ملخص
على رغم كون الكاتبة البحرينية ليلى المطوع ناشطة نسوية ومدافعة عن حقوق المرأة، فإن روايتها "المنسيون بين ماءين" تتجاوز حدود القضايا النسوية. فهي في جانب منها تستعرض تاريخ سكان إحدى الجزر في أسلوب يتسم بالأسطورية، مع وجود إشارات اجتماعية مهمة حول وضعية المرأة التي مثلتها نماذج نسائية عديدة.
تعتني الروائية البحرينية ليلى المطوع في روايتها الجديدة "المنسيون بين ماءين" (دار رشم) بدلالة "الماءين" الواردين في العنوان: ماء البحر، وماء الينابيع الواقعة فيه. ومن هنا جاء اسم "البحرين" الذي يطلق على هذه المنطقة الجغرافية. إن الماء دال محوري، فالكاتبة، كما تصف نفسها، هي "ابنة الماء"، أو ابنة جزيرة ويشكل البحر جزءاً من هويتها. ولم تبالغ المطوع حين قالت في أحد العناوين الفرعية: "إنا من الماء وإنا إليه لعائدون". وهو ما يتوافق مع ما ورد في القرآن الكريم: "وجعلنا من الماء كل شيء حي". إن ما سبق يعكس خصوصية هذا المكان المحلي في ماضيه وحاضره. ولعل أهم خصوصياته معجزة وجود ينابيع مياه عذبة وسط أعماق البحر المالح، وتوظيفه أهم الأساطير المنتشرة في هذه المنطقة. ومنها أسطورة غلغامش الذي رحل إلى هذا المكان بحثاً عن عشبة الخلود، والأسطورة الفينيقية التي تدور حول المرأة التي لا يعيش لها وليد، ولا يخرجها من هذه اللعنة إلا وطء دم شريف. وهو ما حدث مع "سليمة"، حين وطأت دم "طرفة"، بعد قتاله مع رسول الوالي.
طرفة بن العبد
مرت سيرة طرفة رغم نهايتها المأسوية مرور الكرام في المراجع القديمة لكنها عولجت معالجات كثيرة في البحرين، كان أبرزها السيرة التي كتبها الشاعر قاسم حداد. غير أن إشارة طرفة في أحد الأبيات إلى النساء "المقاليت" اللائي لا يعيش لهن ولد أوحت للكاتبة فكرة هذه الرواية. فاخترعت شخصية "سليمة" التي انتهزت الفرصة ووطأت دم "طرفة"، ومن هنا اشتعلت نار الانتقام داخل شقيقته "الخرنق". وكان ما فعلته "سليمة" على غير هوى زوجها "صفوان" الذي نبهها إلى أن "الخرنق"، "لا تأكل إلا لحم الجمال، تأخذ من حقدها وذاكرتها الكارهة لمن أساء إليها". لكن "الخرنق" لم تلجأ إلى القوة والمواجهة المباشرة، بل إلى الحيلة، فانتظرت مرور الوالي لتنشد أشعاراً في جمال امرأة حسنة القد شهلاء مكتنزة مشتهاة. تجاهل الوالي ذلك أول مرة، ومع تكرار الموقف يسأل الوالي من معه عن هذه المرأة الجميلة فلم يجدوا إليها سبيلاً، فتشب فيه نار الولع ويستدعي "الخرنق" ويسألها فترد بابتسامة ماكرة: "إنها سليمة زوجة صفوان". فطلب الوالي من خادمه أن يطلب من صفوان إكرامه بجسد "سليمة". ولم يخرج الزوجان من هذا المأزق إلا بإرسال امرأة جميلة إلى الوالي. وحين علمت "الخرنق" بذلك انتظرت مرور الوالي ووصفته بالمخدوع، وعندما تأكد من ذلك أمر بقتل "صفوان" وصلبه. وهنا تهرب "سليمة" وهي حبلى إلى الضفة الأخرى، والعجيب أنها تضع وليدها داخل البحر ثم تخرج به إلى الشاطئ.
تعدد الرواة
الرواية مسرودة بصورة رئيسة على لسان "ناديا" (المعاصرة) لكن ذلك لم يمنع تعدد الأصوات السردية، ما بين ضمير الغائب وضمير المتكلم في الفصل الذي يحمل عنوان "ما حدث لناديا" التي تقول: "أدور على نفسي، إنها الشمس فوقي تحرقني، تؤذي عيني. هذا المكان الذي عبرته سليمة، كما ذكر في الواقعة. ولكن أين البحر؟ أين زرقة الماء وتلونه؟". إن السؤالين الواردين في نهاية الشاهد، هما علامة على تحولات المكان، سواء بفعل البحر نفسه أو بفعل البشر. إننا أمام تقابلات تزخر بها الرواية، منها ثنائية الماضي الذي يعود إلى آلاف السنين وتمثله شخصيات مثل "طرفة" و"سليمة" وأمها "بثينة" وزوجها "صفوان"، و"الخرنق"، والحاضر الذي تمثله "ناديا" وجدتها "نجوى" وأستاذها "آدم". والحقيقة أن هذه الثنائية تكاملية، فالحاضر يستدعي أحداث الماضي بغرض إسقاطها على ما هو معاصر، وليس فقط لتأكيد الهوية. فالمقابلة الأخرى الحدية التي تقوم على الصراع تتمثل بين البحر والصحراء أو الماء واليابسة، ثم المقابلة التكاملية بين الأساطير والواقع، والعذوبة والملوحة الممثلتين في الينابيع والبحر. يقول "آدم": "هذه الينابيع كانت من أسباب نقاء اللؤلؤ، ماء عذب في وسط البحر المالح ومنه كان أجدادنا الغواصون يتزودون بالماء في أثناء رحلات الغوص"، مما يجعل من هذه المقابلة ثنائية تكاملية. على عكس ثنائية الماء واليابسة، إذ نلاحظ أن غالب الينابيع قد "جفت بسبب عمليات الردم والبناء وإنشاء الجزر الصناعية وتوسعة الأراضي". وهو ما يجلب الخديعة حين نرى في الصحراء سراب الماء، وفي البحر سراب اليابسة. إضافة إلى ذلك هناك ما يسمى دراما القتال بين "طرفة" والمرتزق الذي أرسله الوالي والذي قال للأول بصوت عال وهو يدور ليصل الصوت إلى من اجتمع ليشهد النزال: "اختر طريقة موتك، فإني قاتلك لا محالة". لكن "طرفة" يأبى ذلك بغروره المعروف، فهو يعرف أنه من قبيلة الأشراف الذين لم تجز لهم نواص أو تسب نساء، ويشرعون صدورهم للموت ولا ينحنون أمام ملك ولا يخشون مرتزقاً، لكنه يموت ميتة قاسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رة منها بالتفكير الأسطوري. فالأسطورة هي حياة هؤلاء البشر وقرينة وجودهم وموجهة خطاهم. فسليمة تشعر بالقبضة التي لمستها، وتجد أن الماء قد ترك على جلدها أثراً ليد صغيرة. إنها يد ابنتها "أميمة" الأضحية التي "تلاشى جسدها مع سيلان الماء منذ أعوام". وقبل اجتيازها للبحر حذروها أن تمتد يدها إلى أي فاكهة وذلك لأن البحر سيعلم، "وسيطالب بها، وسيقلب القارب". وهذا يذكرنا بما اقترفه كل من آدم وحواء حين أكلا من الشجرة المحرمة وكان ذلك سبب طردهما من الجنة. كما يذكرنا بامرأة لوط التي تحولت إلى عمود ملح بمجرد نظرها إلى الوراء، إذ يسمع صفوان "صوت النسوة المتوجعات وهن يسرن مبتعدات عن البقعة المقدسة، قاومن، فلا يلتفتن إلى الوراء". وهناك التضحية بالبنات الأبكار على نحو ما يقال عن العادة في مصر القديمة، فقد كان هناك من ضحوا ببناتهم أمام الآبار ومعهم أشراف القوم من كل قبيلة، حتى تبشرهم الكاهنة الكبرى بالماء حتى سمعوا خريره فهللوا فرحاً. وتتوازى مع هذه الحادثة ولادة الحياة من الموت، وهذا ما فعلته سليمة مع طرفة لترزق بالوليد. وهناك ما يسمى أساطير الطبيعة حيث يروى أن "الدبران" كان رجلاً فقيراً، "أحب ثريا الفاتنة فمنحها أغنامه لكنها رفضته. أخذ يتبعها مهما صدت، حتى تحول نجماً يتعقبها في السماء". كل هذا يؤكد هوية هذا المكان، وهذا ما تتحدث عنه "ناديا" مع "آدم": "لماذا لم يحافظوا عليها - تقصد الهوية -؟ هذا دليل على حضارات سابقة". وتفسر هذا بزحف الأغراب على المكان حتى أصبح بلا ذاكرة.
تنوع الأساليب
تقوم حوارية الرواية على تعدد الأساليب، إذ تجمع بين الأسلوب الشاعري والبحث العلمي والدعاء والحكمة والاسترجاع وتضمين الشعر وآيات من القرآن الكريم. ومن شواهد الأسلوب الشاعري قول "ناديا": "أنا الكائن الحي الذي يتجه إلى النور، ماذا أفعل إن كان نفقي بلا نور؟". فالشاهد يقوم على رمزية النور والنفق. أما أسلوب البحث العلمي فيتضح في قولها: "في تقرير صادر منذ سبعة وعشرين عاماً، يذكر أن أسماك الحراسين وجدت داخل إحدى العيون". وأسلوب الدعاء في قول: "دوب سار ماخ": "بنورك المضيء يتبعك البحر/ إلهي أتيتك راجياً العبور". وأسلوب الحكمة حين يقول الأب المعلم: "تآخوا، كل منكم عليه التمسك بشقيق يشد من أزره". وهناك أسلوب الاسترجاع الغالب على سرد "ناديا". ومن تضمين الشعر هذا البيت: "ما بال عينك لا تجود بمائها/ والنفس قد طويت على غمائها". وتضمين آيات القرآن مثل "فلينظر الإنسان ممَّ خلق، خلق من ماء دافق". هذه الرواية تقدم عالماً غرائبياً، لكن هذه الغرائبية كانت من آلاف السنين واقعاً يعيشه الناس.