ملخص
استشهد المؤرخ نيال فيرغسون بما سماه قانونه الشخصي للتاريخ قائلاً "أية قوة عظمى تنفق على أقساط الديون أكثر مما تنفق على الدفاع لن تبقى عظيمة لفترة طويلة
تحت عنوان "هل ستغرق الديون الإمبراطورية الأميركية؟" أعدت صحيفة "وول ستريت جورنال" تقريراً مطولاً عما إذا ما كانت أزمة الديون في الولايات المتحدة قادرة على إسقاط الإمبراطورية الأميركية، مستشهدة بنماذج لإمبراطوريات سقطت شرقاً وغرباً متأثرة بالديون المميتة.
وقالت الصحيفة إن "الولايات المتحدة تبحر اليوم في بحر مجهول من الديون الفيدرالية" مضيفة أن "عامة الناس غير منزعجين من الأرقام الصارخة، وتبدو الحكومة غير قادرة على تغيير هذه الأرقام".
وأشارت إلى أن في السباق الرئاسي ليس هناك اختلاف حزبي أو ميزة كبيرة ترجح كفة أحد المتنافسين حول أزمة الديون، إذ أشرف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب والرئيس الحالي جو بايدن على زيادة بقيمة مماثلة للديون المتراكمة للبلاد، في حدود سبعة تريليونات دولار خلال فترة ولاية كل منهما.
ومع ذلك وقالت الصحيفة الأميركية إن "التاريخ يقدم بعض الإشارات التحذيرية حول عواقب وتداعيات الغرق في بحر الديون، فعلى مر القرون في العالم واجهت دول وإمبراطوريات تراكمت عليها الديون نهايات غير سعيدة".
وأخيراً استشهد المؤرخ نيال فيرغسون بما سماه قانونه الشخصي للتاريخ قائلاً "أية قوة عظمى تنفق على أقساط الديون أكثر مما تنفق على الدفاع لن تبقى عظيمة لفترة طويلة، إذ حدث ذلك الأمر لـ"المملكة الإسبانية" والإمبراطوريات الفرنسية والعثمانية وكذلك الإمبراطورية البريطانية، وهذا القانون على وشك أن يطبق في الولايات المتحدة بداية من هذا العام تحديداً.
وفعلياً يتوقع مكتب الموازنة في الكونغرس أن تنفق الحكومة الفيدرالية بسبب ارتفاع أسعار الفائدة نحو 892 مليار دولار خلال العام المالي الحالي لمدفوعات الفائدة على الدين الوطني المتراكم البالغ 28 تريليون دولار، مما يعني أن مدفوعات الفائدة تتجاوز الآن المبلغ الذي أنفق على الدفاع بل ويطابق الإنفاق على الرعاية الطبية.
إمبراطوريات انهارت بسبب الديون
وقالت الصحيفة الأميركية أن "واشنطن زادت من الدين الوطني بوتيرة مثيرة للقلق فمنذ أواخر التسعينيات كانت موازنة الحكومة الفيدرالية تحقق فائضاً فعلياً في الأقل لبعض الوقت، بينما هذا العام سيكون هناك نحو 1.9 تريليون دولار في المنطقة الحمراء وفقاً لتوقعات مكتب موازنة الكونغرس".
وأشارت الصحيفة إلى أنه قبل 12 عاماً بلغ إجمال الدين الحكومي نحو 70 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بينما سيعادل الدين هذا العام الناتج المحلي الإجمالي بالكامل، في حين من المتوقع أن يصل بحلول عام 2028 إلى مستوى قياسي يبلغ 106 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يعادل الرقم القياسي الذي تم تسجيله خلال الإنفاق الكبير لتمويل الحرب العالمية الثانية، وبحلول عام 2034 وباستثناء التغييرات في سياسة الضرائب والإنفاق فمن المتوقع أن يصل إلى 122 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي وهو أعلى مستوى تم تسجيله على الإطلاق.
وحذرت "وول ستريت جورنال" من أن يكون لهذا الحبر الأحمر (تقصد الديون) عواقب مؤلمة وإن كانت خفية، مستشهدة بتوقعات مكتب الموازنة في الكونغرس أن يؤدي وزن الدين إلى خفض نمو الدخل 12 في المئة على مدى العقود الثلاثة المقبلة مع مزاحمة أقساط الديون للاستثمارات الأخرى.
وقالت إن "هذا المسار لا مفر منه" مشيرة إلى أنه قد يكون العجز هذا العام أعلى في الواقع لولا حدود الإنفاق وتغييرات السياسة التي طبقت في قانون المسؤولية المالية، الذي تعرض للانتقادات الشديدة والذي دفعته إدارة بايدن إلى القانون في العام الماضي.
وتابعت الصحيفة مع ذلك فإن النظر إلى التاريخ ليس مطمئناً مستشهدة بما قاله مدير مبادرة النمو الاقتصادي في معهد بوش والجامعة الميثودية الجنوبية كولوم كلارك قائلاً إنهم "يفقدون هذه المكانة"، يقصد الولايات المتحدة.
وأضاف "حتى لو أصدرت دولة ما العملة الاحتياطية الرائدة حتى لو كانت الدولة هي القوة الجيوسياسية المهيمنة فإن هذا لا ينقذها من الأزمة" مشيراً إلى الإمبراطورية الرومانية باعتبارها قصة ذات عبرة، فبعد تأسيس إمبراطوريتهم باعتبارها أقوى إمبراطوريات العالم بدأ قادة روما في الإنفاق ببذخ على الإدارة الإمبراطورية والجيش في القرن الثالث ومول الأباطرة الديون الناتجة بخفض قيمة العملة، مما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم وأدى ذلك إلى إضعاف استقرار الإمبراطورية ودفاعاتها، مما أدى إلى زوالها في القرن الخامس.
وعن إسبانيا قال كلارك "بعد ترسيخ أقدامها في العالم الجديد مولت إسبانيا مغامراتها العسكرية وإمبراطوريتها الممتدة على مستوى العالم بالاقتراض المكثف من الخارج والضرائب المرتفعة، وفي نهاية المطاف فقدت مكانتها باعتبارها القوة الأعظم في أوروبا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي نظرتهما إلى تاريخ الأزمات المالية الدولية أشار الاقتصاديان كارمن راينهارت وكينيث روغوف إلى أن "هذه المرة مختلفة بعد ثمانية قرون من الحماقة المالية، إلا أن إسبانيا تخلفت عن السداد سبع مرات في القرن التاسع عشر وحده، بعد أن تخلفت عن السداد ست مرات خلال القرون الثلاثة السابقة".
وسارت فرنسا على نفس المسار تقريباً وعجزت في كثير من الأحيان عن سداد ديونها، وفي نهاية المطاف أدى الاقتراض والإنفاق المسرف من قبل البلاط في فرساي إلى إلحاق الضرر بالعائلة المالكة، مما أدى إلى تراجع التصنيع والأزمات المالية التي أدت إلى ثورة عام 1789.
ومرت أسرة تشينغ الصينية بدورة مماثلة وواجهت مصيراً مماثلاً إذ كانت قوة اقتصادية عالمية رائدة، لكن الإنفاق والاقتراض الأجنبي في القرن التاسع عشر أدى إلى نقص الاستثمار المدمر في البنية التحتية اللازمة لمواصلة التقدم.
وربما تقدم بريطانيا العظمى أوجه التشابه الأكثر إقناعاً إذ أشرفت على أوسع إمبراطورية في العالم خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر قبل أن يؤدي الإنفاق الحربي بما في ذلك الحرب ضد الثورة الأميركية إلى ارتفاع الديون لكنها تعافت، ولكن بحلول القرن العشرين وجدت نفسها غير قادرة على تحمل الإنفاق المطلوب للحفاظ على جيش وبحرية لمراقبة الإمبراطورية وتمويل البرامج الاجتماعية سريعة النمو.
وبدأت الديون في مزاحمة الاستثمارات الأخرى واستنزف الضعف الاقتصادي قوة الجنيه الإسترليني والذي توقف عن كونه العملة الاحتياطية الرائدة في العالم، وسرعان ما تراجعت الإمبراطورية البريطانية.
السندات الأميركية واندلاع أزمات مالية واقتصادية
ويقول كلارك إنه "في ظل البيئة الحالية فإن الحدث الذي يؤدي إلى أزمة ديون قد يكون خفض التصنيف الائتماني لأميركا أو رفض الممولين الدوليين مواصلة الإقراض"، قائلاً "الولايات المتحدة ليست في هذا الموقف بعد".
ومن جانبها قالت وزيرة الخزانة جانيت يلين في مقابلة أجرتها معها شبكة "سي أن بي سي" أخيراً إنه إذا كان من الممكن "استقرار" الديون عند المستويات الحالية "فنحن في وضع معقول"، لكنها حذرت في الوقت نفسه من أن تمديد الخفوضات الضريبية في عهد ترمب والتي من المقرر أن تنتهي العام المقبل من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع ديون البلاد كحصة من اقتصادها.
وعلى رغم قتامة المشهد المالي الأميركي فإن هناك أنباء سارة حول دول عبرت بحر الديون محققة استقراراً في أوضاعها المالية ومكانتها العالمية، إذ تمكنت بريطانيا من اتباع هذه الحيلة قبل أن تتراجع وخرجت كندا والدنمارك والسويد وفنلندا من أزمات الديون الأحدث لتعود إلى الصحة المالية.
وفي الواقع نجت الولايات المتحدة نفسها منذ وقت ليس ببعيد وتحديداً في ثمانينيات القرن الماضي، إذ كانت هناك مخاوف جدية في شأن الارتفاع السريع للديون بينما وسط هذه المخاوف نشر المؤرخ بول كينيدي من جامعة "ييل" عملاً كلاسيكياً عن العلاقة التاريخية بين القوة الاقتصادية والقوة الدولية، تحت عنوان "صعود وسقوط القوى العظمى" يؤرخ فيه مصير الدول المهيمنة التي أصبحت ممتدة بصورة مفرطة، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة في ذلك الوقت كانت تراكم الديون في وقت السلم وهو ما لم تفعله أية قوة عظمى منذ فرنسا، في ثمانينيات القرن الثامن عشر.
ولكن النظام السياسي الأميركي استجاب بتغييرات سياسية أنتجت تلك الفترة القصيرة من الفوائض في التسعينيات وساعدت الاتفاقات اللاحقة بين الحزبين في كبح العجز، ولكن اليوم أصبح تحذير كينيدي من أنه بحلول القرن الـ21 سيؤدي تفاقم الدين الوطني وأقساط الفائدة إلى تحويل مجاميع غير مسبوقة من الأموال في هذا الاتجاه "حقيقة".
ويبدو أن بعض الانحدار في القوة الأميركية الذي حذر منه كينيدي تجنبته واشنطن حتى الآن، إذ قال إلى الصحيفة في مقابلة "كان يسأل أصدقائي الاقتصاديين عن هذه المعضلة المتمثلة في قدرة قوة عظمى كبيرة جداً وممتدة في بعض النواحي على الاستمرار في إصدار مزيد ومزيد من السندات المقومة بالعملة من دون الحاجة إلى ذلك، وتساءل هل يمكن أن تكون هناك عقوبة لذلك؟".
وأضاف أن "هذه العقوبة لا يزال من الممكن أن تأتي في يوم من الأيام إذا قررت الدول الآسيوية خصوصاً الصين التي تمتلك اليوم كميات هائلة من سندات الخزانة الأميركية لسبب ما بسبب وجود خلاف سياسي مع الولايات المتحدة، التخلص من كميات هائلة من سندات الخزانة الأميركية مما سيخلق أزمة مالية واقتصادية".
وفي الوقت الحالي يرتفع الدين بسبب ارتفاع أقساط الفائدة إضافة إلى أن قانون الضرائب الحالي لا يوفر إيرادات كافية لتغطية الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية وتأتي هذه القوى في وقت لا يرغب فيه أي من الحزبين في المساس ببرامج الاستحقاقات تلك، إذ يسعى الجمهوريون إلى خفض الضرائب بينما يعد الديمقراطيون بعدم زيادة الضرائب على الأسر التي يقل دخلها عن 400 ألف دولار سنوياً.
واليوم يستخدم كلا الحزبين السياسيين الدين في الغالب كمبرر للقيام بأشياء يرغبون في القيام بها على أية حال، فعلى سبيل المثال يعارض بعض الجمهوريين تقديم مزيد من المساعدات لأوكرانيا ويعارض بعض الديمقراطيين زيادة الضرائب على الشركات والأثرياء.
وخلصت الصحيفة الأميركية إلى وجود تراجع في مستوى مناقشة العجز والديون قائلة إن "الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك سيتطلب مستوى من الانضباط والتصميم من الحزبين، وهو ما تفتقر إليه واشنطن اليوم بشدة على رغم وجوده في بعض الأحيان في الماضي".