خلابة، غالباً ما تكون في الأماكن التي يمتلك مقدم برنامج تلفزيوني منزلاً ثانياً فيها (من قبيل جنوب فرنسا أو منطقة البحيرات في إنجلترا أو كوتسوولدز كما هي الحال في روايته الأخيرة).
وبعد ذلك الفصل الافتتاحي المثير تأخذ الأمور منحى أكثر ظلامية. ونعلم أن الرجل المتوفى (والذي كان ميتاً تماماً) كان شخصاً مضطرباً ينتحل هوية مزيفة ويتجول في غرف الدردشة على الإنترنت، متظاهراً بأنه فتاة مراهقة تواجه صعوبات تدعى روزي (بينما كان في الواقع رجلاً يدعى آرثر في الأربعينيات من عمره، وحيداً ويهوى قتل القطط ويعيش في غرفة صغيرة في منزل والديه). وكان يجذب الفتيات الصغيرات ليثقن به ثم يشجعهن على البدء بإيذاء أنفسهن أو حتى التفكير في الانتحار. هل كان قاتل آرثر يعرف عن ميوله الفظيعة؟ هل كان مدفوعاً بالانتقام؟
هذه مادة شديدة البشاعة أو أنها كانت ستكون كذلك في الأقل لولا اللمسات التخفيفية الرائعة بأسلوب بارتريدج التي يتركها ميدلي باستمرار. وغالباً ما يتهم الروائيون المشاهير بالقيام ببساطة بالاستعانة بمؤلف مأجور ثم لصق اسمهم على غلاف كتابهم وأخذ كل المجد. ولكن يمكنكم إدراك أن ميدلي لم يفعل ذلك لأن نبرة الراوي ببساطة تشبهه تماماً، وأحياناً تكون الكتابة مباشرة جداً لدرجة اقترابها من أن تصبح شعرية. ويرد في وصف معبر لمؤرخ تلفزيوني تم استدعاؤه لتقديم رؤيته حول عملية الصلب على الطريقة الرومانية "بدا الرجل كذلك الوغد الذي هو عليه".
وفي أجزاء أخرى تتخلل السرد إشارات كثيرة إلى ما يمكن أن يتخيل المرء أنها مواضيع مفضلة لدى الكاتب. وهناك تسلسلات مطولة مخصصة لبحث البطل عن منزل "ثلاث غرف نوم. حديقة للزراعة. إطلالة على القرية عبر واد مشجر. ملكية مستقلة للأرض". يفي بالشروط، يفي بالشروط، يفي بالشروط. ولاحقاً نعلم أن القاتل في الرواية - قبل صلبه - كان دقيقاً تماماً في شأن سلامة هيكل الصليب الخشبي، إذ "جلبت له تجربة العمل مع المهندس المعماري على إعادة ترميم مطبخه أهمية التصميم السليم للهيكل والتأكد من توفار الأدوات والمواد الصحيحة في الوقت المناسب". ولا نعلم إن كان كيفين ماكلاود مقدم برنامج "تصاميم عظيمة" سيكون راضياً عن الهيكل أم قلقاً بعض الشيء.
وهناك دائماً إشارات تحمل نبرة توقير إلى السيارات من خلال ذكر أسماء العلامات التجارية الكاملة، وتحظى أغنية "فيفا لافيدا" لفرقة "كولد بلاي" بنصيب كبير من الحديث. "إنها دائماً تتسبب بارتعاشة في عمودي الفقري" هذا ما يقوله نيك الباحث عن البيوت آنف الذكر، والذي يصادف أنه روائي ناجح يكتب كتباً عن الإمبراطورية الرومانية وتصفها جميعاً صحيفة صنداي تايمز بأنها الأكثر مبيعاً. كما أنه شخص متحمس بشدة لقيام إيدن تيرنر ببطولة المعالجة التلفزيونية التالية لأعماله. ونعلم أن نيك ينطلق في هذه المسيرة المهنية بعدما استوقفه أحد الأساتذة في الجامعة ليقول له بلطف في حديث جانبي "نعتقد أنك يجب أن تكتب روايات وربما مسرحيات أو سيناريوهات، بناءً على فهمك الرائع والغريزي لكينونة الإنسان الروماني". لو كانت كل الجامعات تقدم مثل هذه النصائح المعززة للثقة بالنفس بدلاً من أن تنظر الهيئة التدريسية إلى درجة الفنون الخاصة بك وتسألك عما إذا كنت قد فكرت يوماً ما في التقديم لبرنامج التدريب السريع في الخدمة المدنية.
ويفسر مجال عمل نيك إمطار القراء شبه المستمر بتفاصيل عرضية حول الرومان. ويعد الرجل الدعاية المثالية لنظرية واسعة الانتشار في الثقافة الشعبية (انتشرت على "تيك توك" أكثر المصادر موثوقية) التي تقول إن الرجال يفكرون في الإمبراطورية الرومانية مرة واحدة في الأقل كل يوم. حتى عندما يحاول نيك التمتع بموعد غرامي مع الجميلة سالي طبيبة الأمراض، لا يستطيع مقاومة إضافة بعض الحقائق الرومانية إلى محادثتهما. وككل شخصية أنثوية جميلة ومادة جيدة لدور الحبيبة تتمتع سالي بـ"ما كان سيوصف في عصر سابق بمظهر نجمة سينمائية". نعلم أن هذا المظهر النجمي محدد جداً. ويكتب ميدلي "في الواقع غالباً ما كان يتم الالتباس بينها وبين الممثلة البريطانية فيليسيتي جونز... وأدى هذا التشابه إلى نشر إحدى الصحف الشعبية مقالاً يدعي أن النجمة انتقلت للعيش في كوتسوولدز".
ولكي أكون منصفة لميدلي ليس كتابه بأكمله عن الجوانب الغريبة وشبيهات فيليسيتي جونز. بل إنه بارع جداً في نسج الحبكة بين قصص وأطر زمنية مختلفة، وتطرح القصة الأساس أسئلة مثيرة حول الانتقام والعدالة ومن يحق له تنفيذهما. مع قصة قتل بشعة وموقع جذاب لا بد أنك ستتساءل، هل كان ميدلي مثلما فعل نيك يكتب وهو يضع صفقة تلفزيونية نصب عينيه؟ بالتأكيد إن روايته تمتلك مكونات تجعل منها قصة متكاملة لثلاثية غير تقليدية نوعاً ما، تبثها قناة "آي تي في". وأتساءل عما إذا كان لدى أيدن تيرنر فترة شاغرة في جدوله تسمح له بذلك.
© The Independent