Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محاورة عصرية بين شيخ ومريد متخيليْن في "قاموس الرّوح" 

نصوص عمار علي حسن تحاكي كتابة نجيب محفوظ في كتابه "أصداء السيرة الذاتية"

تشكيل صوفي لعبد الرحمن الكناني (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

بات الأدب الصوفي يشغل حيزاً واضحاً في النتاج الشعري والروائي الجديد في العالم العربي، وأصبح الشعراء والروائيون يعكفون على سير المتصوفة وإبداعهم، بغية افتتاح أفق ادبي، يجمع بين التراث والمعاصرة.

تتوالى الكتب  التي تحتوي مصطلحات الصوفية ومفاهيمها ، وقد بذل الذين التقطوا مفرداتها وصنَّفوها ورتَّبوها جهداً في رصدها وعرضها، لكنها لم تعتمد غالباً سوى اقتباس ما تركه المتصوفة الكبار الأوائل، أو النقل الأمين عنهم، عطفاً على ما جادوا به في تأملاتهم، وانفعالاتهم، وجيشان عواطفهم، وإلهاماتهم السخيَّة، ووضعوه في كتب أو نسب إليهم من أقوال، أو فيوضات لفظية. يعبر ما سبق عن قناعة الكاتب المتخصص في تاريخ الصوفية الإسلامية وراهنها عمار علي حسن، في مقدمة كتابه "قاموس الروح: التصوف كما يجب أن نعرفه" (الدار المصرية اللبنانية).

ويرى حسن أن هذا الكتاب يختلف عما سبقه من كتب في السياق ذاته، في قيامه بتأمل مفاهيم متعلقة بالروح خصوصاً، ثم إقامة محاورة حولها بين شيخ ومريدٍ متخيليْن، "في محاولة للاقتراب من الأسرار الكبرى لها". تأمل المؤلف الكثير من المصطلحات الصوفية، وقدَّم تذوقه وتفكيره الذاتي، ليجلي الغموض الذي يلتبس بعضها عبر السرد وحضور الصورة وانسياب اللغة، مبحراً في الأحوال والمقامات والمراتب والفضائل والقيم والوسائل والمعاني. إن هذا الكتاب الذي يتناول 180 مصطلحاً مرتبة أبجدياً، "هو محاولة لإضافة مدماك جديد في بناء التصوف الإسلامي السامق، الذي توالت عليه النوائب والعواصف والتدابير المثبطة والمحبطة، التي أرادت له أن ينهار، لكنه بقي صامداً في وجه التطرف والخرافة". بدت أعمال المتصوفة الكبار الأوائل، في مجمل الكتب التي تناولتها سابقاً، كأنها – كما يرى عمار علي حسن - عملٌ واحد، أو اقتطافٌ محدد من أعمال عدة، فتكرّر، ما كُتب تحت كل منصطلح، من قاموس إلى آخر، "دون أن يُعنى كثيرون بالإفاضة والإضافة". فهم لم يبذلوا الجهد المطلوب في شرح الغامض والملتبس، ولم يكتبوا شيئاً كثيراً يذكر، ينضم إلى ما تركه الأقدمون.

لقد أبدع القدماء من المتصوفة بتأملاتهم العميقة قاموساً مختلفاً للروح، مَن يطلع عليه يجده حافلاً بالأسرار، يتقدم فيه الرمز على المعنى المباشر، وتعلو الإشارة فوق العبارة، ويُخاطب الوجدان أكثر ما يُخاطب العقل، ويُعبر في مجمله عن رغبة أصحابه في الوصول إلى الحقيقة، عبر المجاهدة التي قد تجود بالإشراقات المبهرة، ويأتي معها النور والعجائب، أو نصرة الحق عبر تحري المسار المؤدي إليه، دون التواء، ولا مواربة، ولا تردد، وتكون الحقيقة ومعها الحق، في سعي إلى بلوغ المعنى الأسمى والأسنى للوجود.

مسار ممتد

ويأتي هذا الكتاب بمثابة إضافة جديدة لكتابات عمار علي حسن في التصوف، التي تنوَّعت بين الدراسة العلمية مثل كتابه "التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر: ثقافة الديموقراطية ومسار التحديث لدى تيار ديني تقليدي"، والتراجم مثل كتابه "فرسان العشق الإلهي" الذي حوى سيراً غيرية مكتوبة وفق منهج واحد لأربعة وأربعين شخصية صوفية بارزة في تاريخ المسلمين، والتأملات التي تربط التصوف بالواقع الاجتماعي مثل كتابه "مقام الشوق... تجليات صوفية"، الذي وضع فيه 33 مقاماً صوفياً خارجاً من الحياة، يعيد اكتشاف الولاية والزهد والمعرفة الحدسية، ويجعل النزوع إلى التصوف سبيلاً للنهوض، من خلال الامتلاء الروحي والسمو الأخلاقي والخيرية أو التعاون وقيم الإيثار، والتسامح. ناهيك عن أربع روايات هي "شجرة العابد"، "جبل الطير"، "السلفي"، و"خبيئة العارف"، فضلا عن العديد من القصص القصيرة التي تحوي طقوساً صوفية.

تتنوع المصطلحات بين أسماء وأفعال، وتتمحور حول مصطلح "روح"، الذي اجتهد عمار علي حسن في تعريفه بلسان الشيخ المتخيَّل: "هي الحياة ودونها لا تكون، لطفها غاية في الرقة والشفافية، حتى إنها لا تُرى. ندرك أن دون الروح هو الموت، لكن لا نعرف أين تستقر، حتى لو كان البدن سجناً لها، فهي فيه لطيفة في شيء كثيف، مثل البصر في العين، والسمع في الأذن". وورد في القرآن: "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" (الآية 85 سورة الإسراء). ويتسق حسن تماماً مع مضمون هذه الآية الكريمة، فيقول بلسان الشيخ: "سرُها محجوبٌ عن الخلْق، فالله قد اختص نفسه بعلمها، ولم يطلع عليه أحداً من خلقه". ولذلك عندما سأل المريد: "ما الروح يا مولانا؟"، أجابه الشيخ: "ليس المسؤول بأعلم من السائل"، مضيفاً: "كل ما أعرفه هو أنها جوهر الجواهر، بغيرها يصير كل ما على الأرض تراباً، حتى الصخور الصمَّاء، ففيها ما يجعل قوامها ناهضاً أمامنا، وإن فقدته تتفتت، وتذروها الرياح" ص 116.   

على خطى محفوظ

ويقول حسن في مقدمة الكتاب: "في هذا القاموس، نبحر دون بلوغ أي شاطئ". ويضيف أنه استأنس في كتابه هذا بكثير من المعاجم الصوفية مثل كتاب عبد الرزاق الكاشاني "معجم اصطلاحات صوفية"، وكتاب عبد المنعم الحفني "معجم مصطلحات صوفية"، وكتاب سعاد الحكيم "المعجم الصوفي"... "وهي جهود معتبرة، لكنها لم تقطع شوطاً في نقل مفاهيم التصوف من أذواق ومواجيد خاصة الخاصة، من أصحابها الأصلاء، إلى أفهام العموم، الذين يجدون يسراً في قراءة فروع مختلفة في الدين، ويعجزون عن القيام بالأمر نفسه، باستمرار واقتدار، مع التصوف" ص 8. وحرص حسن على أن يقتصر قاموسه على كل ما يمس الروح من كلمات صوفية راسخة، محاولاً تقريبها إلى الأذهان، سواء ممن خلال السرد أو الحوار، "وكل منهما سبيل عفي لتحقيق مثل هذا الغرض الضروري".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويؤكد حسن أن "قاموس الروح" الذي يقوم على تأمل كل مفردة، ثم إقامة حوار حولها، "هو كتاب مختلف عن كل كتبي السابقة، سواء في التصوف أو غيره". وفي السياق ذاته يذكر حسن أن "قاموس الروح" هو "تجربة خاصة على ضفاف التصوف، حتى وإن جاء مَن يرى أنها تقع في قلبه، فالتصوف بحر لا شطآن له، ومهما سبحنا فيه، فلن نبلغ شاطئه الآخر، حتى وإن امتلكنا غاية المهارة في السباحة، وغاية المعرفة بأحوال البحر وشؤونه وشجونه". يبدأ القاموس بمفردة "أبدية"، وينتهي بمفردة "يقين". وفي السرد الخاص بالأولى يؤكد الشيخ المتخيَّل: "يتعاقب موت الخلائق، لكنهم لا يفترقون"، ويضيف: "لا يمنع شيء روحاً أن تلتقي روحاً، وإن تباعدت الأجسام"، رداً على سؤال للمريد. وفي الثانية: "اليقين يتدرَّج من العلم إى الحق مروراً بالعين، فعلم اليقين قائم على أن من رأى فوق من سمع، فالرؤية تأتي بشرط البرهان، وهي لأرباب العقول". ويضيف الشيخ رداً على ملاحظة لمريده: "لم أعلمك في أي يوم أن الطريق إلى اليقين فيها استغناء عن السؤال". وأخيراً فإنه يمكنني القول إن عمار علي حسن سار في هذا الكتاب ليس على منوال متصوفة مشهورين، فحسب، وإنما حاكى إلى حد ما نجيب محفوظ في كتابه "أصداء السيرة الذاتية" (1995)، خصوصاً في تجربة التأمل وإعطائها بعداً صوفياً أو فلسفياً، فالشيخ والمريد "المتخيلان" ليس سوى وجهين لعمار علي حسن نفسه، كما كان محفوظ هو "الشيخ عبد ربه التائه" الذي يجيب على أسئلة مريد "متخيّل".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة