ملخص
من المرجح أن يكون نهج شي جينبينغ اليوم في التعامل مع العلاقات الصينية الروسية أكثر ثباتاً مما كان عليه في الماضي، لأنه ربما يحاول تجنب خطر التقرب المفرط بين الدولتين.
في الرابع من فبراير (شباط) 2022، وقبل غزو أوكرانيا بأسابيع قليلة، سافر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى بكين، إذ وقع هو والزعيم الصيني شي جينبينغ على وثيقة تبشر بشراكة "بلا حدود". وخلال فترة ما يزيد قليلاً على عامين منذ ذلك الحين، رفضت الصين إدانة الغزو وساعدت روسيا في الحصول على العتاد الضروري للمجهود الحربي، مثل المعدات الآلية والمحركات والمسيرات. وأثارت هذه الشراكة المزدهرة بين شي وبوتين تساؤلات جدية في العواصم الغربية. هل عاد التحالف الذي ربط موسكو وبكين في مطلع الحرب الباردة؟ وعلى رغم أن الروس والصينيين رفضوا مراراً وتكراراً مثل هذا الحديث، فإنهم أكدوا أيضاً أن شراكتهم الحالية أكثر متانة مما كانت عليه في الأيام التي قادوا فيها العالم الشيوعي معاً.
ومن المرجح أن شي يفهم طبيعة هذه العلاقة جيداً. فقد كان والده، شي تشونغ شيون، مسؤولاً رفيع المستوى في الحزب الشيوعي الصيني، وكانت حياته المهنية نموذجاً مصغراً عن العلاقات بين بكين وموسكو خلال القرن الـ20، منذ الأيام الأولى للثورة في العشرينيات والثلاثينيات إلى المساعدة المتقطعة خلال الأربعينيات والتقليد الشامل للنموذج السوفياتي في الخمسينيات، ومن التباعد الحاد العلني في الستينيات والسبعينيات إلى التقارب في أواخر الثمانينيات. وأظهر تعاطي شي الأب مع موسكو أخطار التقارب والعداوة، وكيف أسهم التقارب الشديد في خلق توترات لا يمكن السيطرة عليها مما أدى إلى عداء مكلف. ومن خلال فهم هذا التاريخ يبدو أن شي الابن يعتقد أن العلاقة الحالية التي تربط بين موسكو وبكين أقوى بالفعل مما كانت عليه في خمسينيات القرن الـ20، وأنه قادر على تجنب التوترات التي أسفرت عن التباعد الذي حصل في السابق.
خلال الحرب الباردة أدت الأيديولوجية الشيوعية في نهاية المطاف إلى تباعد البلدين، في حين تجمعهما الآن مجموعة أوسع من المواقف المحافظة والمعادية للغرب والقائمة على سيطرة الدولة. في الماضي، كانت العلاقات السيئة بين القادة كأفراد تلحق الضرر بالعلاقة، بينما اليوم، جعل شي وبوتين من علاقتهما الشخصية عنصراً أساسياً من عناصر الشراكة الاستراتيجية. في السابق، كانت مقتضيات تحالف الحرب الباردة التي تطلبت من كل جانب التضحية بمصالحه من أجل مصالح الطرف الآخر، تحمل بذور انهيار هذا التحالف، في حين يسمح محور الملاءمة في الوقت الحالي بمزيد من المرونة. لن تسير الصين وروسيا بعد اليوم على نفس الخطى مثلما فعلتا في الأعوام الأولى التي أعقبت الثورة الصينية، ولكنهما لن تفترقا عن بعضهما بعضاً في أي وقت قريب.
علاقات خطرة
ولد شي جينبينغ في عام 1953، في ذروة الفترة تأثرت فيها الصين بشدة بالممارسات السوفياتية. وكان الشعار الأكثر شعبية في الصين في ذلك العام: "الاتحاد السوفياتي اليوم هو صين الغد". كان شي تشونغ شيون قد انتقل للتو إلى بكين قادماً من شمال غربي الصين، إذ أمضى معظم العقود الأربعة الأولى من حياته وهو يقاتل في ثورة مستوحاة من الثورة البلشفية عام 1917. وعلى غرار كثر من أبناء جيله، كان شي مخلصاً للقضية على رغم النكسات العديدة والتضحيات الشخصية، فاستمر ولاؤه حتى بعد تعرضه للاضطهاد والسجن على يد زملائه من أعضاء الحزب الشيوعي الصيني في عام 1935 بسبب عدم التزامه بشكل صارم بالعقيدة الشيوعية.
أثر الانتصار البلشفي على المتطرفين الصينيين الأوائل، وقادت موسكو الحزب الشيوعي الصيني ومولته في أعوامه الأولى. لكن الاستقلال المتزايد للشيوعيين الصينيين حدث تزامناً مع صعود ماو تسي تونغ، وربط مصير شي تشونغ شيون بمصير ماو. وبحسب ماو، فإن المتطرفين الذين تلقوا التدريب السوفياتي كادوا يقضون على الثورة في الصين لأنهم فشلوا في فهم الظروف الفريدة الخاصة بالبلاد. وادعى ماو أن هؤلاء العقائديين اضطهدوا شي في عام 1935 تماماً مثلما أساؤوا معاملة ماو نفسه في وقت سابق من ذلك العقد، عندما همشه القادة المتحالفون مع السوفيات داخل الحزب الشيوعي الصيني.
جعل شي وبوتين من ارتباطهما الشخصي عنصراً أساسياً من عناصر الشراكة الاستراتيجية.
ومع ذلك، لم يكن ماو يدعو إلى الانفصال عن موسكو. التقى شي تشونغ شيون عدداً قليل جداً من الأجانب في وقت مبكر من حياته، لكن الأمر تغير في أواخر أربعينيات القرن الماضي، عندما اجتاح الشيوعيون الصين خلال الحرب الأهلية في البلاد، ثم بدأ في التعامل باستمرار مع السوفيات بصفته رئيس مكتب الشمال الغربي الضخم، وهو المنظمة الحزبية التي أشرفت على منطقة شينجيانغ. ساعد الاتحاد السوفياتي الحزب الشيوعي الصيني على إبراز القوة العسكرية هناك، وفي ديسمبر (كانون الأول) 1949، بعد أن انتصر الشيوعيون في الحرب وعززوا سيطرتهم على الأراضي الرئيسة في الصين، اقترح شي جينبينغ على قادة الحزب إنشاء تعاون بين شينجيانغ والاتحاد السوفياتي من أجل تطوير الموارد في الإقليم، فقبلوا. وبعد عام تولى شي رئاسة جمعية الصداقة الصينية- السوفياتية في الشمال الغربي.
في وقت ولد فيه شي جينبينغ نفذ الحزب الشيوعي الصيني أول حملة تطهير كبرى له، وهو حدث يرتبط ارتباطاً وثيقاً بكل من الاتحاد السوفياتي وعائلة شي. كان غاو غانغ وهو مسؤول رفيع المستوى نظر إليه على أنه خليفة محتمل لماو، قد تمادى أكثر من اللازم في انتقاداته للقادة الآخرين خلال محادثات خاصة. فانقلب ماو على تلميذه غاو الذي انتحر في النهاية. وكانت تربط غاو علاقات وثيقة بموسكو، وعلى رغم أن ذلك لم يكن السبب وراء حملة التطهير في ذلك الوقت فإن ماو شعر بالقلق في شأن مثل هذه العلاقات واعتبر أنها قد تصنف خيانة. وكان شي تشونغ شيون يدرك بلا شك أخطار إقامة روابط وثيقة مع قوة أجنبية، حتى لو كانت حليفة، إذ إنه خدم إلى جانب غاو في الشمال الغربي وتعرض للاضطهاد معه في عام 1935، وفي الواقع كاد يواجه نفس مصيره.
وعلى رغم النكسة التي تعرضت لها مسيرة شي تشونغ شيون المهنية بسبب سقوط غاو، فإنه عُين لاحقاً مسؤولاً عن الإشراف على عشرات الآلاف من الخبراء السوفيات الذين أرسلوا لمساعدة الصين في إعادة الإعمار بعد أعوام الحرب. ولم تكن تلك المهمة سهلة. وكما ذكر شي في خطاب ألقاه عام 1956، فإن هؤلاء الخبراء واجهوا صعوبة في التأقلم مع الصين، وبعضهم تعرض لحالات "وفاة وتسمم وإصابات وأمراض وسرقة"، لا بل حتى حالات انتحار. وعندما قرر ماو في العام نفسه أن البنية السياسية الصينية كانت "سوفياتية" للغاية، فركز درجة كبيرة من السلطة في بكين، كلفت القيادة شي أيضاً وضع خطة لإعادة هيكلة الحكومة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الانفصال
في أغسطس (آب) وسبتمبر (أيلول) 1959، قاد شي تشونغ شيون الذي كان آنذاك نائباً قوياً لرئيس مجلس الدولة، وفداً إلى الاتحاد السوفياتي. لم يكن التوقيت مناسباً. ففي يونيو (حزيران)، تراجع السوفيات عن وعدهم بدعم برنامج الأسلحة النووية الصيني. وكان من المفترض أن يزور شي الاتحاد السوفياتي في وقت سابق من صيف ذلك العام، لكن الخطط تعطلت بعد جلسة مكتملة النصاب عقدتها اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني في لوشان، إذ تم طرد وزير الدفاع بنغ دهواي. كان بنغ قد كتب رسالة إلى ماو ينتقد فيها "القفزة العظيمة للأمام"، ولم يكتف ماو بتفسير تصرف بنغ هذا على أنه إهانة شخصية، بل اشتبه أيضاً، على نحو خطأ، في أن الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف هو الذي دفعه للقيام بذلك. وكانت تربط بين بنغ وشي علاقات مهنية نشأت في ساحة المعركة في شمال غربي الصين. وعلى غرار الأولى، كانت حملة التطهير الكبرى الثانية التي قام بها الحزب الشيوعي الصيني مرتبطة بعائلة شي وبشكوك ماو في النيات السوفياتية. ومرة أخرى، نجا شي تشونغ شيون بأعجوبة من الإقصاء السياسي.
منذ عام 1956، كانت التوترات الصينية السوفياتية تتزايد تدريجاً خلف الكواليس، لكنها أصبحت علنية خلال رحلة شي. وفي الـ25 من أغسطس [عام 1959]، وهو نفس اليوم الذي وجهت فيه السفارة السوفياتية في بكين دعوة إلى شي لزيارة الاتحاد السوفياتي، قتل الجنود الصينيون جندياً هندياً وأصابوا آخر بجروح على الحدود الصينية الهندية. وعلى رغم أن الصينيين استنتجوا أن الوفيات كانت نتيجة لحادثة عرضية، فإن ذلك أثار غضب السوفيات، خوفاً من أن العنف قد يدفع الهنود بعيداً من الكتلة الشيوعية ويحبط محاولات خروتشوف الرامية إلى تحقيق سياسية الانفراج مع الغرب خلال رحلته المقبلة إلى واشنطن.
وعندما وصل شي إلى موسكو بعد يومين من أعمال العنف على الحدود، بذل قصارى جهده لتأكيد التحالف. وفي اجتماع خاص مع نائب رئيس الوزراء السوفياتي، حاول إضفاء لمسة إيجابية على القفزة العظيمة للأمام التي أطلقها ماو، وكان قد مر عليها عام واحد. وزار معرض الإنجازات الاقتصادية الوطنية، وهو معرض للانتصارات التكنولوجية السوفياتية، ووضع إكليلاً من الزهور على ضريح أول زعيمين للاتحاد السوفياتي، فلاديمير لينين وجوزيف ستالين. وبعد قضاء بضعة أيام في أوكرانيا السوفياتية وتشيكوسلوفاكيا، عاد شي إلى موسكو، إذ قام وفده بجولة في مكتب لينين القديم وشقته في قصر الكرملين الكبير. ومن الواضح أنه أخبر ابنه عن تلك اللحظة: في عام 2010، عندما زار شي جينبينغ موسكو بصفته نائباً للرئيس، طلب من الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف أن يأخذه إلى نفس الغرفة. ووفقاً لخبير روسي يتمتع بعلاقات قوية، قضى شي وقتاً طويلاً هناك، وأخبر ميدفيديف أن هذا المكان كان مهد البلشفية. وزعم شي أن والده قال إن روسيا والصين يجب أن تكونا صديقتين دائماً.
ومع ذلك، في عام 1959، واجه شي تشونغ شيون وسط متدهورة في العلاقات الصينية والسوفياتية. ففي التاسع من سبتمبر، في بكين، أبلغ الدبلوماسيون السوفيات الصينيين أنهم ينوون نشر بيان في وكالة "تاس" الروسية للأنباء، المملوكة من الدولة، والمتخذة موقفاً محايداً في شأن المناوشات الحدودية بين الصين والهند. فأثار الموضوع غضب الصينيين وطلبوا من السوفيات تغيير البيان أو تأخيره. لكن السوفيات لم يكتفوا برفض طلب الصينيين فحسب، بل نشروا البيان في الليلة نفسها. ونتيجة لذلك، غادر شي إلى بكين في اليوم التالي مباشرة، على رغم أنه كان من المفترض أن يستمر في قيادة الوفد حتى الـ18 من سبتمبر. وعندما التقى ماو وخروتشوف في الشهر التالي، اشتكى ماو مما حدث قائلاً "إن بيان وكالة تاس جعل كل الإمبرياليين سعداء".
وكان هذا النزاع أول صدع علني في التحالف. ففي صيف عام 1960، سحب خروتشوف جميع الخبراء السوفيات من الصين، وكلف شي بالإشراف على مغادرتهم. وكان الدرس الذي استخلصه ابنه من هذه الحادثة هو أن الصينيين في حاجة إلى الاعتماد على أنفسهم. وفي اجتماع عقد في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 في بالي، وفقاً لدبلوماسي أميركي كبير سابق، أخبر شي جينبينغ الرئيس الأميركي جو بايدن أن القيود التكنولوجية الأميركية ستفشل، مشيراً إلى أن إيقاف السوفيات للتعاون التكنولوجي لم يمنع الصين من تطوير أسلحة نووية خاصة بها.
علاقات متقلبة
وفي عام 1962، لم يعد الحظ يحالف شي تشونغ شيون، وأقيل من السلطة في حملة التطهير الكبرى الثالثة التي نفذها الحزب الشيوعي الصيني. تماماً مثل "غاو" و"بنغ"، اتهم بالتجسس لصالح الاتحاد السوفياتي، على رغم أن ذلك لم يكن السبب الرئيس لعقوبته. في الواقع، قرر ماو أن الصين، على غرار الاتحاد السوفياتي قبلها، بدأت تبتعد عن التركيز على الصراع الطبقي، ووقع شي ضحية الدمار الذي أحدثته ردود فعل ماو. في عام 1965، بينما كان ماو يخطط لعملية إعادة تنظيم مكلفة للمجتمع الصيني في سبيل خوض حرب محتملة ضد الاتحاد السوفياتي أو الولايات المتحدة، نفي شي من بكين إلى مصنع لآلات التعدين على بعد مئات الأميال في مدينة لويانغ. ومن عجيب المفارقات أن هذا المصنع أنشئ بمساعدة خبراء سوفيات، حتى إن إحدى الصحف المحلية وصفته بأنه "تجسيد للصداقة الصينية السوفياتية الوثيقة".
في المحصلة، قضى شي تشونغ شيون 16 عاماً في مجاهل الساحة السياسية. ولم يسترجع مكانته السابقة حتى عام 1978، أي بعد عامين من وفاة ماو. وباعتباره رئيساً للحزب في مقاطعة قوانغدونغ، حذر شي الأميركيين من أنهم في حاجة إلى أن يكونوا أقوياء لدرء العدوان السوفياتي. وفي رحلة إلى الولايات المتحدة في عام 1980، أثار إعجاب نظرائه الأميركيين بآرائه المناهضة للسوفيات، حتى إنه زار مقر قيادة الدفاع الجوي لأميركا الشمالية، أو "نوراد" في كولورادو، إذ دوَّن ملاحظات مفصلة. وبصفته عضو المكتب السياسي المسؤول عن إدارة العلاقات مع الأحزاب الأجنبية التي كانت ثورية أو يسارية أو شيوعية بطبيعتها، ساعد شي في قيادة منافسة بكين على النفوذ مع موسكو في جميع أنحاء العالم. علاوة على ذلك، أدار شؤون التبت، وفي النصف الأول من الثمانينيات، كان قلقاً في شأن النفوذ السوفياتي على الدالاي لاما. ولكن بحلول عام 1986، مع تحسن العلاقات، أشاد شي بإصلاحات الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف وأعرب عن أمله في تحسين العلاقات.
كيف أثر هذا السياق التاريخي على شي جينبينغ؟ في عام 2013، في أول رحلة له إلى الخارج بعد أن أصبح زعيماً كبيراً، ذهب إلى روسيا، إذ تحدث بحرارة إلى مجموعة من خبراء في الشؤون الصينية حول زيارة والده عام 1959. وقال إن صور تلك الرحلة أتلفت خلال الثورة الثقافية، لكن والدته احتفظت بالهدايا من الرحلة. وأوضح شي أنه على رغم أن عدداً كبيراً من المراقبين يعتقدون أن جيله كان أكثر توجهاً وميلاً نحو الغرب، فإنه نشأ وهو يقرأ الأدبين الصيني والروسي. وبعد نفي شي إلى الريف باعتباره من "الشباب المرسلين من المناطق الحضرية" خلال الثورة الثقافية [مجموعة من شباب المناطق الحضرية في الصين الذين أرسلوا إلى المناطق الريفية كجزء من حركة ماو تسي تونغ الاجتماعية والسياسية بهدف إعادة تثقيفهم من خلال تعريضهم لصعوبات الحياة الريفية والعمل، وكذلك غرس الحماسة الثورية والولاء للحزب الشيوعي]، أمضى أيامه في قراءة الروايات الثورية الروسية، وكانت روايته المفضلة "ما العمل؟" للمؤلف نيكولاي تشيرنيشيفسكي. وزعم شي في وقت لاحق أنه معجب بشخصية رحمتوف [إحدى شخصيات رواية "ما العمل؟"]، المتعصب الثوري الذي كان ينام على المسامير لتقوية عزيمته. وقال شي إنه كان يتجول خلال العواصف الممطرة والثلجية في فترة وجوده في الريف، معتبراً أن ذلك كان بمثابة مصدر إلهام له.
ولكن في حديثه عام 2013 مع الخبراء الروس المتخصصين في الشؤون الصينية، لم يذكر الحالة المزرية للعلاقات الصينية- السوفياتية في وقت قراءته للأدب الروسي. في عام 1969، وهو العام نفسه الذي أرسل فيه إلى الريف، خاضت الصين والاتحاد السوفياتي حرباً حدودية غير معلنة، وكانت هناك مخاوف من وقوع هجوم نووي سوفياتي. علاوة على ذلك، لم يخبرهم عن وظيفته الأولى بعد تخرجه في الجامعة، حينما عمل سكرتيراً لجينغ بياو الأمين العام للجنة العسكرية المركزية. في الواقع، كان جينغ ينظر إلى موسكو بحذر وقلق. وفي عام 1980، خلال اجتماع في بكين، علق وزير الدفاع الأميركي هارولد براون قائلاً لجينغ إنه في ما يتعلق بوجهة نظر الجانبين في شأن الاتحاد السوفياتي، "يبدو لي أن موظفينا تعاونوا في كتابة خطاباتنا".
العامل الأيديولوجي المؤدي إلى الانقسام
نظراً لحالة العلاقات بين روسيا والصين والولايات المتحدة اليوم، فمن الصعب أن نتخيل أن شي جينبينغ أمضى جزءاً من سنوات مراهقته يحفر ملجأ للاحتماء من الغارات الجوية تحسباً لهجوم سوفياتي محتمل أو إن والده تلقى دعوة لزيارة القيادة الشمالية للقوات الجوية الأميركية "نوراد". إن الطبيعة الديناميكية المتغيرة للعلاقات بين روسيا والصين والولايات المتحدة على مدى الأعوام الـ75 الماضية دفعت البعض ليعقدوا الآمال على إمكانية إقناع شي بطريقة أو بأخرى بالحد من دعمه لروسيا. ولكن أولئك الذين يرغبون في إعادة إحياء الانقسام بين الصين والاتحاد السوفياتي من المحتمل أن يصابوا بخيبة أمل.
أحد الأسباب هو أن العامل الأيديولوجي المؤدي إلى الانقسام أصبح غائباً عن العلاقة إلى حد كبير اليوم. في الحقيقة فإن الأيديولوجية الشيوعية المشتركة كانت بمثابة رابط استثنائي بين الصين وروسيا في الأعوام التي تلت عام 1949 مباشرة. ولكن مع مرور الوقت، صعبت الأيديولوجيا على البلدين مهمة إدارة خلافاتهما. وكان ماو معتاداً على تفسير الاختلافات التكتيكية باعتبارها انقسامات أيديولوجية أعمق. وأصبح يعتقد على نحو متزايد أن السوفيات لم يدعموا موقف الصين القتالي تجاه الغرب لأنهم تحولوا إلى اعتماد نهج "رجعي". وبين الشيوعيين، كانت الاتهامات بالهرطقة النظرية مثيرة للجدل. عندما تشاجر ماو وخروتشوف حول بيان وكالة "تاس" في أكتوبر 1959، كان ادعاء وزير الخارجية الصيني تشين يي بأن السوفيات كانوا "انتهازيين" هو ما أغضب خروتشوف خصوصاً، إذ شكك في مؤهلاته الشيوعية من خلال تصويره على أنه خائن للمشروع الثوري. بالتالي، فإن ادعاء المؤرخ لورينز لوثي بأنه "لولا الدور الحيوي الذي تلعبه الأيديولوجيا، ما كان التحالف لينشأ أو ينهار"، هو حقيقي إلى حد بعيد.
تعتبر النخب الصينية والروسية أن الترويج للديمقراطية يشكل تهديداً وجودياً.
علاوة على ذلك، بمجرد دخول الخلافات الأيديولوجية إلى المعادلة، أصبح من الصعب الحديث عن أي شيء آخر، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن المناقشات حول الأيديولوجيا قد تنطوي ضمناً على دعوات لتغيير النظام. في عام 1971، بعد محادثة مثمرة نسبياً مع اثنين من الدبلوماسيين السوفيات، انفجر رئيس مجلس الدولة الصيني تشو إن لاي غضباً عندما ذكر أحدهما قضية مقال في صحيفة الشعب اليومية "بيبولز دايلي"، يدعو الشعب السوفياتي، باعتقادهما، إلى البدء بثورة. وأشار تشو إلى أن الاتحاد السوفياتي كان يستضيف وانغ مينغ، أحد زعماء الحزب الشيوعي الصيني الأوائل الذين تصادموا مع ماو وتعرضوا للنفي فعلياً. قال تشو "هل تعتقدون أننا نخافه. إنه أسوأ من القذارة!" وعندما طلب دبلوماسي سوفياتي من أحد المشاركين الصينيين أن يتوقف عن الصراخ بحجة أن "الصراخ ليس طريقة مناسبة للنقاش"، رد الدبلوماسي الصيني: "الصراخ هو الوسيلة الوحيدة لتستمعوا إلينا".
على أي حال، أقل ما يقال عن روسيا اليوم، هو أنها بعيدة كل البعد من المثل الشيوعية. وعلى رغم أن بوتين وصف ذات يوم انهيار الاتحاد السوفياتي بأنه "كارثة جيوسياسية"، فإنه أعرب في كثير من الأحيان عن وجهات نظر سلبية إلى حد ما تجاه الحزب الشيوعي السوفياتي. في خطابه عشية الغزو الروسي لأوكرانيا، ألقى باللوم على لينين في خلق أوكرانيا الحديثة وتحدث عن "ديكتاتورية" ستالين و"نظامه الشمولي". في المقابل، يواصل شي جينبينغ أخذ إرث الشيوعية على محمل الجد. ووفقاً لدبلوماسي أسترالي، فقد وجد الدبلوماسيون الروس الأمر غريباً عندما اقتبس شي في إحدى المناسبات من الرواية الثورية الروسية "كيف سقينا الفولاذ". وعلى رغم أنه ليس عقائدياً، فإن شي يكترث للأيديولوجية بشدة، حتى إنه ألقى اللوم جزئياً في انهيار الاتحاد السوفياتي على فشل موسكو في جعل الناس يأخذون الماركسية اللينينية على محمل الجد.
على رغم هذه الاختلافات المهمة، تتشارك النخب الصينية والنخب الروسية وجهة نظر عالمية محافظة وقائمة على سيطرة الدولة. يرى كلاهما أن الهجمات على تاريخهما هي مؤامرات غربية تهدف إلى نزع الشرعية عن أنظمتهما ويعدان الترويج للديمقراطية تهديداً وجودياً. ويقدر كلاهما القيم التقليدية باعتبارها حصناً ضد عدم الاستقرار ويعتقدان أن الغرب يدمر نفسه بالمناقشات الثقافية. وقد خلص كلاهما إلى أن الأنظمة الاستبدادية أفضل في التعامل مع التحديات الحديثة. وكلاهما يريد أن يستعيد بلداهما المكانة المفقودة والأراضي المفقودة. بل إن بوتين وشي يروجان للسرد التبريري ذاته، زاعمين أن أسلافهما سمحوا بتدهور لا يحتمل في السلطة (بتأثير من الغرب)، ولا يستطيع إيقافه إلا حكم القائد الحازم [حكمهما الاستبدادي].
العلاقات الفردية
هناك عامل آخر يربط بين موسكو وبكين اليوم وهو العلاقات الودية بين بوتين وشي. تروج وسائل الإعلام الصينية والروسية للعلاقة الشخصية القوية بين الزعيمين، على رغم أنه من الصعب تحديد مدى صدق هذه الصداقة المفترضة. تدرب بوتين كعميل للاستخبارات السوفياتية (كي جي بي)، وهي تجربة علمته كيف يدير الناس، وربما تعلم شي حيلاً مماثلة من والده الذي أتقن استراتيجية "الجبهة الموحدة" التي انتهجها الحزب لاستمالة المشككين. ويذكر أن بوتين وشي شخصان مختلفان للغاية. كسر بوتين ذراعه ذات مرة أثناء شجار مع مجرمين في مترو أنفاق لينينغراد. في المقابل، أظهر شي جينبينغ على نحو مستمر درجة غير عادية من ضبط النفس، بحسب ما اتضح من قدرته على الصعود إلى السلطة من دون أن يعرف أحد ما كان يفكر فيه حقاً. ويتمتع بوتين بحياة مترفة، في حين يبدو أسلوب حياة شي الشخصي أقرب إلى الزهد. ولكن في أقل تقدير، فإن أي علاقة فعالة بين القادة الروس والصينيين تشكل شذوذاً تاريخياً.
بالنسبة إلى ماو، فإن مؤهلات ستالين الأيديولوجية ومساهماته في التاريخ السوفياتي جعلت منه جباراً في عالم الشيوعية. ومع ذلك، فإن موقف ستالين الحذر تجاه الثورة الصينية في النصف الثاني من الأربعينيات أثار غضبه. وينطبق الشيء نفسه على غطرسة ستالين أثناء المفاوضات في شأن معاهدة التحالف بين البلدين في عامي 1949 و1950. بعد وفاة ستالين، شعر ماو أن مكانته أعلى بكثير من مكانة خروتشوف، ومن المعروف أن الرئيس عامل نظيره السوفياتي بازدراء.
واستكمالاً، تأثر ماو بالحزم الذي أظهره تلميذه دينغ شياو بينغ خلال المناقشات الأيديولوجية المطولة في موسكو في ستينيات القرن الـ20، عندما كان دينغ أبرز المدافعين الشرسين عن بكين على المسرح العالمي. بعد وفاة ماو، لاحظ دينغ أن الدول القريبة إلى الاتحاد السوفياتي كانت تعاني خللاً اقتصادياً، في حين ازدهر حلفاء الولايات المتحدة. وبحلول وقت أصبح فيه دينغ القائد الأعلى للصين، كان كثير من رفاقه يأملون في تحسين العلاقات مع موسكو، لكن دينغ تجاهل تلك الأصوات، ولم يلتق بغورباتشوف إلا مرة واحدة فحسب، خلال احتجاجات ميدان تيانانمن، وخلص دينغ إلى أن الزعيم السوفياتي كان "أحمق". في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي وبعد أن أصبح بوريس يلتسين رئيس روسيا، كان الصينيون في البداية متشككين حوله، نظراً للدور الذي لعبه في القضاء على الشيوعية، لكن العلاقات بين كبار القادة تحسنت تدريجاً. كان خليفة دينغ، جيانغ زيمين، قد درس في الاتحاد السوفياتي وكان يشعر بالحنين إلى حقبة الصداقة الصينية السوفياتية القديمة.
في الواقع، ليست العلاقات الشخصية الودية هي السبب الرئيس وراء التقارب الشديد بين روسيا والصين اليوم، لكن الماضي يظهر بكل تأكيد تأثير القادة الأفراد عندما يشعرون بالازدراء تجاه نظرائهم والدول التي يقودونها. وعلى رغم الاختلافات بينهما، ليس من الصعب تخمين السبب وراء اتفاق بوتين وشي على المستوى الشخصي. إنهما في نفس العمر تقريباً، ووالداهما قدما تضحيات من أجل بلديهما. ولعل الأمر الأكثر أهمية هو أن كليهما خاض تجارب مؤثرة حول أخطار عدم الاستقرار السياسي مما أسهم في تكوين شخصيتهما. خلال الثورة الثقافية، اختطف شي وعائلته وتعرضوا للضرب على يد الحرس الأحمر لماو، وفي عام 1989، شاهد بوتين الذي كان آنذاك ضابطاً في الاستخبارات السوفياتية المتمركزة في دريسدن، ألمانيا الشرقية تنهار من حوله من دون أن يتمكن من الحصول على الإرشاد من موسكو. إذاً، لديهما كثير للحديث عنه عندما يصنعان فطائر بليني الروسية وزلابية الدمبلينغ الصينية معاً أمام كاميرات التلفزيون.
فريق واحد
إن المرونة الأكبر في الشراكة بين بكين وموسكو اليوم تمنح هذه العلاقة صلابة أكبر مما كانت عليه في الماضي. منذ عام 1949، كان التحدي الاستراتيجي الأساس يتمثل في إيجاد طريقة مناسبة تمكن هاتين القوتين اللتين تشكلان معاً النواة الاستبدادية لأوراسيا، من التعاون بصورة فعالة ضد التهديد القادم من المناطق الديمقراطية الخاضعة لتأثير واشنطن. على رغم أن الولايات المتحدة تتمتع بنفوذ قوي للغاية في المناطق المحيطة بالصين وروسيا، فقد وجدت بكين وموسكو صعوبة في التنسيق بنجاح. وقد أثبت كل منهما مراراً وتكراراً عدم رغبته في التضحية بمصالحه من أجل الآخر، ويرجع ذلك جزئياً إلى الشكوك المتبادلة في أن الطرف الآخر سيخون التحالف ويسعى إلى تحسين العلاقات مع الغرب.
قبل الانقسام الصيني السوفياتي، فرض التحالف بين موسكو وبكين تحديات حقيقية على الولايات المتحدة وخلق فوائد حقيقية للقوتين. وقد سمح الهدوء على الحدود بين البلدين بالتركيز على مواجهة الغرب وتبادل التكنولوجيا العسكرية. في عام 1958، عندما هاجمت الصين تايوان في محاولة للسيطرة على الجزيرة، هب خروتشوف لمساعدة بكين من خلال التحذير علناً من أنه سيتدخل لحماية الصين إذا دخلت الولايات المتحدة في الصراع، على رغم أنه كان مستاء من أن بكين لم تخبره عن خططها مقدماً.
ومع ذلك، فإن العلاقة بين قلب أوراسيا [أي الصين والاتحاد السوفياتي] والأطراف [أي الولايات المتحدة وحلفائها] كانت دائماً عبارة عن مزيج من التعايش والمنافسة، ونادراً ما نجحت موسكو وبكين في تحقيق التوازن بين هذين الهدفين المتعارضين. خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كانت الصين مستبعدة في الواقع عن النظام الدولي في حين كان الاتحاد السوفياتي في الغالب قوة تسعى إلى الحفاظ على الوضع الراهن. أثارت لغة ماو المستهترة التي تهدد بالحرب النووية، إلى جانب استخدامه للقوة على الحدود الصينية الهندية وضد الجزر البحرية في مضيق تايوان، مخاوف في الكرملين من أن الصين ستجر الاتحاد السوفياتي إلى الحرب. فدعمت موسكو معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، ورفضت مساعدة الصين خلال أزمات مختلفة، وأملت في تحقيق الانفراج مع الغرب، وهي تحركات دفعت الزعماء في بكين إلى الاستنتاج بأن موسكو تعطي الأولوية لعلاقتها مع الغرب على حساب الكتلة الشيوعية.
أما حاضراً، فالصين وروسيا تلعبان أدواراً معكوسة. تأمل بكين في تحقيق فوائد اقتصادية وتكنولوجية من العلاقات المستمرة مع الولايات المتحدة وأوروبا، بينما ترى موسكو نفسها في علاقة تنافسية بحتة. ومما لا شك فيه أن الروس يرغبون في أن تقدم بكين مساعدات فتاكة لحربهم في أوكرانيا وأن توافق على مشروع "قوة سيبيريا 2"، وهو خط الأنابيب المقترح الذي سيرسل الغاز الطبيعي إلى شمال شرقي الصين. لكن، خلافاً للوقت الذي كان فيه التحالف الصيني السوفياتي في أوج مجده، فإن بكين ليست ملزمة في الحقيقة بالتضحية بمصالحها الاقتصادية أو بسمعتها من أجل موسكو لأن البلدين ليسا حليفين رسميين. إذاً، فالروس لديهم أسباب أقل للشعور بالخيانة، والصينيون لديهم أسباب أقل للخوف من الوقوع في شرك التزامات غير مرغوب فيها.
دروس في التاريخ
باعتباره ابن الرجل الذي لعب دوراً محورياً في علاقة بلاده مع موسكو، فإن شي جينبينغ يفهم هذا السياق التاريخي بوضوح. لقد أظهر الماضي أخطار الاحتضان [أي التقارب] غير الحذر والعداء المطلق. والآن، يريد شي أن يحتفظ بكعكته ويلتهمها أيضاً، أي أن يقترب بالقدر الكافي من روسيا من أجل خلق مشكلات للغرب، ولكن ليس إلى حد يجعل الصين مضطرة إلى الانفصال عن الغرب تماماً. والقيام بذلك ليس بالأمر السهل، وقد يصبح أكثر صعوبة. وبطريقة موازية، تحاول واشنطن أن تعقد الأمور قدر الإمكان من خلال النظر إلى الصين وروسيا من نفس العدسة، وتصوير الصين (بصورة صحيحة) على أنها تسهل حرب روسيا في أوكرانيا. وقد فرض الصراع كلفاً حقيقية على سمعة بكين واقتصادها، على رغم امتناع بكين عن تلبية بعض طلبات موسكو.
إن التحديات موجودة في أي علاقة، وبخاصة بين القوى العظمى. وما يختلف عن الحرب الباردة هو أن القضايا الأيديولوجية والشخصية الشائكة لم تعد تؤدي إلى تعقيد إدارة مثل هذه التحديات. وفي غياب أحداث ذات تأثير كبير واحتمال حدوثها ضعيف، مثل استخدام سلاح نووي في أوكرانيا أو انهيار الدولة الروسية أو الحرب على تايوان، فمن المرجح أن تناور الصين ضمن المعايير العريضة التي سبق أن حددتها في علاقتها [مع روسيا]. في بعض الأحيان قد تقترح بكين إقامة علاقة أوثق مع موسكو، وفي أحيان أخرى قد تقترح إقامة علاقة أبعد، وهي تعدل رسالتها حسب الحاجة. من جانبها، قد تكون الولايات المتحدة، قادرة على التأثير في بعض حسابات الصين والحد من أنواع المساعدة التي تتلقاها روسيا. ولكن في المستقبل المنظور، من المرجح أن يكون نهج شي جينبينغ في التعامل مع العلاقات الصينية الروسية أكثر ثباتاً مما كان عليه في الماضي، لأنه ربما على نحو غير متوقع، يتجنب خطر التقرب المفرط.
*جوزيف توريجيان هو زميل باحث في معهد هوفر للتاريخ بجامعة ستانفورد وأستاذ في كلية الخدمات الدولية في الجامعة الأميركية.
مترجم من فورين أفيرز، 24 يونيو، 2024