Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ديردري" لويليام بتلر ييتس: أسطورة حزينة للمشاركة في النضال الوطني

حين يختار الشاعر الطريقة الأمثل للانخراط في معركة تحرير شعبه من ربقة الاحتلال

"ديردري" في المخيال الإيرلندي (وسائل التواصل)​​​​​​

ملخص

كتب عمله هذا، انطلاقاً من تلك الأسطورة المعروفة التي تتحدث عن الصبية الحسناء "ديردري" ابنة عازف آلة "الهارب" العامل في بلاط الملك كونشوبار. ويحدث أن هذا الملك يتنبه ذات مرة إلى جمال الصبية وفتنتها فيغرم بها ويقرر - على رغم تنبيهات العرافة له - أن يضعها في مكان تربى فيه وحيدة، بعيدة من الأعين وسط الشلالات المائية والغابات، حتى تبلغ سناً يمكنه أن يتزوجها في حينه، ويجعلها مليكة لقلبه وبلاده.

على رغم أن ويليام بتلر ييتس يعرف، خصوصاً، كشاعر من كبار الذين جددوا في الشعر الإنجليزي خلال الثلث الأول من القرن الـ20، وكان ذا حضور عالمي في حركة الشعر الحديثة، وصولاً حتى إلى الكتابة الشعرية التلقائية (الأوتوماتيكية) التي سبقت وجود الحركة السوريالية، فإن الرجل كان أيضاً، كاتباً مسرحياً كبيراً، بل إنه كان غزيراً في كتابته للمسرح، حيث يمكننا أن نحصي 30 مسرحية، تقريباً، كتبها ييتس طوال مرحلة نشاطه "الغيبية"، بل حتى خلال مرحلة انضمامه إلى جمعيات تحضير الأرواح واستلهامه بعض كتاباته من خوضه تلك النزعة.

عرف أيضاً الرجل بنزعته الوطنية النضالية، التي دفعته إلى بعث الآداب والفنون الشعبية الإيرلندية، وتحويلها إلى أعمال أدبية وفنية حديثة، تلهم الشعب الإيرلندي أصناف البطولة وآيات النضال ضد المحتلين، الإنجليز خصوصاً. لقد جعل ييتس من اشتغاله على الأساطير الإيرلندية والكلتية القديمة، وإعادة كتابتها، وسيلة من وسائل خوضه النضال إلى جانب الثوار الإيرلنديين، وذلك خصوصاً تحت رعاية الليدي غريغوري التي كانت -إلى كونها مؤلفة وباحثة في الفولكلور الإيرلندي- ملهمة لكثير من الكتاب والفنانين الذين وقفوا إلى جانب رغبة الإيرلنديين الهائلة في التخلص من السيطرة الإنجليزية على بلده.

من الواضح أن العمل الدرامي ذا الفصل الواحد "ديردري"، قد لا يكون أفضل أعمال ويليام بتلر ييتس أو أقواها من الناحية الفنية، غير أن هذا العمل الشعري البسيط، يمكن اعتباره في الوقت نفسه، من أكثر أعمال هذا الكاتب والشاعر، تعبيراً عن ارتباطه بجذور الثقافة الإيرلندية، وكذلك عن تأثره بأفكار الليدي غريغوري وكتاباتها، إذ في عام 1902، وقبل خمسة أعوام من نشر ييتس تراجيديته ذات الفصل الواحد هذه، كانت الليدي غريغوري، نشرت نصاً كتبته بنفسها بعنوان "كوتشولين أوف مويرتمن"، ولقد أوردت الليدي المناضلة تلك، حكاية "ديردري" ضمن إطار هذا العمل، مما أثر في كثير من الكتاب الإيرلنديين، كان ييتس في مقدمتهم وإن كان علينا ألا ننسى الإيرلندي الكبير الآخر جون ميلتون سنغ (1871- 1909) الذي كتب بدوره مسرحية عنوانها "ديردري فتاة الأحزان" مستلهماً عمل الليدي غريغوري. والحال أن سنغ، في مسرحيته - هذه التي لم تكتمل أبداً، بسبب رحيله قبل أن يستكملها، مما جعلها تقدم دائماً ناقصة - آثر أن يستخدم كل الحكاية التي كانت الليدي غريغوري نقلتها عن الأساطير الكلتية القديمة، وذلك على العكس من ييتس، الذي استخدم فقط جزءاً من الحكاية الأسطورية.

شراكة مع الليدي غريغوري

تنتمي أسطورة "ديردري" أصلاً إلى عالم الأساطير الإيرلندية السابقة على وصول المسيحية إلى تلك المنطقة "النائية" من العالم. ولعل هذه العراقة هي التي حدت بالمثقفين الإيرلنديين عند نهاية القرن الـ19، وحين اشتد أوار الحركة الإيرلندية المناهضة للوجود الاستعماري الإنجليزي في بلادهم، إلى أن يستعيدوا تلك الأساطير والحكايات، محدثين إياها مرات، أو مقدمين إياها كما هي في مرات أخرى، لكي يؤكدوا الاستقلالية الفكرية لبلدهم، ولكي يخاطبوا الشعب الإيرلندي بلغة يفهمها. وهنا، ضمن هذا الإطار، لم يكن من الضروري أبداً لأي أسطورة مستخدمة، أن تحمل من الرموز والأبعاد ما يعبر، في صورة مباشرة أو غير مباشرة، عن الرغبة في الاستقلال عن الإنجليز: كان يكفي للعمل الإبداعي أن يكون معبراً عن التاريخ الإيرلندي، حتى يفعل مفعوله ويكون قد قال كل ما يتعين قوله. وهذا القول نفسه ينطبق على "ديردري".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كتب ييتس "ديردري" إذاً، في عام 1907، أي خلال حقبة كان يغوص خلالها حتى أذنيه في الرمال المتحركة للمسألة الإيرلندية. والأهم من هذا أنه كتبها وهو يعيش في لندن التي كان أسس فيها قبل سنوات "الجمعية الأدبية الإيرلندية"، قبل أن يؤسس فرعاً لتلك الجمعية في دبلن نفسها، ومن ثم يأخذ على عاتقه، كوسيلة نضال فنية، أن يبعث حركة مسرحية إيرلندية، شراكة مع الليدي غريغوري، التي كتب، شراكة معها، كثيراً من مسرحياته الأولى، بل سيقال أيضاً إنه بالنسبة إلى "ديردري" لم يكتف باقتباس الأسطورة عن كتاب الليدي غريغوري، بل إنه صاغ المسرحية معها: هي التي رسمت الأحداث، وهو الذي وضعها في لغة شعرية صافية ومبتكرة. غير أن هذا الكلام لم يؤكد أبداً في شكل نهائي.

وحيدة وسط الشلالات والغابات

المهم أن ويليام بتلر ييتس، كتب عمله هذا، انطلاقاً من تلك الأسطورة المعروفة التي تتحدث عن الصبية الحسناء "ديردري" ابنة عازف آلة "الهارب" العامل في بلاط الملك كونشوبار. ويحدث أن هذا الملك يتنبه ذات مرة إلى جمال الصبية وفتنتها فيغرم بها ويقرر - على رغم تنبيهات العرافة له - أن يضعها في مكان تربى فيه وحيدة، بعيدة من الأعين وسط الشلالات المائية والغابات، حتى تبلغ سناً تمكنه أن يتزوجها، ويجعلها مليكة لقلبه وبلاده.

والحقيقة أن "ديردري" ترضى بوحدتها تلك، وسط الطبيعة الخلابة، وتعيش سعيدة مطمئنة، غير شاغلة بالها بفكرة أنها بعد فترة ستضطر إلى الزواج من الملك العجوز، لكن ذات يوم، يصل إلى المكان ثلاثة صيادين شبان من النبلاء، هم ثلاثة إخوة من بينهم نايسي، الذي كان أقواهم وأكثرهم حسناً. وما إن تراه "ديردري" حتى تغرم به ويغرم هو بها. وإثر ذلك يتمكن أخواه من تهريبه وحبيبته إلى اسكتلندا، حيث - بعيداً من عيني الملك وغضبه - يعيشان متنقلين من مكان إلى آخر. والذي يحدث هنا هو أن الملك يرسل إليهما ذات يوم رسولاً يبلغهما صفحه عنهما داعياً إياهما إلى العودة إلى الوطن. فيفعلان، بيد أن الملك لم يكن، بالطبع، على مثل ذلك التسامح، إذ إنه ما إن يصلا حتى يأمر بإعدام نايسي فيعدم. وما إن تدرك "ديردري" ذلك حتى تقتل نفسها حزناً على حبيبها.

أجزاء من الأحداث المعروفة

كما أشرنا، لم يضمن ييتس مسرحيته ذات الفصل الواحد كل هذه الأحداث، بل اكتفى بأن يصور فيها جزءاً أساسياً من الحدث، إذ اكتفى بالبدء مع عودة الحبيبين إلى إيرلندا، بعد حصولهما على "صفح" الملك. فالمسرحية تبدأ بتلك العودة، لتتواصل مع غدر الملك بهما ومقتل نايسي ثم ديردري نفسها.

 

ومن الواضح هنا أن ييتس إنما تعامل مع الأسطورة على أساس أن كل فرد في إيرلندا يعرفها ولا حاجة إلى رسم أحداثها الأولى. المهم بالنسبة إليه كان البعد التراجيدي للغدر والقتل. ومن هنا بنى شاعرنا مسرحيته انطلاقاً من ثلاث عازفات موسيقيات جوالات يتولين التعليق على الأحداث، على طريقة الكورس اليوناني القديم، مما أعطاه حرية في صوغ العمل شعرياً، بلغة رائعة حافلة بالصور المجازية، وأضفى على الأسطورة طابعها الأصيل (الطابع الحكائي انطلاقاً من أن الأسطورة إنما وجدت لتروى، لا لتشاهد مباشرة).

والحقيقة أن هذا الاشتغال الشعري أعطى العمل كله طابعاً رمزياً، كان في الإمكان توظيفه مباشرة في استنهاض همة الإرادة الإيرلندية جمالياً وشعورياً. وقد يكون من المفيد هنا الإشارة إلى أن ييتس إنما طبق نظريته في أن رواية الأساطير ستكون أكثر قوة إن قدمت من منظور حكائي لا من منظور مباشر، مما يترك للمتلقي مجالاً أساسياً لتخيل الأحداث وحرية في تصديقه حدوثها بدلاً من أن يجد تلك الأحداث مفروضة عليه انطلاقاً من بعد بصري حاسم.

تلميذ غير مباشر لبليك

ويليام بتلر ييتس (1865-1939) الذي كان متجهاً إلى دراسة الرسم، مثل أبيه وأخيه، في بداياته، سرعان ما انصرف إلى دراسة الأدب ما إن صار في الجامعة، وبدأ نشر أشعاره منذ عام 1891، غير أن اهتمامه الأول انصرف إلى تحرير أشعار ويليام بليك الذي كان صاحب التأثير الأول والأكبر فيه. وهو منذ عام 1889، بدأ يكتب للمسرح تزامناً مع نشره أعماله الشعرية ومقالاته الأدبية.

وعلى رغم تنقله بين لندن ودبلن وفرنسا، فإن مرجعيته الأولى ظلت إيرلندية. وهو انتخب نائباً في مجلس الشيوخ الإيرلندي (1922-1928) حين أسست الجمهورية الإيرلندية الشابة. ومع هذا فإنه مات في جنوب فرنسا، واستغرق الأمر سنوات قبل أن يعاد جثمانه إلى وطنه الأصلي حيث دفن. وييتس أصدر كثيراً من الدواوين الشعرية، كما كان يواصل الكتابة للمسرح، بعد أن أشرف على تأسيس المسرح الوطني الإيرلندي، حتى سنوات حياته الأخيرة.

المزيد من ثقافة