Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السيرة الذاتية... دفتر الذاكرة المبدعة

هي قدرة النص المكتوب على الإمساك بالزمن وتثبيته واستعادة مقطع كامل من الحياة دفعة واحدة

رغم أنها من أقدم أنواع الكتابة لم تتحول السيرة الذاتية إلى فن أدبي مثل الشعر والمسرح والرواية والقصة (أ ف ب)

ملخص

كتابة السيرة الذاتية أو المذكرات تتطلب شروطاً مختلفة عن الأدب، وهي اعتقاد كاتبها أن أحداث حياته مميزة ومهمة وفيها من الدروس ما يجب أن يطلع عليه الناس.

حاول سيغموند فرويد أبو علم التحليل النفسي في الأعوام الأخيرة من حياته أن يستعيد أحداث حياته المكثفة، التي أمضاها في تأسيس وحماية العلم الجديد المرفوض من الكنيسة ورجال الدين وعلماء النفس السابقين. وفي حياته كتب فرويد بطريقة عرضية السيرة الذاتية لمئات من مرضاه، محللاً مئات الظواهر مثل الدين والعقد الجنسية الطفولية وغير ذلك، وحين بدأ في إعادة كتابة حياته الماضية في محاولة لقراءتها والنظر فيها سرعان ما تراجع عن الأمر معترفاً بأن استعادة الذاكرة قد تكون انتقائية، وأن المرء قد يعيد قراءة حياته مما يختاره من ذاكرته فيرويها كما يريد أن يراها أو كما أرادها أن تكون، وبالتأكيد ليس كما كانت بالفعل، فالحياة كلها عبارة عن وجهة نظر شخصية.

في النهاية كتب فرويد مذكرات الإنسانية جمعاء التي أراد لها اتحاداً ومصلحة مشتركة وموضوعاً إنسانياً جامعاً، وتوصل إلى أن ما يحلم به قد يكون وهماً، لهذا اختار "مستقبل واهم" عنواناً لكتاب مذكراته المجبول بما عرفه عن الإنسانية، وهو من أواخر كتبه التي لم تأخذ الأهمية التي تستحقها وقد نشر بعد وفاته.

فن كتابي مستقل

لم تتحول كتابة المذكرات الشخصية أو السيرة الذاتية إلى أحد أنواع الكتابة الأدبية مثل الشعر والمسرح والرواية والنثر الأدبي والقصة على رغم أنها من أقدم أنواع الكتابة في تاريخ البشرية، إذ بقيت فناً من فنون الكتابة مستقلاً بذاته، فقد يكتب أديب سيرته أو سيرة غيره الشخصية وقد يكتبها أيضاً طبيب أو عالم أو سياسي أو فنان مشهور، وقد لا يتقن الكتابة الأدبية وهي أمور لا تهم ما دامت كتابة السيرة الذاتية أو المذكرات تتطلب شروطاً مختلفة عن الأدب، هي اعتقاد كاتبها أن أحداث حياته أو حياة صاحب السيرة والمذكرات التي يكتبها متميزة ومهمة وفيها من الدروس ما يجب أن يطلع عليه الناس.

هناك كثير من الروايات المكتوبة على هذا النحو وقد تحولت إلى أفلام سينمائية مشهورة، أما الشخصيات التاريخية من السياسيين والفنانين والموسيقيين والفلاسفة والعلماء الذين تركوا أثراً واضحاً في المجتمع الإنساني فإن الأفلام التي صنعت عنهم كانت تستند إلى سيرهم الذاتية أو مذكراتهم التي كتبوها أو التي كتبت عنهم.

والسيرة الذاتية تتضمن قصة حياة صاحبها منذ الولادة وحتى آخر يوم في حياته عبر تسلسل زمني مرتبط بمسار الحياة التصاعدي زمنياً، أما المذكرات الشخصية فلا تروي بالضرورة سيرة حياة صاحبها ولكنها تضيء محطات معينة من حياته ذات القيمة أو التأثير الأكبر في محيطه أو فيه شخصياً أو في مسار حياة جماعة واسعة من البشر.

أول كتابة إنسانية

يقول بعضهم إن كتابة المذكرات هي الكتابة الأولى للبشر سواء القصائد الأولى التي تروي حكاية بدء الخليقة، أو الكتب الدينية التي تروي مسار الأحداث منذ البدء، وعليه فإن الملاحم والقصص الميتافيزيقية هي نوع مؤسطر من مذكرات البشر جميعاً في رحلة نضوجهم، يقول بعض النقاد إنه يمكن اعتبار "ملحمة غلغامش" كتاب مذكرات لشخصية تاريخية سواء كانت حقيقية أم متخيلة، وهي مثال الكائن البشري الذي فهم حقيقة فنائه فراح يبحث عن الخلود، وجاءت تفاصيل رحلته شبيهة بتفاصيل رحلة كل كائن بشري في هذه الحياة الفانية.

 

 

هوميروس كاتب الإلياذة أو ناقلها وجامعها في وقت يدور حول عام 850 قبل الميلاد، نقل قصة حرب طروادة وفي هذه القصة ما يشبه مذكرات شعوب بعينها ومدن قديمة وتفاصيل خصومات وشراكات بين أشخاص معينين باتت الإنسانية تعرف كثيراً منهم بعدما تحولت هذه المذكرات القديمة إلى مئات الكتب والملاحم والأفلام والمسرحيات، وقد وجد علماء الاجتماع والأنثربولوجيا مئات الأساطير الشبيهة بـ"ملحمة غلغامش" أو بقصائد "الإلياذة" لدى سائر الشعوب وفي مختلف الحضارات، وكأن الكائن البشري يحتاج دوماً إلى تدوين الذاكرة الجماعية المتوارثة لأسباب كثيرة لا مجال لعدها هنا، إلا أن أهمها هو الحفاظ على الإرث وإعادة رواية الماضي بالطريقة التي ترتئيها كل جماعة لنفسها، وهو ما ينطبق على مذكرات الأفراد أيضاً.

على الصعيد العربي يقول نقاد الأدب والشعر، إن الشعراء العرب سواء في العصر الجاهلي أو ما بعد الفتوحات الإسلامية ضمّنوا جميع قصائدهم مذكرات من حياتهم، فكان الشاعر بمثابة جهاز الأرشيف والبث في عصره عبر قصائده التي يحكي فيها عن حبه وبطولاته وإخفاقاته، وكأنه كان ينقل أيضاً مذكرات مجتمعات بحالها من حيث لا يدري، وهكذا عرفنا كثيراً عن مجتمعات عصور ما قبل الإسلام من قصائد ذلك الزمن، وكذلك في معظم المراحل التي تلته قبل أن يحتل النثر محل الشعر في كتابة المذكرات الشخصية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويرى بعض علماء الآثار أن كل ما تركته الشعوب القديمة من كتابات هيروغليفية أو مسمارية أو من أبنية وعمران إنما تركت ما يشبه المذكرات الناقصة، إذ تمكننا من معرفة كثير عن هذه الشعوب مما بقي من الآثار والكتابات التي كتبتها، وتعرفنا سير ملوكها وتحديداً العظماء منهم، وهذا ينطبق على الكتب الدينية السماوية من التوراة إلى الإنجيل إلى القرآن الكريم، وكذلك الأمر في الكتب الدينية الأرضية مثل البوذية والهندوسية والزرادشتية.

لو عدنا في الزمن أبعد من ذلك فإن بعض علماء الآثار يعتبرون أن الأسنان التي يجدونها في مواقع الهياكل العظمية لعصور الإنسان الأول هي بمثابة مذكرات ثقافية وغذائية ومكانية لهؤلاء البشر، فعبر ما يجده العلماء عالقاً من الغذاء على هذه الأسنان تمكنوا من معرفة معلومات كثيرة عن أصحاب هذه الأسنان وكأنهم تركوا لنا كتباً في أسنانهم تشرح لنا حياتهم أو بعض جوانبها.

في العصر الحديث

على مستوى الأدب ظلت علاقة الرواية والسيرة الذاتية مثار جدل، فقد تتكئ الرواية على السيرة الذاتية أو العكس، وحينما أفرد الفيلسوف الروسي ميخائيل باكونين جزءاً مهماً من بحوثه في مجال السرديات وجماليات الخطاب الروائي لرواية السيرة الذاتية كان يعني الكشف عن الخصائص الدقيقة المميزة لفن سردي يتأسس على مركزية الأنا الكاتبة في النص، بحيث لا نرى أو نسمع أو نفكر في شيء من مروياتها إلا من منظور هذه الذات الفردية الخلاقة.

في العصر الحديث بعد تبلور شخصية الرواية في أوروبا بعيد عصر النهضة، وفي العالم العربي بعيد استتباب السلطة للإمبراطوريات المتعاقبة، ظهرت الرواية التاريخية بوصفها لوناً أدبياً للعودة بالقارئ إلى مراحل زمنية مضت أو حيث يستحيل عليه الذهاب فعلاً، ومن أشهر الأسماء في هذا الصدد ألكسندر دوماس في الأدب الفرنسي، وجرجي زيدان في الأدب العربي، الذي كتب سلسلة روايات تاريخ الإسلام الشهيرة.

 

 

إنها قدرة النص المكتوب على الإمساك بالزمن وتثبيته، فالمذكرات هي فن استعادة مقطع زمني كامل دفعة واحدة.

أعرب جان جاك روسو في كتاب اعترافاته الشهير عن أهمية ما يزمع كتابته بالقول، "إنني مقدم على مشروع لم يسبقه مثيل ولن يكون له نظير، لأنني سأعرض على أقراني إنساناً في أصدق صوره، وهذا الإنسان هو أنا، أنا وحدي". وقدمت كراسات اعترافاته نمطاً مبكراً جداً من السيرة الذاتية التي يروي فيها الكاتب واقعه ويكون فيها الحاكي والمحكي عنه، كما نقل روسو في اعترافاته كثيراً من جوانب حياته الشخصية بكل صراحة وجرأة في الحكاية وكشف أدق الأسرار الحميمة، كل ذلك المزيج الساطع وهب اعترافات روسو الخلود والجاذبية.

وكانت خصوصية تجربة طه حسين تقوم على نقل تجربة الفتى الضرير الذي كان يبصر بقلبه، وهذه كتابة من خلف حجاب فقدان البصر لهذا استطاع فيها الراوي كتابة ما لم يره بعينيه كما لو أنه رآه أكثر من مفتوحي العيون الذين عاش بينهم، كذلك فإن رواية طه حسين "الأيام" محاولة لدمج المذكرات في الثورة على كل المعتقدات البالية.

كتاب "حياة في الإدارة" للوزير الباحث والأديب والدبلوماسي السعودي غازي القصيبي نقلنا فيه من التناول الأكاديمي الجاف لمفهوم الإدارة إلى أفق السرد الإبداعي الرحب، فقد تناول الوزير الأديب سيرته الإدارية بقلم الشاعر والروائي، لتخرج بهذا المزيج الرائع بوصفها سيرة أدبية إدارية ووثيقة تاريخية مهمة لحقبة إدارية أكثر أهمية في السعودية، كما أنه مرجع إداري في مجاله.

صدمة "الخبز الحافي"

محمد مكية أحد أهم المهندسين المعماريين في العالم العربي، فقد صمم كثيراً من المباني في بلدان عربية وإسلامية عدة، وحصل على جوائز عالمية ودولية من هيئات هندسية متخصصة عن أعمال هندسية صممها وبناها، غير أن مكانة خاصة لبغداد كانت في نفسه وفي سيرته المهنية، وذكريات محمد مكية في كتاب "خواطر السنين" تصلح لتكون أرشيفاً متكاملاً عن عراق بدايات القرن الماضي في زمن الانتداب الإنجليزي وفي عهد الملكية، ومن ثم في فترة الثورات والانقلابات، كما يفيد هذا الكتاب في معرفة أحوال الأحياء البغدادية في أوائل القرن الماضي، إذ يصفها مكية وصفاً دقيقاً ينطلق من عين مهندس دقيق وثاقب النظر.

كان المعماري مكية في الـ90 من عمره عندما قرر أن يكتب مذكراته وأوكل إلى الكاتب العراقي رشيد الخيّون أمر استنطاقه وتدوين الذكريات في كتاب، وتكمن أهمية هذه المذكرات في أنها تـدون تطور الحياة وتبدلها في العراق، من خلال ما طرأ من تحولات على بغداد، وما حصــل لمحالها ونهرها، وبساتينها، وأسواق خاناتها.

 

 

نص الكاتب المغربي محمد شكري "الخبز الحافي" انطلق من الخوف والعنف والإدمان داخل المنزل الذي أوشك أن يدمر حياة الكاتب نتيجة سلوكيات والده المتسلط الذهنية والعملية، وهكذا ما إن تعلّم الابن القراءة والكتابة بالصدفة في سن متأخرة، حتى قرر أن يكتب تجربته لا لينتقم من أبيه باعتباره شخصاً وإنما ليخلخل ويهدم بنية تسلطية عميقة الجذور في مجتمع تقليدي أبوي يعلي من مكانة الأب حتى يكاد يقدسها.

فالكاتب لم يكن ينتمي إلى جماعة إيديولوجية محددة، ولم يكن يريد الإعلان عن ذات الفنان المبدع فيه بقدر ما كان يحاول التحرر من الذكريات المؤلمة وآثار الخبرات الصادمة التي عاشها في طفولته وشبابه، مثله مثل كثير من أبناء الأوساط الاجتماعية الفقيرة المهمشة، لهذا لم يكن من المستغرب أن يُمنع النص ويُقمع إلى أن تُرجم ونُشر في لغات أجنبية ولاقى اهتماماً واسعاً لدى الأدباء والنقاد الذين وجدوا فيه خطاباً جديداً وغريباً عن ثقافته التي لم تتعود رؤية الذات الإنسانية في عريها الفطري، وبالأخص حين تكون في ذروة معاناتها الجسدية أو النفسية.

رواية الكاتب الإسرائيلي الراحل المدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني عاموس عوز بعنوان "قصة عن الحب والظلام" كان لها أثر كبير في إضاءة علاقات المهاجرين اليهود بالفلسطينيين قبل عام 1948، تاريخ إعلان قيام دولة إسرائيل، وكان لهذه الرواية تأثيرها الكبير في إضاءة علاقات ثقافية واجتماعية بين المقيمين والقادمين لم يكن أحد من الكتاب الإسرائيليين أو العرب قد تناولها من قبل.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة