ملخص
أي غاز من قطر أو الإمارات أو عمان سيأخذ وقتاً طويلاً للوصول إلى أوروبا إذ تمر حاملات الغاز المسال حول قارة أفريقيا بسبب مخاوف ضرب الحوثيين لناقلات الغاز المسال في البحر الأحمر
تنافس مصادر الطاقة مفيد للبشرية، ولكن ظهر في الأعوام الأخيرة عدد من المشكلات التي بدأت تتفاقم أخيراً بسبب هذا التنافس، منها صعوبة التنبؤ باستهلاك أي مصدر من مصادر الطاقة، وهذا بدوره يؤثر في الاستثمار بالقطاعات كافة، وضرروة اللجوء إلى التحوط والعقود طويلة المدة لتلافي التذبذبات الكبيرة في إمدادات الطاقة وأسعارها.
سبب اختيار موضوع اليوم هو موجة الحر في مناطق عدة بالعالم، بما فيها شمال شرقي الولايات المتحدة، التي تفاقم مشكلة إحلال مصادر طاقة محل أخرى بشكل مفاجئ، وتغير مستويات المخزون من جهة، واتجاهات التجارة العالمية ومكوناتها من جهة أخرى. ولعل المشكلة الأكبر أن عمليات الإحلال هذه تعارض كل سياسات التغير المناخي، وتزيد من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون.
مشكلة شمال غربي الولايات المتحدة
هذه المنطقة المعروفة بولائها للحزب الديمقراطي ودعمها الكبير لحماة البيئة، التي تعرف بـ"نيو إنغلاند"، تعاني مشكلتين قانونيتين. الأولى أن هذه المناطق فقيرة في احتياطات النفط والغاز، لهذا تحتاج إلى استيراد الغاز. وكما هو معلوم فإن الولايات المتحدة أكبر منتج للغاز في العالم، كما أنها أكبر مصدر للغاز في العالم، ولكن التطرف البيئي لولايات نيو إنغلاند نتج منه ما يأتي:
1- منع بناء خطوط أنابيب غاز من حقول بنسلفانيا وأوهايو إليها.
2- منع تطوير حقول الغاز في جنوب غربي ولاية نيويورك.
تولد الكهرباء في المنطقة من مصادر طاقة عدة، وفي الحالة العادية يكون توزيع المصادر كالآتي:
48 في المئة غاز.
22 في المئة طاقة نووية.
10 في المئة من الرياح والطاقة الشمسية والقمامة والحطب والوقود الحيوي.
خمسة في المئة من الطاقة المائية والبقية تستورد من مناطق أخرى.
في فصول الصيف مع زيادة الطلب على الكهرباء بسبب التبريد تستورد هذه الولايات الغاز المسال، وهذا يقودنا للمشكلة القانونية الثانية، إذ على رغم أن الولايات المتحدة هي أكبر مصدر للغاز المسال في العالم، الذي تعد تكاليفه رخيصة نسبياً لأن سعره مرتبط بأسعار الغاز في البورصة، إلا أن نيو إنغلاند لا تستطيع استيراد هذا الغاز المسال بسبب قانون قديم اسمه "قانون جونز". تم تبني هذا القانون منذ أكثر من 100 عام لحماية صناعة النقل البحري الأميركية، بحيث منعت أية سفن أجنبية من نقل البضائع بين الموانئ الأميركية. وعطلت تاريخياً أجزاء من هذا القانون موقتاً في حالات الطوارئ. وبما أنه لا توجد ناقلات غاز مسال أميركية، فإن ولايات نيو إنغلاند لا تستطيع استيراد الغاز المسال من محطات الغاز المسال في خليج المسكيك في ولايتي تكساس ولويزيانا لأن من سينقله سفن أجنبية. لهذا تستورده من دول أخرى، بخاصة تريناداد وتوباغو.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كل ما سبق هو مقدمة للوصول إلى جوهر الموضوع، فعند ارتفاع أسعار الغاز المسال عالمياً تضطر هذه الولايات إلى استخدام النفط في محطات كهرباء قديمة! ووصلت نسبة توليد الكهرباء في بعض الأحيان إلى 40 في المئة!
وعندما تشتد درجة الحرارة صيفاً، تتوقف طاقة الرياح أو ينخفض إنتاجها، فتضطر هذه الولايات إلى التعويض باستخدام مزيد من الغاز، فإذا كان الغاز غير متوافرأو أسعاره عالية، تلجأ إلى النفط!
وعندما يتأخر المطر ويعم الجفاف، ينخفض توليد الكهرباء من الطاقة المائية، فيزيد الطلب على الغاز، فإذا لم يكن الغاز متوافراً أو أسعاره عالية، يكون اللجوء إلى النفط!
وفي وقت توقف مفاعلات الطاقة النووية للصيانة، تتكرر القصة نفسها!
مشكلة الصين
أذكر القراء هنا بأن طاقة الرياح لا تفيد عندما ترتفع درجة الحرارة، بكل بساطة لو كان في رياح لما كان الجو حاراً! هذه القاعدة تنطبق على العالم أجمع، مشكلة الصين أن ارتفاع درجات الحرارة فوق المعهود يعني زيادة الضغط على الشبكة، فيزيد استخدام الغاز. فإذا ارتفعت أسعار الغاز المسال فوق حد معين، تتحول الشركات للفحم، وهذا يرفع من مستويات التلوث. هنا تلجأ الحكومة إلى وقف محطات الفحم، وتقنن الكهرباء بحيث تقطع لساعات معينة، أو إجبار القطاع الصناعي على التوقف لفترات معينة. هنا يلجأ القطاع الصناعي إلى المولدات الخاصة التي تعمل بالديزل وغاز الوقود السائل، فيزيد الطلب على النفط فجأة!
زاد اعتماد الصين على الطاقة الكهرومائية بشكل كبير في الأعوام الأخيرة، إلا أن الجفاف يعني انخفاض توليد الكهرباء من الطاقة المائية. ما البديل؟ البديل هو الفحم والغاز.
لهذا نجد أن الصين، لهذا السبب وأسباب أخرى، تركز على الطاقة النووية والشمسية، وإذا استمر الطلب على الطاقة بالتزايد فإن إضافات الطاقة النووية والشمسية لن تمكن الصين من التخلص من سيطرة الفحم على قطاع الكهرباء.
مشكلة الهند
مع ارتفاع أسعار الغاز المسال تزيد الهند من واردات الفحم، بخاصة من أستراليا. ولكن إذا ارتفعت أسعار الفحم، ومعه فاتورة الواردات (خصوصاً مع انفخاض قيمة العملة الهندية مقارنة بالعملات الأخرى)، تلجأ الهند إلى الفحم المحلي، وهو من أردأ أنواع الفحم وأكثرها تلوثاً. ونظراً إلى مستويات التلوث العالية في كثير من المناطق، فإن كفاءة الطاقة الشمسية ليست بمستويات كفاءتها في أوروبا مثلاً، وهذا لا يمكن الهند من التخفيف من حرق الفحم في المستقبل المنظور، لاسيما وأن كمية الطاقة في الفحم المحلي منخفضة.
مشكلة أوروبا
تاريخياً وحتى الهجوم الروسي على أوكرانيا، كانت أوروبا تعتمد على الغاز الروسي بنحو 50 في المئة من واردات الغاز، وبسبب رغبة الأوروبيين بعدم الاعتماد على الغاز الروسي من جهة، وتحويل الحكومة الروسية الغاز من أوروبا إلى الصين، انخفض اعتماد أوروبا على الغاز الروسي من نحو 50 في المئة إلى أقل من 20 في المئة حالياً.
في حالة صيف حارق، تنخفض نسبة التوليد من طاقة الرياح بشكل كبير، ويزداد الطلب على الغاز. من أين سيأتي هذا الغاز؟ كمية الغاز المسال محدودة، ومن ثم فإن هذا يعني ارتفاع أسعاره، وحدوث منافسة بين الصين وأوروبا، وربما تحويل الشحنات من أوروبا إلى الصين وغيرها كما رأينا في الأشهر الأخيرة. وعلينا أن نتذكر أن أي غاز من قطر أو الإمارات أو عمان سيأخذ وقتاً طويلاً للوصول إلى أوروبا إذ تمر حاملات الغاز المسال حول قارة أفريقيا بسبب مخاوف ضرب الحوثيين لناقلات الغاز المسال في البحر الأحمر.
الحل هو زيادة استيراد الغاز الروسي، والعودة للفحم في بعض الدول، وللنفط في دول أخرى! وهذا يتناقض مع كل السياسات المعلنة!
لكن مشكلة أوروبا أعمق من ذلك بكثير، إذ أنعم الله على الأوروبيين في العامين الأخيرين بشتاء دافئ نسبياً، ومن ثم لم يعانوا نقص إمدادات الغاز. كما كانت الأعاصير قليلة وأقل عنفاً في خليج المكسيك، الذي تصدر منه الولايات المتحدة كل الغاز المسال، الذي يشكل نحو خمس واردات الاتحاد الأوروبي. موسم أعاصير قوي في خليج المكسيك يتبعه شتاء قارس في أوروبا يعني أزمات ومعاناة، قد تسقط نتيجتها بعض الحكومات، إلا أن النتيجة الحتمية لكل ذلك هو واقع ينافي كل ما تهدف له سياسات التحول الطاقي والتغير المناخي.
خلاصة القول إن سياسات التغير المناخي زادت من دور مصادر الطاقة التي تعتمد على الطقس على حساب مصادر الطاقة الأخرى التي لا تعتمد على الطقس، مما يزيد من التنافس بين مصادر الطاقة من جهة، وتنافس الدول على هذه المصادر من جهة أخرى. هذا لا يرفع الأسعار فقط، ولكن يزيد من ذبذبة أسعار مصادر الطاقة، حتى تلك التي كانت مستقرة لأكثر من 20 عاماً.