Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الفتى المتوحش في رواية "الشره" يتأنسن خلال احتضاره

البريطانية بلاكمور تستعيد أجواء ساد وزولا وفكرة طفل الغابة

الفتى المتوحش الذي استوحته السينما والروايات (سوشيل ميديا)

ملخص

في رواية "الشره" تسترجع الكاتبة البريطانية أ. ك. بلاكمور اسطورة "الطفل الوحش" وتبتدع شخصية فتى متوحش، يولد شرها، يلتهم اللحوم والأطفال والقمامة، وسعى البشر الى استغلاه لأهداف غير انسانية.

 تتخذ الكاتبة البريطانية أ. ك. بلاكمور من مقال منشور في مجلة طبية، عن قروي فرنسي غريب الأطوار، مولود بالقرب من مدينة ليون الفرنسية في تاريخ مقارب للعام 1772، مصدراً رئيساًّ لروايتها الجديدة "الشَّرِه"، الصادرة في سلسلة "إبداعات عالمية" عن المجلس الوطني في الكويت، بتعريب أحمد البكر. وتُفيد من أعمال المؤرخين لفرنسا في القرن الثامن عشر، ومن أعمال بعض الأدباء الفرنسيين كإميل زولا والماركي دو ساد وغيرهما، على ما جاء في ذيل الرواية.  وبذلك، يشكّل العلم والتاريخ والأدب مصادر تعتمدها الرواية، ناهيك بالواقع الحي. ولعل هذه المصادر تفسّر الفضاء الروائي الجامع بين الواقعي والغرائبي، العادي والخارق، الإنسان والوحش، وسواها من الثنائيات المتضادة.  وبلاكمور كاتبة وشاعرة ومترجمة بريطانية، درست اللغة والأدب في جامعة أكسفورد، وأصدرت مجموعتين شعريتين و روايات عدّة، وفازت روايتها الأولى بجائزة ديزموند إليوت عام 2021.

 في "الشَّرِه"، تتناول بلاكمور عملية توحّش الإنسان لأسباب ذاتية وموضوعية، وترصد تمظهرات هذه العملية، وكيفية تعاطي المحيط المتنوّع معها، والنتائج المترتّبة عليها. وتفعل ذلك من خلال رصد حركة بطل الرواية تاراري، في المراحل العمرية المختلفة، منذ الولادة حتى الموت. وهو الشخصية المحورية في الرواية التي تكمن محوريّتها في الغرائب المنسوبة إليها، والأحداث المتمحورة حولها، والاهتمامات بها من زوايا مختلفة. وهي شخصية يقع عليها الفعل أكثر ممّا يصدر عنها، وحتى في هذه الحالة الأخيرة، فإن الأفعال الصادرة عنها غالباً ما تكون مجبرة على صدورها، وسواء وقع عليها الفعل أم صدر عنها، فإن أفعالها ناجمة عن التفاعل بين أسباب ذاتية خَلْقية، من جهة،  وموضوعية خارجية، من جهة ثانية. وبذلك، تكون الشخصية مسيّرة أكثر منها مخيّرة، ويكون التوحّش قدراً أكثر منه خياراً. فتاراري المولود إنساناً في ظروف معيّنة، بجينات محدّدة، يتحوّل إلى وحش بفعل الظروف  التي تتيح لتلك الجينات فرص التفتّح والنمو.

  توحّش الجوع

 يظهر التوحش في الرواية في قدرة البطل على التهام كميات كبيرة من القطط والفئران،  والأمعاء والمخلّفات، والمواد الطبية، والأدوات الصلبة، والحلى، والأطفال. وهو يفعل ذلك بحكم الضرورة لا الاختيار، فهو يعاني من جوع هائل، "منذ أن تركه نوليت في بطن الغابة وهو يظنه ميتاً، (...) فالجوع هو الهواء الذي يتنفسه، وقماش الحذاء الذي يرتديه في قدميه، والشعر الذي ينمو على ذراعه. وأحياناً يصيبه القلق بسبب أن الجوع هو كل ذاته" (ص 153). والمفارق أن تاراري يعي حالته المرضية المزمنة، ويدرك اختلافه عن الآخرين، وهو ما يعبّر عنه، في حوار، مع الراهبة بيربتوي المكلفة بمراقبته في المستشفى، بالقول: "أنا تاراري، "تاراري العظيم"، أنا "الشَّرِه القادم من ليون"، أنا "هرقل الحنجرة"، أن "الرجل الذي لا قعر له"، أنا "الوحش". وهذا ما يدعوني به الجميع" (ص 36).

 وإذ يعبّر عن توحّشه، في استعراضات على مرأى من آخرين أو في جرائم فردية يقترفها خفية عنهم، فإن تعبيراته التي تعكس ما يمتلكه من أطوار غريبة وما يتمتع به من قدرات خارقة، تتوزّع على مجموعة من المشاهد المقزّزة في الرواية، وتدفع الآخرين إلى استغلاله. يستغله زعيم المشردين لوزو الذي عثر عليه في الغابة بين الحياة والموت، ويجعل منه فقرة في سيرك متجوّل، يلتهم فيها كميات من المخلّفات الميتة. يستغلّه شقيق الزعيم أنطوان، بإجباره على ابتلاع الحلى التي سلبها من بعض المارة. يستغلّه الجرّاح كورفيل في المستشفى، ويتخذ منه حقلاً لتجاربه، ويغذي نزوعه إلى التوحش بتزويده بالقطط الميتة بدلاً من أن يقوم بعلاجه. يستغلّه ضباط فرنسيون في مهمة تجسّسية، على قوات بروسية، بإجباره على ابتلاع كبسولة تتضمّن رسالة معيّنة. وهكذا، لا يكتفي البشر بتوفير الظروف المناسبة للتوحّش، بل يعمدون إلى تغذية الوحش في الشخصية المحورية، حتى إذا ما راحت تمارس توحّشها، يتوزّعون بين مبتهج بها، ومشفق عليها، ونافر منها. ويتحول الإنسان الوحش إلى أداة يتحكّم بها الآخرون، ولا يملك من أمر نفسه شيئاً. وبذلك، يغدو التوحش مسؤولية جماعية لا جريمة فردية، يغدو صناعة إنسانية بامتياز.

 وإذا كانت الأسباب الذاتية الخَلْقية للتوحّش في الرواية خارجة عن قدرة الإنسان على التأثير فيها، فإن الأسباب الخارجية الموضوعية هي نتيجة الاستغلال البشري، فالتوحش لا يكون بالخَلْق فقط بل كثيراً ما يكون صنيعة الظروف التي يحدثها الإنسان، وهو ما تؤكده أحداث الرواية. فتاراري يولد من علاقة غير شرعية. يموت الأب بالتزامن مع ولادته. ينشأ في كوخ فقير، في كنف أمٍّ تضطرّ إلى بيع الهوى، بعد أن أصبحت عمياء بفعل عملها في نسج الخيوط في قبوٍ مظلم. يتجنب أترابه اللعب معه بتحريض من أمهاتهم، وينفرون منه لطوله الزائد. تموت أخته فور ولادتها، ويقوم بدفنها وحيداً في الغابة، ويغطي الجسد الصغير بأوراق الشجر.  يحاول صديق أمه توليت، قتله في الغابة بعد أن أفشى سرّ عمله في تهريب الملح، ويتسبّب له في ندبة في مؤخّرة رأسه، يعزو إليها سبب حالته المَرَضية. يحقق الضابط حين يسرق الطعام لسدّ جوعه ويأمر بجلده ونقله إلى المستشفى. وتبلغ حالته الذروة حين يموت مكبّلاً على سرير المستشفى قبل أن تتحقق رغبته الأخيرة في مقابلة الطبيب دوبوي الذي أشرف على علاجه، منذ ست سنوات، ويحتفظ له بمشاعر إيجابية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

طار المناسب لنمو التوحش في الشخصية المحورية. وتجعل منها ضحية بقدر ما هي مسؤولة عن أفعالها، بل أكثر. لذلك، حين تعبّر الراهبة التي تلازم تاراراي في المستشفى عن شعورها بالإرهاق، جرّاء القصص التي تسمعها منه، بالقول: "أنت لست ضحية. أنت رجل شرير وسيئ الخلق. يدير عينيه الزرقاوين الحزينتين نحوها. ويسألها: ألا يمكن أن أكون الاثنين معاً؟" (ص 69). ناهيك بأن بعض الوقائع الروائية تعكس نزوعاً إنسانياًّ لهذه الشخصية؛ فتاراري يهوله عبث بعض الرجال في قرية بيرسي بإضرام النار في قطة ضعيفة وتنهمر دموعه حزناً عليها، ويحاول مساعدتها بلا جدوى. يقبّل الطفل الصغير الذي قدّم له في عرض عام،  ويمتنع عن التهامه. لا يحقد على العائلة المضيفة التي تزمع على تسليمه للجنود البروسيين بعد اكتشاف هويته الحقيقية والمهمة المكلّف بها. يشعر بالتعب والضعف والحزن ويبكي بصمت. وحين يحظى بفراش ناعم في المستشفى، لم يسبق له أن نام على شيء بمثل هذه النعومة، يفكر في أن يكون إنساناً طيباًّ، متواضعاً، يتحكم بنفسه.

 هذه الحكاية تضعها بلاكمور في بنية روائية مركبة، تصطنع لها خطين سرديين اثنين؛ الأول ينتظم الأحداث المعيشة، ويظهر في الحوارات بين الراهبة والمريض، خلال شهر ديسمبر (كانون الاول) 1798، تتطور خلالها العلاقة بينمها من النفور إلى التفاهم، ويشكّل إطاراً للخط الثاني الذي ينتظم الأحداث المستعادة، بواسطة الراوي العليم أو الشخصية المحورية، ويرصد حركة الأخيرة منذ الولادة حتى الموت. وإذا كان الأول يراعي الخطية الزمنية في عرض الأحداث، فإن الثاني يكسر هذه الخطية لصالح عرض يتكسر فيه الزمن، ويمتد بين ولادة تاراري وموته. وبينما يجري الأول في غرفة في مستشفى، ويقتصر على شخصيتين اثنتين، نرى أن الثاني يجري في بعض القرى والمدن الفرنسية، وتنهض به مجموعة من الشخوص المتمحورة حول الشخصية الرئيسية. على أن السلكين يتقاطعان في غير نقطة تقاطع، ما يجعلنا إزاء تقنية تداخل الروايات، بحيث يشكّل السلك الأول الإطار، ويشكّل السلك الثاني المحتوى. وتكون "الشَّره" نتاج العلاقة الجدلية بين الإطار والمحتوى، وتجمع بين الحكاية الغريبة والبنية المركبة، ما يقتضي بذل جهد معيّن في القراءة، لكنّه محفوف بالمتعة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة