Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أحوال الاتصال والانفصال بين الأدب والعلوم الإنسانية

تفاعل وانفتاح ومحورية في هذه الشبكة العلائقية بين التأثر والتأثير والمحافظة على الاستقلالية النسبية

الكتب والعلوم الإنسانية (سوشيل ميديا)

ملخص

يتناول كتاب "الأدب والعلوم الإنسانية والاجتماعية" علاقات الأدب المتنوعة بالعلوم الإنسانية والاجتماعية وتمظهرات هذه العلاقات والنتائج المترتبة عليها. أما المشترك بين هذه العلاقات فهو تنوعها وقدمها وتجددها وجدليتها.

يرسم الباحث الأردني شكري عزيز الماضي في كتابه "الأدب والعلوم الإنسانية والاجتماعية" الصادر عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، الحدود الفاصلة بينه وبين هذه العلوم، ويحدد نقاط الالتقاء والاشتراك من جهة، ونقاط التباين والافتراق من جهة ثانية. ويفرد لكل علم فصلاً خاصاً به، فنقع في الكتاب على علاقات الأدب باللغة والأيديولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والسياسة والفلسفة. على أن المشترك بين هذه العلاقات هو تنوعها، قدمها، تجددها، جدليتها، وسواها. وبذلك، نكون إزاء شبكة علائقية، يشغل الأدب نقطة الدائرة فيها بينما تشغل العلوم الأخرى نقاطاً منفصلة، على محيط الدائرة، من دون أن تشكل، بالضرورة، هذا المحيط، فالقاسم المشترك بينها هو علاقاتها المتنوعة بالأدب. أما العلاقات فيما بينها فلا تدخل في محاور اهتمام الكتاب.

الأدب واللغة  

العلاقة الأولى التي يتناولها الماضي هي العلاقة بين الأدب واللغة، وهو إذ يمهد لهذه العلاقة بطرح الإشكالية التاريخية المتعلقة بمقاربة النص الأدبي، سواء باعتباره بنية مستقلة عن المحيط أو باعتباره بنية متماثلة ومتطابقة معه، ويتوقف عند سقوط مناهج المقاربة المنطلقة من أحد الاعتبارين في أحادية المنظور النقدي، ويعزو ذلك إلى عدم إدراك هذه المناهج استقلالية الظاهرة الأدبية عن مادتها اللغوية من جهة، وعن إطارها الثقافي والاجتماعي من جهة ثانية، يخلص إلى الفصل بين الأدب ومادته، فالأدب ليس اللغة، والكلام الأدبي ليس واقعاً ألسنياً فحسب، والقصة ليست "مجموعة من الجمل" على حد تعريف رولان بارت، وليست "مجموعة إمكانات لغوية تركزت بطريقة خاصة في الاعتماد على مجموعة من الأحكام اللغوية البنيوية الرفيعة" على حد تعريف تودوروف، وينتقل من التعريف السلبي للعلاقة بين الأدب واللغة إلى التعريف الإيجابي، فيعترف بأن الأدب "استخدام خاص للغة"، و"تشكيل لغوي غير مألوف"، وأن "الأديب يستخدم لغة الجماعة العادية استخداماً خاصا"، وبذلك، يزاوج في تعريفه بين عمومية اللغة وخصوصية الأدب. ويؤكد استقلالية الأدب النسبية مستنداً إلى مجموعة من المؤشرات، من قبيل: صعوبة ترجمة الأعمال الأدبية، تخطي العمل الفني اللغة، تجاوز الجماليات الأدبية البنية اللفظية للنص الأدبي، تباين الأجساد اللغوية فيما بينها، وغيرها. على أن هذا الفصل بين الأدب واللغة لا يحول دون الاستنتاج أن العلاقة بين الحقلين هي علاقة وجودية، فمن دون اللغة لا يوجد أدب، لكن الأدب ليس لغة، فالأدب أدب واللغة لغة.

الأيديولوجيا وعلم النفس

العلاقة الثانية التي يتناولها الدارس في كتابه هي العلاقة بين الأدب والأيديولوجيا، وهو إذ يمهد لهذه العلاقة بالتعريف بالمصطلح ومفاهيمه المتعددة، ويصف العلاقة بين الحقلين بأنها "وثيقة وقوية وممتدة عبر الأزمان"، وبأنها علاقة معقدة لأنها بين متغيرين، ويرصدها في ضوء نظريات المحاكاة والتعبير والخلق والانعكاس، مما يترتب عليه القول بـ: تعدد صور التفاعل بين الحقلين، نسبية التفاعل بينهما، استقلالية كل منهما عن الآخر، وضرورة التوازن والانسجام بينهما بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر. وهو ينحو في درس العلاقة منحى توفيقياً، ويقول بالتفاعل الخلاق بين الأدب والأيديولوجيا، "فالوعي الأيديولوجي لا يصنع أدباً فنيا" من جهة، "والزخرفة اللغوية والترميزية والتشكيل وعدم الاهتمام بالفكرة يؤدي إلى فقدان الأدب لدوره وفاعليته" من جهة ثانية. ويخلص إلى أن "الأدب ينمو في حضن الأيديولوجيا، لكنه سرعان ما يبتعد عنها في سبيل الحفاظ على هويته الفنية الجمالية".

 يستخدم الدارس المنطق التوفيقي في كتابه، فيتجنب الانحياز إلى أحد طرفي العلاقة، ويحفظ لكل منهما حقه، وبذلك، يتوخى الموضوعية في درسه، ويجانب الأحكام المطلقة، وهو ما فعله في العلاقتين السابقتين، وما يفعله في العلاقات اللاحقة، ففي معرض بحثه في العلاقة بين الأدب وعلم النفس، يصفها بالجدلية، ويبين حاجة كل من طرفيها إلى الآخر والإفادة منه، فالنظريات النفسية تقدم للأدب مفاهيم جديدة وأدوات تحليل، والأدب يمنحها مادة للدرس واستخلاص المقولات النفسية. ويشير الدارس إلى أن هذه العلاقة وما أحاط بها من بحوث ودراسات، في ضوء فتوحات علم النفس، ستتمخض المنهج النفسي في النقد الأدبي الذي يعزو عملية الإبداع الأدبي إلى مصادر نفسية، يحددها سيغموند فرويد باللاشعور الفردي، وغارل يونغ بالشعور الجمعي، وألفرد أدلر بالشعور بالنقص، ونورثروب فراي بالأساطير، وجان لانغ باللسانية اللغوية. وهكذا، يقوم علم النفس بتفسير ميكانيكية الإبداع الأدبي، ويرفد الأدب بمفاهيم جديدة وأدوات تحليل منهجية، ويقوم الأدب بتزويد علم النفس بوقائع تثبت صحة نظرياته المختلفة، دون أن يلغي أحدهما الآخر.

 علم الاجتماع والتاريخ والسياسة

هذا النمط من العلاقات ينسحب على علم آخر هو علم الاجتماع، والعلاقة بين الأدب وعلم الاجتماع قديمة جداً، فكلاهما يقارب الإنسان في المجتمع ويتخذ منه موضوعاً له، وإن اختلفت طريقة المقاربة بين الحقلين. والدارس يضيء تاريخ العلاقة بينهما، ويربط في ضوء الدرس بين التحولات الاجتماعية وولادة الأنواع الأدبية، فتولد الملحمة في المجتمع العشائري، والدراما في المدينة الدولة، والرواية في المدينة الصناعية. ويتناولها من منظور النظريات الاجتماعية المختلفة، البرجوازية والمادية والبنيوية التوليدية. ويخلص إلى جدلية العلاقة بين الحقلين المعرفيين، فالأدب مؤسسة اجتماعية معقدة كالمجتمع نفسه، يتفاعل مع المؤسسات الأخرى، ويطرح الأسئلة الاجتماعية، وعلم الاجتماع يتخذ منه مادة للدراسة الاجتماعية ومرآة للواقع الاجتماعي وشاهداً على صحة نظرياته، مع محافظة كل منهما على استقلاليته النسبية عن الآخر. هذه الخلاصة تنطبق على العلاقة بين الأدب والتاريخ، وهي "قديمة وحميمية ومتجددة" على حد توصيف الدارس الذي يجلو هذه العلاقة من خلال فن الرواية، وكلاهما، التاريخ والرواية، يشتركان في المادة الأولية، ويختلفان في تشكيلها. يتقاطعان في نقاط، ويفترقان في أخرى. وتتعدد صور التفاعل بينهما، فالرواية تصور اللحظات التاريخية الحرجة، واللحظات المشرقة، والتاريخ الاجتماعي، وتاريخ المهمشين، وتتخذ من التاريخ قناعاً تسقطه على الحاضر أو إطاراً عاماً تجري فيه الأحداث.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 وغير بعيد من التاريخ، تنخرط السياسة، باعتبارها "كل ما يحدث للوطن والإنسان والمجتمع"، في علاقة جدلية، معقدة، متجددة مع الأدب. يرصد الدارس تمظهراتها في الأدب، من خلال شعر الفخر الجاهلي وشعر الصعاليك والشعر السياسي الأموي والحكايات والسير الشعبية. ويتلمس نقاط التفاعل والتنافر بين الحقلين، فكلاهما يشتركان في: حماية القيم الأصيلة، نبذ القيم المزيفة، عدم الامتثال للواقع، خدمة الإنسان، تأطير الصراع، الاستعانة بالخيال والتعرض للتزييف. وكلاهما يفترقان في: الآلية والغاية، موضوع التعامل، التغير والثبات، الهدف ومداه، اللغة ووظيفتها، والخيال ونوعه. ويعقد مقارنة بين الخيالين السياسي والأدبي، يخلص بنتيجتها إلى أن الأول توليفي محدود والثاني إبداعي خلاق. وبذلك، تقوم العلاقة بين الأدب والسياسة على "الالتقاء والتداخل والتشابك والتفاعل والتنافر والصراع"، ما يجعل منها علاقة جدلية ومعقدة، كما سبقت الإشارة إليه.

 الأدب والفلسفة

على أن العلم الأقرب إلى الأدب، دون سائر العلوم الإنسانية والاجتماعية هو الفلسفة. من هنا، يصف الماضي العلاقة بينهما بالتلازم والتفاعل والقدم والحداثة والتجدد والتداخل والتخارج، ويضرب الأمثلة التطبيقية على النمطين الأخيرين من المتون الأدبية القديمة. ويقوم بعرض مسار العلاقة بين الحقلين وطبيعة التفاعلات بينهما والنتائج المترتبة عليها، من خلال الفلسفات المختلفة، المثالية الموضوعية والمثالية الذاتية والمثالية الجمالية والوضعية التجريبية والمادية التاريخية وما بعد الحداثية، ويخلص بنتيجة العرض إلى نتائج تختلف من فلسفة إلى أخرى، لا يتسع المقام لتفصيلها، غير أنه يمكن إجمالها بتأكيد قدم العلاقة وحداثتها وتجددها بين الحقلين.

ولعل النتائج التي نخلص إليها بنتيجة القراءة تكمن في التفاعل بين العلوم الإنسانية والاجتماعية المختلفة وانفتاح بعضها على بعض، ومحورية موقع الأدب في هذه الشبكة العلائقية، واشتراك سائر العلوم في التأثر به والتأثير فيه، ومحافظتها جميعاً على الاستقلالية النسبية، ودورانها حول الإنسان والمجتمع، وغيرها.

اقرأ المزيد

المزيد من كتب