Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"مونتايو" للمؤرخ الفرنسي ليروا لادوري حدث نادر ومدهش في تاريخ الكتب العلمية

ربع مليون قارئ لكتاب يروي 30 عاماً من تاريخ قرية صغيرة في جبال الجنوب الفرنسي

إيمانويل ليروا لادوري (1929 – 2023) (أ ف ب)

ملخص

الحكاية التي ستشكل موضوع كتاب ليروا لادوري الذي كان يفترض أن يكون اهتماماً تقنياً، سرعان ما سيكون محورها كاهن محلي يدعى جاك فورنييه كان مكلفاً من محاكم التفتيش بتعقب آثار آخر من كانوا قد تبقوا من "الهراطقة" المتمردين أو الذين كانت السلطات الدينية تعتبرهم هراطقة متمردين.

قبل ما يزيد قليلاً اليوم على ستة أشهر رحل عن عالمنا واحد من أكبر أقطاب مدرسة الحوليات في كتابة التاريخ، ولا سيما منه كتابة التاريخ الفرنسي انطلاقاً من مفاهيم تلك الكتابة التي ولدت أواسط القرن الـ20 وعمت تعاليمها أوروبا والعالم، خالقة لعلم التاريخ ثورة لا تقل أهميتها بأية حال عن تلك الثورة التي أحدثها فيغو وابن خلدون في كتابة التاريخ نفسه، وفي أزمنة أقرب إلينا، كارل ماركس في التاريخ الاقتصادي ولا سيما تاريخ الرأسمالية.

كان الراحل هو إيمانويل ليروا لادوري الذي بقدر ما اشتهر، وهو تلميذ فرنان بروديل الأكثر التصاقاً بفكر هذا المعلم، عبر كتبه الضخمة التي أطلقت تجديدات لا تحصى في علم التاريخ وتدريسه أكاديمياً، أدهش عالم النشر الفرنسي بواحد من أكثر كتبه خصوصية ومحلية، وهو كتاب "مونتايو" الذي يبدو أنه أقدم أول الأمر على كتابته كنزوة غير دار بأنه سرعان ما سيتحول إلى ظاهرة لم يكن هو، ولا أحد غيره يتوقعها. ونتحدث هنا طبعاً وربما انطلاقاً من أنه كان حديث الصحف وجملة الكتاب المؤبنين لليروا لادوري يوم رحل عن 94 سنة، لكن لماذا نعتبر الكتاب ظاهرة والجميع يعلم أن للمؤرخ الجامعي الكبير مؤلفات أكثر منه أهمية وأكاديمية ومكانة في تاريخ العلم؟

قرية نسيها التاريخ الكبير

ليس في المقام الأول بالطبع لأنه وضع في الواجهة اسم وتاريخ قرية فرنسية صغيرة قد لا تكون اختفت تماماً عبر التاريخ لكن بالكاد تشير إليها الخرائط أو كتب "ميشلان" السياحية، القرية التي تدعى مونتايو وتوجد منذ مئات السنين غير بعيد من حدود فرنسا الجنوبية مع إسبانيا: وهي قرية لم تضم أكثر من مئات قليلة من السكان عبر التاريخ، ولا يزيد اليوم عدد هؤلاء بفعل التناقص على أية حال بشكل متواصل على 250 نسمة.

فكيف حدث لقرية بهذا الحجم، لم تعرف في تاريخها حروباً ولا غزوات ولا ازدهاراً اقتصادياً، بل لا تقع حتى على طرقات رئيسة بل في منطقة جبلية نائية، ولم يولد أو يموت فيها مبدع أو سياسي أو عالم كبير، كيف حدث لها أن أثارت، وفقط بفضل كتاب صدر عند بداية الربع الأخير من القرن الـ20 في باريس بعنوان "مونتايو" - وهو اسم القرية على أية حال - اهتمام ما يزيد على ربع مليون قارئ خلال أعوام قليلة من صدور الكتاب راحوا يشترون كل ما يتوالى من طبعات للكتاب ثم من طبعات تتلاحق من الطبعة الشعبية التي ندر أن حظي كتاب تاريخ بمثلها؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بالتأكيد كان الحدث نادراً ولا يزال نادراً حتى اليوم إلى درجة أن دار النشر التي أصدرتها منذ ظهور الكتاب "غاليمار" ما إن انتشر خبر رحيل ليروا لادوري، حتى وجدت نفسها تصدر طبعة شعبية جديدة في عشرات ألوف النسخ أدى الخبر إلى نفادها في زمن قياسي.

وبقيت مونتايو منسية

ولسنا ندري على أية حال، فالمعطيات لا تتوافر بين أيدينا، ما إذا كان نجاح الكتاب المستعاد، قد كان معدياً بالنسبة إلى بضعة منازل وأزقة تتألف منها القرية اليوم، إذ تدفق السائحون لزيارتها، لكن في إمكاننا أن نخمن أن زيارة من ذلك النوع، لو حدثت، ما كان من شأنها أن تبدل من الأمور شيئاً أو تثير اهتمام أحد سوى الفرن الوحيد في القرية! فسمعة هذه الأخيرة ليست جغرافية أو تتعلق بالمكان نفسه، بل هي "شهرة تاريخية" تقوم أساساً على عدة أشغال جامعية يمكن القول إن ليروا لادوري لم يكن أول من اهتم بها، بل إن عالم التاريخ هذا الذي كانه الأستاذ الجامعي المنتسب إلى تيار "الحوليات" ومجلته النظرية الشهيرة التي تحمل العنوان نفسه، وجد أمامه كماً كبيراً من الوثائق والدراسات الجاهزة ولكن المكتوبة والمجمعة بأسلوب تاريخي تقليدي يعتمد الوثائق البلدية والكنسية وبعض كتابات شخصية متفرقة لينبش من ثنايا التاريخ بفضلها صفحات ستغدو بالغة الأهمية من تاريخ "محاكم التفتيش" التي انطلقت قبل ذلك من إسبانيا كنتيجة لاستعادة الملكين "الكاثوليكيين" فرناند وإليزابيث تلك المنطقة من العالم من أيدي مسلمي الأندلس، ليمتد فعل تلك المحاكم شاملاً كل الأديان غير الكاثوليكية (من المسلمين إلى اليهود، ثم في مراحل لاحقة، من البروتستانت الإصلاحيين إلى مناوئي الإصلاح ولكن باسم العقل... وصولاً إلى أصحاب أي فكر يخرج عن الأطر الكنسية). والحكاية هنا بالنسبة إلى كتاب "مونتايو" تتعلق إذاً بنحو دزينتين أو أقل قليلاً من سكان مونتايو، القرية الأوكسيتانية في الجنوب الفرنسي، بين 1294 و1324 من التاريخ الميلادي.

30 سنة لا أكثر

إذاً فنحن هنا أما حقبة لا تزيد على 30 سنة ما كان يمكن للمؤرخ أن يهتم بها لولا أنه هو الذي كان قد اهتم على أية حال في أطروحته التي ناقشها عام 1966 بفلاحي منطقة اللانغدوك، كان يمر صدفة قرب واجهة واحدة من المكتبات المتخصصة ليلمح في الواجهة كتاباً حول فعل محاكم التفتيش في تلك المنطقة المتاخمة لإسبانيا لباحث يدعى جان دوفرنوا. لفت الموضوع نظره فاشترى الكتاب ليكتشف من خلال قراءته حكاية تلك القرية التى ستشغله ولكن، ومن دون توقع منه أو من أحد، ستتحول لديه إلى كتاب في 600 صفحة موضوعه الأساس أولئك من أبناء القرية الذين طاولتهم قسوة محاكم التفتيش خلال الربع الأول من القرن الـ14.

 

والحكاية التي ستشكل موضوع كتاب ليروا لادوري الذي كان يفترض أن يكون اهتماماً تقنياً، سرعان ما سيكون محورها كاهن محلي يدعى جاك فورنييه كان مكلفاً من محاكم التفتيش بتعقب آثار آخر من كانوا قد تبقوا من "الهراطقة" المتمردين أو الذين كانت السلطات الدينية تعتبرهم هراطقة متمردين.

والحال أن ليروا لادوري، وكما أشرنا لم يكن يريد أن يكون عمله هنا أيديولوجياً بل مجرد عمل سوسيولوجي بل حتى إثنوغرافي، وقد بدا متأثراً حينها في توجهاته بعالم الإثنولوجيا الفرنسي الكبير كلود ليفي ستروس. لقد رأى في الحكاية إذاً إمكانية اشتغال علمي على إثنولوجيا محلية وإن كانت تنتمي إلى تاريخ يعود أكثر من نصف ألفية إلى الوراء.

استشارة الزملاء

وهكذا راح ليروا لادوري يتتبع أية تفاصيل في القرية أو في المنطقة المحيطة بها تتعلق خصوصاً بأولئك الذين اعتبرتهم سلطات الكنيسة الخاضعة لتوجيهات محاكم التفتيش هراطقة يجب معاقبتهم حتى ولو أدى ذلك إلى إعدامهم وإحراقهم. كانت الحكاية مغرية للباحث لكنه مع ذلك بدا أول الأمر متردداً ليس دون إنجاز ما بدأ يعمل عليه لكن في نشر نتائجه في كتاب. ومن هنا، وكما سيقول لاحقاً، راح يستشير زملاء وأساتذة ينتمون إلى تيار "الحوليات" نفسه، من جاك لي غوف الذي أبدى قدراً كبيراً من الحماس بحسب ما كتب المؤرخ ميكائل ويلمارت، إلى جورج دوبي الذي سيرتبط اسمه باسم ليروا لادوري في تلك المرحلة وصولاً إلى واحد من كبار المؤرخين المتخصصين بفلاحي منطقة اللانغدوك فيليب وولف.

كل هذا من دون أن يكون هو أو أي واحد من زملائه يتوقع، أولاً أن تشغل الحكاية كل تلك المئات من الصفحات، ثانياً أن تقبل دار للنشر بتبنيها، ثم ثالثاً أن يجد الكتاب ألف قارئ يغطون كلفة نشره، لكن هنا وكما يحدث نادراً في عالم المقروئية العجيب، وجد الكتاب منذ صدوره أكثر من 10 آلاف قارئ اقتنوه وقرأوه خلال أقل من عام، لكن العدد سيرتفع تدريجاً ليلامس في مرحلة أولى ربع مليون نسخة. وبات الكتاب أشهر كتاب في مسار علم التاريخ الفرنسي المعاصر.

غير أن الأهم من ذلك ليس تلك المعجزة المتعلقة بضخامة انتشار الكتاب ومعجزة تحوله إلى ظاهرة "جماهيرية" إن جاز لنا القول، بل تحوله إلى ظاهرة علمية، حيث ما إن انقضى عقد من السنين حتى راح كثر من المؤرخين من جماعة "الحوليات" كما خارج الجماعة ينتقلون للاهتمام بما بات اسمه الرسمي المعتمد "الميكرو - تاريخ" الذي بدا على أية حال وربما من دون قصد متطابقاً تماماً مع الرغبات العلمية الأولى التي ولد منها التيار نفسه كما ولدت مجلته على يد أرنست بروك ولوسيان لوفيفر ليتعزز لاحقاً على يد فرنان بروديل الذي نعرف أنه سيوصل ذلك "الميكرو - تاريخ" إلى ذروته في واحد من آخر كتبه "هوية فرنسا"، لكن هذا موضوع آخر بالطبع.

المزيد من ثقافة