Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"سجون" بيرانيزي: وعيد أم افتتان مرضي بالرعب أم دهشة أمام ضآلة الإنسان؟

الاحتمالات كلها مطروحة لكن المبدع ترك تحفه آخذاً معه أسراره المخفية إلى الأبد

لقد كانت روما على أية حال الشغل الشاغل لبيرانيزي على رغم أنه بندقي الأصل (ويكيبيديا)

لعلنا هنا في نهاية المطاف أمام لغز آخر من تلك الألغاز التي تزاحمت في تاريخ الفن منذ ولادة ذلك التاريخ، لغز قد يتمثل مرة في جمجمة مرمية على أرضية غرفة ما، أو في ابتسامة غامضة ترتسم على محيّا موديل حسناء، أو خاصة في نظرة أكثر غموضاً تباغت الناظر إلى لوحة أو إلى تمثال، هي ألغاز قد يكون فنانون أو باحثون أو كاتبو سير فكوا أسرار بعضها، لكن معظمها عبر التاريخ في غموضه والحيرة التي يثيرها. أما أن يجعل فنان ما من فنه كله مرآة لفكرة غامضة لم يكشف عنها النقاب حتى موته، فأمر يمكن التوقف عنده بحيرة ما بعدها حيرة، وهو طبعاً ما يواجهنا في كل مرة نتأمل فيها في مجمل تلك الرسوم التي خلّفها واحد من أغرب الفنانين النهضويين الإيطاليين بيرانيزي.

 

شغف بتاريخ مدينة

فالحال أن المهندس والكاتب والرسام الإيطالي بيرانيزي، ترك عند رحيله عن عالمنا، أكثر من ألف رسم مائي وتخطيطي، إضافة إلى آلاف الصفحات التي خطّها قلمه. فهو لئن كان درس الهندسة وصارت مهنته وظل اسمه لصيقاً بها، لم يمارس الجانب المعماري منها، الذي كان تخصصه فيه، بقدر ما مارس الرسم والكتابة عن مدينة روما وآثارها القديمة، ربما كان ذلك ناتجاً من كسله الميداني، وربما من حظه العاثر، ولكن ربما كان أيضاً ناتجاً من ثورية علاقته بالمدينة وبهندستها، وهي ثورية تبعد عنه الممولين والمهتمين بالبناء وأصحاب الأعمال. ومع هذا، فإن كنيسة سانتا ماريا ديل بريوراتو، في روما (1764 - 1766) التي تعتبر إنجازه الوحيد في مجال الهندسة المعمارية، تقف حتى اليوم شاهدة على أن الرجل كان في وسعه أن يحقق كثيراً لو أتيح له أن يحوّل نظرياته إلى ممارسة حقيقية. وطبعاً يمكننا أن نقول هنا إن مجد بيرانيزي لم يأته بفضل هندسة تلك الكنيسة، على جمالها، بل بفضل رسومه أولاً، ثم كتاباته النظرية ثانياً، وفي مقدمها كتابه ذو الأربعة مجلدات "الآثار الرومانية القديمة"، وهو نص غريب ورائع تتجاور فيه الرسوم مع الشروح والانتقادات، لتشكل معاً صورة هندسية رائعة لروما.

روما مدينة مثالية!

لقد كانت روما على أية حال، الشغل الشاغل لبيرانيزي على رغم أنه بندقي الأصل، وعاش الحقبة الأولى من حياته في البندقية حيث درس وترعرع طوال 20 عاماً، قبل أن ينتقل نهائياً إلى روما عام 1740، وكان في الـ 20 من عمره. وعاش بقية حياته كلها في روما يدرس آثارها ويكتب عنها ويرسم مشاهدها، ويضع بين الحين والآخر مشاريع ومخططات عمرانية لها، تحاول أن تجعل منها المدينة المثالية. وهذه المشاريع كلها نراها اليوم مجتمعة في لوحات مائية مرسومة، تمجد ماضي المدينة وترسم حاضرها وتتطلع إلى مستقبلها، مما جعل بيرانيزي رسام روما الأول. وهو، طبعاً، لم يكتفِ أبداً برسم ما تراه عيناه، بل كان يتعمد في رسومه أن يضخم المقاييس في فصل تمجيدي للمدينة قلّ نظيره. وقسمت رسوم بيرانيزي في هذا المجال إلى "آثار رومانية قديمة" و"عظمة المعمار الروماني" و"حقل مارس في روما القديمة"، وبخاصة "مشاهد من روما"، تبعاً للعناوين ومجموعات المواضيع التي رسمها. غير أننا إذ نقول هذا، علينا أن نتذكر أنه إذا كان القرن الـ 20 قد أعاد إلى بيرانيزي الاعتبار وبجّله، لا سيما من طريق السورياليين، ثم من طريق ميشال فوكو، فإن هذا لم يكن بفضل روعة رسوم بيرانيزي التي تناولت مشاهد روما، قديمها وجديدها، بل بفضل مجموعة لوحات رسمها حول "السجون المتخيلة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

السجون ألغاز المبدع

هذه المجموعة من اللوحات التي رسمها بيرانيزي تباعاً، إبان إقامته في روما خلال مرحلة متوسطة من حياته لتنشر مجموعة معاً، في روما أولاً، ثم في باريس بعد ذلك بين عامي 1749 - 1750، هي التي تمثل في ذهننا حين نتحدث بالتحديد عن الألغاز الموروثة من فن بيرانيزي، هي التي تعتبر، الأشهر بين أعماله، واللوحات القاتمة الوحيدة فيها. فلئن كان من غير الواضح تماماً، السبب الذي جعل هذا المهندس الفنان يقدم على تحقيق مثل هذه الرسوم، ليدمجها في عمله الممجد لروما وللجمال، فإن من السهل الافتراض في نهاية الأمر، ولو تعسفاً، أن نزعة بيرانيزي الرومنطيقية هي التي كانت وراء إقدامه على رسم هذه اللوحات. ومن المؤكد أن رسمها، لم يكن نسخاً لسجون قائمة في روما في ذلك الحين، ولا كذلك دعوة إلى إنشاء مثلها، ربما هي نزوة فنان لا أكثر. والحقيقة أن العنوان المعطى، أصلاً، لهذه المجموعة من اللوحات يشير إلى فكرة "النزوة". أما السورياليون في القرن الـ 20، فإنهم تعاملوا مع هذه اللوحات على أنها أكثر من نزوة، كذلك فإن ميشال فوكو صاحب كتاب "المراقبة والمعاقبة" الشهير تحدث عن تلك اللوحات انطلاقاً من تركيزه على أجواء السجون والرعب وضخامة الحجر والسلاسل وأدوات التعذيب التي تملؤها مقارنة بضآلة الكائن البشري المرمي وحيداً متعباً مرعوباً في أعماقها.

ديكورات لأفلام مرعبة

والحقيقة أن هذه السجون "المتخيلة والمبتكرة" تبدو مستبقة للقرن الـ 20 وأجوائه، كما تبدو مستبقة لسينما تعبيرية لم تكفّ عن تصوير رعب الإنسان أمام فكرة العقاب، ولسوف يقال لاحقاً إن سينمائيين كثراً، من فريتز لانغ إلى مورناو، إلى ستانلي كوبريك إلى أنكي بلال، استوحوا رسوم بيرانيزي في ديكورات أفلام لهم تصور النظام الشمولي ورعب الإنسان وضعفه إزاء القوى المتجاوزة له. بل إن مشهد السيد ك. في فيلم أورسن ويلز المقتبس عن "المحاكمة" لكافكا، وهو أمام الباب الضخم المفضي إلى القلاع والسجون يبدو على علاقة وثيقة بفن بيرانيزي المتخيل. كذلك يمكننا أن نتوقف هنا عند الكاتب الإنجليزي ويليام بكفورد الذي قال في صدد الحديث عن أجواء روايته المرعبة "فايتك": "لقد رسمت بقلمي، الكهوف والأعمدة والقباب والدواليب والعجلات والسلاسل وغرف التعذيب في اقتباس مباشر عن رسوم بيرانيزي".

وصف لجحيم دانتي

لقد أتت غريبة ومرعبة، إذاً، تلك الأجواء التي صورها بيرانيزي في نحو 15 لوحة لا يزيد ارتفاع الواحدة منها على 54 سنتيمتراً وعرضها على 45 سنتيمتراً. فهي، على صغرها وعلى "واقعيتها الفجة" تبدو أقرب إلى أن تكون وصفاً لجحيم دانتي بل حتى لأجواء كافكا في نص آخر له هو "مستوطنة العقاب"، سواء دمج الرسام شخصيات بشرية بالديكور المرعب ذي السلالم والأعمدة، أو صوّر ذلك الديكور من دون بشر. بل إن في إمكان المرء أن يشعر في اللوحات الخالية من البشر برعب الموت، بالغياب التام، وبرائحة الدم والجثث وصنوف التعذيب التي يفترض أن تكون مورست ههنا، وها هو الديكور الآن خال في انتظار وافدين جدد. ومع هذا، على رغم كل الرعب الماثل في اللوحات، لم يفت السورياليين أن يشيروا إلى مدى ما في اللوحات من سحر وإبهار. فالعوالم المصورة، على ضخامتها، تبدو قادرة على خلق "سحر الموت" و"فتنة الدمار" للكائن البشري وهو يحس بنفسه صغيراً ومن دون جدوى في عالم هو من الضخامة، ومن توزع الخطوط بين الأسود والأبيض، مما يجعل من الموت نفسه خلاصاً منه. ومن هنا لم يكن غريباً، أمام أهوال القرن الـ 20 وسجون طغاته، من ستالين وهتلر، إلى تشاوشيسكو وصدام حسين، أن تعم شهرة بيرانيزي انطلاقاً من لوحات قليلة له، وأن توضع على الرف مئات الأعمال الأخرى التي رسمها وصوّر فيها الجمال بأبهى مظاهره وأكثرها مثالية.

قوة المخيلة

وبيرانيزي، واسمه الكامل جيان باتستا، عاش بين عامي 1720 و1778، هو الذي أغرم بروما، حتى نهاية حياته، اشتغل بدأب، واقفاً في هذا المجال على تضاد تام مع رسامي زمنه ومهندسيه من الذين كانوا يهتمون برسم الآثار والأبنية الرومانية كما هي، إذ إنه تميّز عنهم جميعاً بقوة مخيلته، إذ راح الواقع في رسومه يبدو مطبوعاً على الدوام، وحتى خارج "لوحات السجون"، إذا جاز لنا القول، بنوع من رعب الكوابيس. وفي عمله كله، ثم بخاصة في لوحات السجون هذه، من المؤكد أن بيرانيزي عرف كيف يمزج بين نظرة العالم وجماليات المعماري، ورؤى الإنسان أمام أزمان مقبلة تعد بكل رعب ممكن، ولا يمكن الهرب منها إلا إلى عظمة الماضي، أو إلى فتنة الرعب في مستقبل سيجيء حتماً.

المزيد من ثقافة